تلعفر مدينة التركمان أرض الفتنة المقبلة… ما لم تتداركها الحكومة وقوى الإقليم
في بيت صغير على الطريق الممتد بين كربلاء والنجف، يصارع علي احمد، التركماني الشيعي، لبناء حياة جديدة وتأمين عمل دائم وتشييد منزل، مثل مئات التركمان الذين فروا من محافظة نينوى عقب سيطرة «داعش» عليها، واستقروا في جنوب العراق. يقول احمد: «لن أعود.. لا أريد أن أستيقظ يوماً على كابوس إبادة جديد».
عائلة أحمد المؤلفة من ستة أشخاص، تؤيد قراره في الاستقرار بموطنهم الجديد، والتخلي عن فكرة العودة مستقبلاً الى مدينتهم السابقة تلعفر والتي فقدوا فيها 13 فرداً من أقاربهم وأصدقائهم. يقول ابنه الذي بلغ الـ28 من عمره: «سنتحمل كل صعوبات الاندماج نتيجة اختلاف اللغة والعادات وقلة فرص العمل والمتطلبات الأمنية. لقد نجونا في المرات السابقة من الموت لكن دورته المستمرة هناك قد تحصدنا … لا نريد ذلك».
في حزيران (يونيو) 2014، ما إن استولى «داعش» على نينوى، حتى باشر تهجير التركمان الشيعة الذين يعتبرون في حكم التنظيم «خارجون عن الدين» يحلُّ قتلهم، مهدداً بذلك وجود غالبية التركمان، القومية الثالثة، في ثاني أكبر محافظات البلاد.
خلفت عمليات «داعش» خلال ايام، وفق «مؤسسة إنقاذ التركمان» التي تتابع ملف ضحايا التنظيم، نحو 1200 حالة اختطاف لمواطنين تركمان جُلهم من تلعفر، بينهم 120 طفلاً ونحو 450 امرأة وفتاة. كما وثقت المؤسسة ذاتها، مقتل 416 تركمانياً في نينوى وإصابة 746 آخرين في مجمل محافظة نينوى التي فرّ منها أكثر من 200 ألف تركماني وأكثر من 360 ألف إيزيدي، وفق نواب ومنظمات مجتمع مدني.
ينتشر التركمان بمحافظة نينوى، في قضاء تلعفر ونواحٍ تابعة إدارياً لمركز الموصل ويُقدر عددهم بنحو 250 ألف نسمة، بينهم نحو 125 ألف شيعي في مركز تلعفر، ونحو 75 ألفاً في الرشيدية وشريخان وسهل نينوى، إلى جانب نحو 50 الفاً في قرى ومجمعات تابعة لسنجار وتلعفر، وفق منظمات تركمانية.
تاريخ الحرب الديموغرافية
طبيعة تلعفر التركمانية السنية والشيعية، وموقعها القريب من الحدود السورية والتركية، ومن إقليم كردستان، جعلها بعد 2003 إحدى نقاط الصراع الإقليمي كما كانت نقطة ساخنة للصراع المذهبي بين القوى العراقية.
تلك الصراعات خلقت انقساماً داخلياً عميقاً بين تركمان تلعفر من الطائفتين، ترجم الى تصفيات متبادلة امتدت حتى حزيران 2014 حين سيطر «داعش» على المدينة «مدعوماً بمقاتلين من التركمان السنّة» من أبناء المدينة، وهو ما يجعل «العودة الى قاعدة التعايش صعبة» بخاصة مع اشتداد الاستقطاب الطائفي وتصاعد تدخلات الدول الاقليمية.
فمحافظ نينوى السابق إثيل النجيفي، اعتبر في حديث صحافي له مطلع 2016، أن سقوط نينوى كان جزءاً من محاولات إيران لإحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة لتأمين خطوط تواصل لها الى سورية عبر العراق، مؤكداً أن إيران تريد السيطرة على تلعفر. وهو رأي يتردد في الأوساط السنية التي تتحدث عن «هلال شيعي» يمتد من إيران الى سورية عبر العراق، أحد مرتكزاته تلعفر.
وتبدي تركيا اهتماماً كبيراً بما كان يعرف في العهد العثماني بولاية الموصل التي تضم تلعفر أيضاً، وهي تعتبر حماية التركمان «واجباً قومياً»، وقد سعت بوسائل عدة الى المشاركة في معركة الموصل بينها استقدام قوات عسكرية الى سهل نينوى بحثاً عن دور لها في رسم مستقبل المدينة المتنازع عليها.
المراقب السياسي للوضع في تلعفر جمال حسن، ينبه الى عمليات القتل المحتملة: «تلعفر ليست الفلوجة ولا الرمادي ولا تكريت، تلك مدن سنّية خالصة ومن تورط مع «داعش» هناك كانوا اناساً متشددين او طلاب مصالح من مختلف العشائر، بالتالي فإن تجاوز المشكلة يمكن أن يكون أسهل ولن تكون هناك انتقامات واسعة. لكن في تلعفر الأمر مختلف، فالمدينة مقسمة طائفياً، وهنا الحديث عن مصالحات داخلية مستحيل، فالضحايا هم من مذهب واحد ويتهمون أبناء المذهب الآخر».
وينخرط متطوعون تركمان من شيعة تلعفر، في أحد تشكيلات الحشد الشعبي تحت مسمى لواء محور نينوى (لواء الحسين) والذي يضم نحو ألفي مقاتل. وهناك عناصر من تركمان شيعة تلعفر منضوين تحت تشكيلات عديدة للحشد الشعبي كفرقة «العباس» و «عصائب أهل الحق» و «سرايا السلام» و «حزب الله».
الانتهاكات ومخاوف تكررها
رصد صحافيان ساهما في إنجاز هذا التحقيق خلال جولات تقصي في مناطق نينوى والأنبار حالات تهجير متكررة لعوائل يقول مسؤولون في الحشد أن أبناءها تورطوا في الانتماء الى «داعش» في مناطق نينوى والأنبار.
تقول حمدة وهي امرأة من الموصل، في الخمسين من عمرها وتقيم في إحدى قرى جنوب الموصل «سلمت ابني بيدي للقوات الأمنية بعد تحرير قريتنا، لأنه بايع «داعش» وعمل معهم لمدة شهرين فقط وتركهم من دون أن يقاتل الى جانبهم… سلمته لكي أحمي شقيقه الآخر من انتقام من لهم ضحايا على يد «داعش».
على رغم ذلك لم تحصل حمدة على الأمان وظلت حياة ابنها الآخر مهددة، تضيف: «قام عناصر الحشد العشائري (جماعات مسلحة سنية) باجبارنا على مغادرة القرية وترك بيتنا، وهذا حدث مع آخرين… والقوات الأمنية أبلغتنا بعجزها عن حماية ابني من انتقام العشائر والأفضل لنا ترك القرية، والآن نحن تحت خيمة في مخيم جدعة».
حسنة، التي تعيش في المخيم ذاته، واجهت الأمر ذاته «أخي كان مع «داعش» وقاتل معه وقُتل لذا اتهموا العائلة كلها بموالاة التنظيم، وحتى بعد موته لم يتركونا بحالنا، رحلوني مع والدتي ووالدي المسنين، ومنعونا من أخذ أي شيء من بيتنا».
واتهمت منظمة العفو الدولية، في تقرير نشر في مطلع 2017 تحت عنوان «العراق: غض الطرف عن تسليح ميليشيات الحشد الشعبي»، جماعات مسلحة تعمل تحت مظلة الحشد الشعبي بتنفيذ عمليات إعدام وتعذيب واختطاف، وارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني «بما في ذلك جرائم حرب… دونما أدنى خشية من العقاب».
وأكدت المنظمة انه «منذ حزيران 2014، أعدمت ميليشيات الحشد الشعبي خارج نطاق القضاء، أو قتلت على نحو غير مشروع، وعذبت واختطفت آلاف الرجال والصبيان» وبعض هؤلاء تم اقتيادهم من «بيوتهم أو أماكن عملهم، أو من مخيمات النازحين داخلياً، أو لدى مرورهم على حواجز التفتيش، أو من أماكن عامة أخرى» و «الآلاف منهم لا يزالون في عداد المفقودين، على رغم مرور أسابيع وأشهر وسنوات على اختطافهم».
وسبق للمنظمة أن أكدت حصول جرائم وانتهاكات لحقوق الانسان في معركة استعادة الفلوجة (50 كلم غرب بغداد) في أيار (مايو) 2016، وأشارت الى وجود أفلام تظهر حصول انتهاكات، وفيديو لقائد جماعة مسلحة يخاطب حشداً من المقاتلين وهو يصف الفلوجة بمنبع الإرهاب وأنه لم يبقَ في المدينة مدنيون أو مسلمون حقيقيون.
كما أكدت منظمات دولية حصول انتهاكات في عملية استعادة بلدة آمرلي التابعة لمدينة طوزخورماتو في محافظة صلاح الدين. وقالت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إن لديها ما يثبت أن الحشد الشعبي نهب ممتلكات للمدنيين السُنة الذين فروا بسبب القتال، وأحرق منازل ومحال، ودمر على الأقل قريتين.
تقسيم المدينة الى جزءين
الخوف من «تداعيات» مشاركة الحشد الشعبي، تنعكس في تصريحات القادة السنّة التركمان، فرئيس الجبهة التركمانية العراقية أرشد الصالحي، أبدى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 قلقه من اقتراب قوات الحشد الشعبي وقرب محاصرتها تلعفر ويقول «نخشى من وقوع أحداث غير مرغوب فيها».
وأعرب النائب التركماني بالبرلمان الكردستاني آيدن معروف، عن مخاوفه من تنفيذ الحشد عملية تحرير تلعفر، وقال: «نرفض مشاركته في عمليات تسبب حرباً طائفية»، محذراً من محاولات إحداث تغيير ديموغرافي فيها.
تلعفر السنية – الشيعية
على رغم التطمينات التي يقدمها قادة الحشد، في شأن أي مشاركة لهم في استعادة تلعفر وحفظ الأمن فيها، فإن قوى سنية عراقية ودولاً إقليمية تتخوف من ذلك، وتحذر من تصفيات دامية ستقع في المدينة، مطالبة بمشاركة الجيش حصراً مع ضمانات من جهات دولية لمنع إحداث أي تغيير ديموغرافي. لكن مقاتلين كثراً في الحشد يبدون امتعاضهم.
يتناقل مسؤولون تركمان أرقاماً مختلفة في شأن المقاتلين الأجانب والعرب الذين اسكنوا في تلعفر بعد سيطرة «داعش» عليها، فالنائبة التركمانية نهلة الهبابي أشارت الى إسكان 300 عائلة أجنبية من مقاتلي التنظيم في بيوت الشيعة في أوج قوة التنظيم خلال العام 2015. وتمَّ إهداء مئات المنازل للمقاتلين القادمين من سورية او مناطق عراقية أخرى وفق عضو الهيئة التنفيذية في الجبهة التركمانية نور الدين قبلان، بينها منزل قبلان. كما حولت عشرات المنازل الى مقرات أمنية ومخازن للسلاح والمؤن.
يبدي عبدالله داود، وهو نازح تركماني حطَّ الرحال في كركوك، مخاوفه من المستقبل بعد أن ضرب التنظيم النسيج الاجتماعي: «لا نعرف كيف ستكون ردود فعل التركمان الشيعة الغاضبين من محاولات داعش محو وجودهم في تلعفر، فقد قتل واختطف المئات وأجبر نصف أبناء المدينة على الفرار ليتحولوا الى نازحين ولاجئين، وجاء بمقاتلين من تركيا والقوقاز ومن الدول العربية صاروا قادة المدينة وتحكموا حتى بمصير سنة تلعفر».
عقدة المصالحة
ينبه طه صادق، وهو نازحٌ تركماني آخر استقر في الحلة وسط العراق، الى المسألة ذاتها «بعد كل ما جرى كيف يمكن تحقيق المصالحة وبناء التعايش… يقيناً هي لن تتحقق من خلال البيانات وتوصيات المؤتمرات السياسية والعشائرية… شهدنا الكثير منها في تلعفر قبل 2014 لكنك ترى اليوم ما حلّ بنا من قتل وسبي».
ويرى أن المصالحة لن تتحقق ما لم تسلم العشائر السنية أبناءها الذين «تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء» من التركمان والإيزيدية والشبك الى القضاء، وإلا فإن الباب سيفتح أمام «ثارات ستسبب صراعات ومآسي أكبر».
وهذا ما أكده البيان الختامي لتجمع عشائري لشيعة تلعفر عُقد في شباط (فبراير) 2015 بمدينة كربلاء حيث ذكر صراحة أنه «لا مكان للدواعش المجرمين في تلعفر والمنطقة وكلّ من شارك أو تعاون معهم في القتل والخطف والتفجير وسرقة الممتلكات وهدم المساجد والحسينيات والدور السكنية والمؤسسات الحكومية».
هذا الكلام يعتبره سنة تلعفر إيذاناً بطردهم من المدينة. وهو ما يؤكده جميل، الشاب التركماني السنّي، الذي تحدث لمعد التحقيق من تلعفر «اذا دخل الحشد الشعبي فإن كثيرين سيكونون أمام خياري الرحيل او الاعتقال بالشبهة لحين ثبوت براءتهم، نحن نعرف ما وقع من انتهاكات في ديالى والأنبار، فكيف بتلعفر، كل من بقي فيها سيكون متهماً ومهدداً وخاضعاً للحساب بعيداً من القانون».
يضيف جميل «الأمر بالنسبة إلينا مرعب، فنحن مطاردون وعالقون بين موتين… فـ «داعش» يأمر الناس بالقتال، ويقول لهم إن الحشد سيأتي الى تلعفر مباشرة او تحت عباءة الجيش لينتقم».
معالجة رعب الانزلاق الكلي الى دائرة التصفيات المذهبية، يتطلب تفاهمات عشائرية وتسويات سياسية تسبق معركة تلعفر، لكن لا شيء تحقق على الأرض رغم أن المعركة قد تقع في اية لحظة، وحتى الاتفاق الذي خرج به مؤتمر إسطنبول الذي عقد في تموز (يوليو) 2015 بمشاركة نحو 80 شخصية تركمانية بينهم نواب ووزراء سابقون وحاليون، بتنظيم اجتماع لرؤساء العشائر والأعيان وأصحاب الرأي من أهالي تلعفر لتحقيق المصالحة، لم يحصل.
الاندماج والتوطين
ينتشر معظم النازحين الشيعة الذين فروا من تلعفر وقرى سهل نينوى، في الحسينيات على طريق النجف – كربلاء، وفي أماكن معدة أصلاً لاستراحة زوار المراقد الدينية.
على رغم التحديات الاجتماعية والمعيشية، يحاول الكثير منهم الاندماج في بيئتهم الجديدة، فالبعض انخرط في الحركة الاقتصادية كعمال او أسسوا مشاريع تجارية مشتركة مع أهالي المناطق التي استقروا فيها، وتراجعت الحساسيات التي ظهرت في الأشهر الأولى للنزوح والتي فرضها تباين اللغة والثقافة والمنافسة على الخدمات والمساعدات وفرص العمل.
لكن الباحث الاجتماعي رائد عبدالحكيم يرى أن من الصعب توطين التركمان في مدن وسط العراق وجنوبه، بسبب اختلاف القومية واللغة والعادات الاجتماعية والعشائرية من جهة، وعدم تقبل أغلب النازحين ترك مناطقهم الأصلية من جهة ثانية، إضافةً إلى عدم تقبل سكان المدن التي نزحوا إليها هذه الفكرة أيضاً.
وعلى رغم أن نحو 680 عائلة تركمانية في محيط كربلاء ابتاعت أرضاً وشيدّ البعض منهم عليها منازل إلا أن عبدالحكيم يرى أنها لا تشير الى عملية توطين: «الأراضي التي شيدوا عليها بعيدة من مراكز المدن وهي إما زراعية أو متجاوزة على القانون، وأغلبها يقع على طريق النجف – كربلاء، حيث لا يمكن النازح شراء أرض داخل المدن لكلفتها الكبيرة وعدم سماح الإدارات المحلية في بعض المحافظات بذلك».
فقد منع مجلس محافظة كربلاء في 2015 بيع الأراضي والعقارات للنازحين، وأكد قراره للمرة الثانية في تموز 2016 ووعد المخالفين بعقوبات قاسية.
الضمانات المفقودة
رئيس مؤسسة إنقاذ التركمان الدكتور علي أكرم البياتي، مقتنعٌ أن عودة التركمان الى تلعفر وبقية المناطق التي تركوها «هو أمرٌ حتميٌ حتى مع الأخطار الأمنية المحتملة على رغم كل الويلات التي شهدها التركمان… هي موطنهم الأصيل ولا يمكن التنازل عنه مهما كلف ذلك».
رغم ذلك، لا يخفي البياتي أن عودة التركمان تتطلب ضمانات «لمنع تكرار المآىسي التي وقعت»، محدداً إياها بحصولهم على «إدارة ذاتية لمناطقهم وحق حمايتها بأنفسهم» من خلال تشكيل محافظة تلعفر أو دخولهم ضمن إقليم جديد، أو اقليم مع بقية المناطق التي «تضم شركاء حقيقيين لا يغدرون ولا يخونون»، في إشارة الى مكونات المسيحيين والإيزيديين والشبك.
ويؤكد البياتي أيضاً أهمية محاسبة كل «المجرمين والمقصرين من خلال المحاكم الدولية».
إبراهيم محمد يونس الخانم، رئيس رابطة قلعة تلعفر الثقافية، يرى أن التركمان في العراق متفرقون جغرافياً ما يُصعب تشكيل إقليم خاص بهم «لذا نعتقد أن الحل الأمثل هو استحداث محافظتي تلعفر وطوزخورماتو برعاية دولية بعد إعادة الثقة بين أبناء المدينة».
ويؤكد الخانم، أن الحماية الدولية مطلوبة «بأي شكل من الأشكال وحتى بتواجد قوات فعلية على أرض، ولو في شكل موقت، لحين استقرار الوضع وانتهاء الاستهداف التكفيري والفتن».
تلك المطالب التي تمثل ضمانات للعودة، يتوافق عليها غالبية شيعة تلعفر، وهي في مجملها «تتطلب وقتاً وجهداً وإرادة سياسية محلية وإقليمية حتى يمكن تحقيقها، هذا اذا كانت قابلة للتحقق اصلاً» يقول محسن كاظم، وهو مدرس تركماني شيعي يعيش في دهوك منذ أن نزح من تلعفر.
ويتابع «الأهم، هو تحقيق نوع من الحماية الضامنة لأمن الأقليات الدينية والمذهبية والقومية، ومحاسبة المتورطين بقتلهم فلا يمكن السماح للمتطرفين بالهروب وراء الحدود او الاختفاء في الصحراء ليعودوا بعد فترة في إطار تسوية سياسية او عفو برلماني».
وسط الانقسام المجتمعي والاستقطاب الطائفي، وبيئة الحرب التي تغذيها الصراعات السياسية، تبدو الضمانات المطلوبة لعودة النازحين أمنيات بعيدة المنال، ومعها يستشري الخوف من المستقبل، وهو خوف لا يرتبط بعوائل ضحايا «داعش» والعنف المذهبي فقط، فنحو 14 عائلة فقط من مجموع مئة عائلة تلعفرية جرى استطلاع رأيها في أيار 2016 من قِبل معد التحقيق، أبدت عدم رغبتها بالعودة حتى مع طرد «داعش» من المدينة وتحسن الأوضاع فيها. ولم يخفِ أكثر من 52 في المئة من المستطلعة آراؤهم خشيتهم على حياتهم على رغم رغبتهم بالعودة.
تلك النسبة يراها الناشط حسين كريم، صغيرة ولا تعكس الواقع «نعم، كثيرون يرغبون بالعودة في ظل التغير الجذري في حياتهم نتيجة الاختلاف الثقافي والقومي اللغوي بينهم وبين شيعة الجنوب، ومع عوامل الفقر وقلة فرص العمل».
ويستدرك «لكن الغالبية لا تريد العودة وإن صرحت بعكس ذلك، لأن البديل أسوأ، والحقيقة انه كلما طالت فترة وجودهم وتحسن مستوى اندماجهم في البيئة الجديدة فإن رغبتهم بالعودة تقل».
يورد علي عبو رئيس مركز حقوق الانسان في نينوى، جملة من المشكلات التي يعاني منها النازحون التركمان إلى محافظات الوسط والجنوب والتي تُصعب اندماجهم في البيئة الجديدة، على رأسها الوضع المعيشي السيئ والبطالة المستشرية في صفوف الشباب، ونقص الخدمات في مواقع النزوح، والاجراءات الأمنية التي تفرض قيوداً مشددة على حركة النازحين فضلاً عن «الحالة النفسية السيئة نتيجة طول فترة النزوح، والمعاملة السيئة من قِبل بعض الموظفين الذين يتعاملون مع النازحين كمواطنين من الدرجة الثانية».
هذا ما يجعل حسين أحمد، متشائماً «دورة المعاناة لن تنتهي أبداً، المشكلات التي يعيشها النازحون هنا ومع غياب الاهتمام الحكومي، أكثر من أن تُعد، لكننا لا نملك بديلاً آخر».
المستقبل المجهول
يرسم كاظم محمود، النازحٌ الى كربلاء، رؤية سوداوية عن مستقبل تلعفر، فهو لا يرى أن دائرة العنف ستنتهي مع قلب صفحة «داعش». نار الصراعات المذهبية موقدة ومسبباتها قائمة وقد تشعل حرائق في أي لحظة، هناك في كل بيت جراحٌ عميقة لا يمكن مداواتها بسهولة». حتى أولئك الذين لم يخسروا أفراداً من عوائلهم، يشعرون بأنهم خسروا سنوات من عمرهم في بناء وامتلاك أشياء سلبها «داعش» منهم خلال ساعات.
النازح السنّي الى أربيل أحمد سالم، يشارك مواطنه إحباطه «حين ستقف في أي موضع بتلعفر ما بعد «داعش»، ستذكرك أنقاض البنايات المهدمة والبيوت الخاوية بأن الحياة لن تعود الى سابق عهدها». يعتقد سالم أن محاولة استعادة الماضي تشبه محاولات «داعش» في 2015 بناء حياة جديدة في المدينة: «لن يتحقق ذلك، سنحتاج الى سنوات لترميم النسيج الاجتماعي».
ويضيف: «أثناء التحرير سيترك كثيرون من التركمان السنّة المدينة ليقيموا في المخيمات او المناطق السنية القريبة، والشيعة القلقون سيترددون كثيراً في العودة، والانتقامات المحتملة والشكاوى الكيدية سترسم خطوطاً مظلمة لسنوات مقبلة».
ويخلص الى القول: «ما لم تحدث معجزة فإن التركمان الذين غلبت انقساماتهم المذهبية على توحدهم القومي، سيكونون أكبر ضحايا تنظيمي «داعش» و» القاعدة» اللذين نجحا في إعادة تشكيل الديموغرافية العراقية، ومع قلة أعدادهم وتشتتهم على بقع متناثرة في الخريطة العراقية، سيصبحون أولى الأقليات الكبيرة المهددة بالفناء».
في انتظار أن تضع الحرب أوزارها وينضج القرار السياسي والأمني الداخلي والاقليمي، يواصل علي أحمد كفاحه لبناء حياة جديدة بعيداً من مدينته تلعفر التي يرى أنها ستظل لسنوات مقبلة في دائرة الصراع الطائفي الدموي، فيما يتطلع نازحون آخرون مثل حيدر جاسم الى العودة في أول فرصة ممكنة: «لا يمكننا التخلي عن حياتنا».
متابعة / عراقيون
عباس عبدالكريم