مفعول ترامب دواء للكساد الإخباري / بقلم: كرم نعمة
عصر التلفزيون أصبح عصر ترامب بامتياز، وعاد التلفزيون إلى منصته المؤثرة أكثر من أي وسيلة إعلامية أو رقمية أخرى بفضل مفعول ترامب.
لم يجد محرر نشرة أخبار العاشرة، الأهم في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، غير خبر اختطاف قرد صغير من قبل أسرة أفريقية ومطاردة رجال الشرطة لأفرادها من أجل إطلاق سراح الحيوان المسكين قبل بيعه! لم يجد غير هذا الخبر كي يقحمه بين أخبار وتداعيات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي استحوذت على وقت النشرة برمتها تقريبا!
يبدو الاختيار سورياليًّا في عصر ترامب الإخباري بامتياز، لكن التعاطف مع محرر نشرة “بي بي سي” يجعلنا نفسر الأمر بأنه وقع تحت ضغط إطلاق نار الكلام المستمر بكل الاتجاهات من قبل ترامب، فلم يعد يهتم بغير ذلك من الأخبار.
دونالد ترامب يطلق نار التصريحات والقرارات في جميع الاتجاهات، والتلفزيون نشر عدساته في كل الأماكن كي يستحوذ على مشاهد إطلاق نار الكلام، وهل ثمة خبر أغلى وأهم من إطلاق النار؟
ديفيد غيرغن، المستشار السياسي للرؤساء السابقين نيكسون وفورد وريغان وكلينتون، يفسر ذلك بقوله “الأميركيون مصابون بالدهشة من الأيام الأولى من رئاسة ترامب كحال بقية العالم، الخبر السار لأنصاره هو أنه لم يتغير، هذا هو خبر سيئ من وجهة نظر منتقديه، الذين يأملون أن يصبح أكثر عقلانية ويتصرف بصورة تليق برئيس الجمهورية”.
وفي كل الأحوال ثمة خبر سيئ ملفت لوسائل الاعلام، حتى وإن صنف ضمن الأخبار السارة لمحبي ترامب!
عندما شاهد 84 مليون شخص المناظرة الأولى بين ترامب وهيلاري كلينتون، اُعتُبر الأمر حينها حدثا تاريخيّا بالنسبة إلى التلفزيون فيما يتعلق بمناظرة رئاسية.
لكن مثل هذا الرقم تضاعف مرات مع الدراما السياسية المتواصلة التي يقودها الرئيس الأميركي، الأمر الذي يمنح كبرى القنوات التلفزيونية في العالم فرصة عيش أفضل السنوات مشاهدة على الإطلاق، لقد رفع “مفعول ترامب” أرباح الشركات التلفزيونية كما لم تتوقع ذلك من قبل، ومن أجل زيادة الأرباح صار لِزامًا عليها أن تزيد تأثير “مفعول ترامب” التلفزيوني، إنه دواء للكساد الإخباري لم تنجح كل النظريات الإعلامية من قبل في التوصل إليه، لذلك لم يفكر محرر النشرة الإخبارية في “بي بي سي” كثيرا قبل أن “يحشر” خبر القرد الصغير بين حشد أخبار ترامب، لأنه حصل على الأهم من أخبار الدراما السياسية التي تربك العالم!
عندما كان ترامب مرشحا في السباق الرئاسي قال ستيف لانزانو، رئيس مكتب إعلان تلفزيوني يمثل ما يقارب 700 محطة محلية أميركية، “لا أعتقد على الإطلاق أننا سنحصل على مرشح آخر مثل هذا، الجميع سيجري دراسات الحالة الخاصة به، وبعد ذلك سنمضي قدما”.
أما اليوم فإن لانزانو سعيد إلى حدّ الإفراط وهو يعيش صحة ما توقعه قبل أشهر، وهذا ما عبر عنه بوضوح أيضا ليز مونفز، الرئيس التنفيذي لشبكة “سي بي إس” بقوله “إن مسار دونالد ترامب للبيت الأبيض قد لا يكون في مصلحة أميركا، لكن من المؤكد أنه أمر رائع لشبكة “سي بي إس”!
فقد ارتفعت التصنيفات بسبب إقبال المشاهدين على متابعة القنوات لرؤية الدراما السياسية وهي تتبيّن أن “الإيرادات تنهمر علينا، صحيح أنه أمر كريه حين أقول ذلك، لكن السبب في ذلك هو دونالد”.
ووفق شركة “إس إن إل كاجان” لتحليل وسائل الإعلام، من المتوقع أن تحصل أكبر ثلاث شبكات كابل إخبارية في الولايات المتحدة “إم إس إن بي سي” و”فوكس نيوز” و”سي إن إن”، على 1.96 مليار دولار من إيرادات الإعلانات هذا العام.
هكذا ببساطة صارت الشبكات الإخبارية التلفزيونية تسرق جمهور قنوات الدراما والمنوعات والترفيه، بفعل “مفعول ترامب”!
لأن الرئيس الجديد حطم الرقم القياسي في مفاجأة فوزه، والرقم القياسي في اتخاذ القرارات المفاجئة والمثيرة لإرباك الولايات المتحدة والعالم، هو أيضا حطم الرقم القياسي كأسرع رئيس يواجه رفضا شعبيا بعد أيام من جلوسه في البيت الأبيض، وكل تلك الأرقام القياسية موضع احتفاء متصاعد في التلفزيون، فليس هناك ما هو أكثر إغراء مثل لعبة الأرقام هذه لصناعة قصة إخبارية مشوقة، “بالمناسبة كل ما يصدر عن ترامب مشوق”، وهذا ما تفسره صحيفة ديلي تليغراف البريطانية بأنه في الأحوال العادية أي رئيس جديد يستغرق مئات الأيام في منصبه حتى يبدأ شعبه في تكوين الانطباعات السلبية حول سياساته ويَحدُث توافق عام على رفضها، وهذه كانت الحال مع الرؤساء الأميركيين الخمسة السابقين.
لكن مع ترامب الوضع ليس كذلك؛ فالملياردير ونجم التلفزيون السابق وحاليا رئيس الولايات المتحدة، تمكن من تحطيم كل الأرقام القياسية الخاصة بعدد الأيام التي يستغرقها المواطنون لتصل نسبة معارضيه إلى أكثر من 50 في المئة من الأميركيين.
وعن ماذا يبحث التلفزيون والمعلقون الإخباريون والصحافيون غير ارتفاع نسبة المعارضة والجدل الذي يثيره الرئيس؟
لكنْ هناك جانبا سلبيا لتأثير ترامب المغناطيسي على جمهور التلفزيون، وهو ما يصفه إعلاميون بمؤشر على بداية اتجاه عام، ينظرون إليه بحذر، أن تستحوذ الأفكار الإشكالية والقرارات المؤثرة على طبيعة تواصل الدول والشركات، وتتفاقم التظاهرات الغاضبة، وبعدها يُفك لجام اليمين المتطرف، في مشاهد مستمرة ومتواصلة على التلفزيون، هذا يعني أن صناعة رأي خطير تتولد لدى الجمهور في العالم.
بيل داي، مستشار شركات تلفزيونية كبرى في الولايات المتحدة فسر ذلك بالقول “لقد تشتّتَتْ القطع، ولن تعود أبدا إلى حيث بدأت، الآن يصبح السؤال المفتوح هو: من المستفيد من المشهد الجديد الذي سينبثق بعد ترامب؟”.
كل التكهنات لا أهمية لها مع تصاعد “مفعول ترامب” التلفزيوني، ليس هناك أي تاريخ يمكن أن نتطلع إليه لنعرف ماذا سيحدث، لكن عصر التلفزيون قد أصبح عصر ترامب بامتياز، وعاد التلفزيون إلى منصته المؤثرة أكثر من أي وسيلة إعلامية أو رقمية أخرى بفضل مفعول ترامب.