محمدصالح البدراني يكتب | جدلية الحقيقة
الحقيقة (عذّب حسادك بالإحسان إليهم) أمير المؤمنين علي
جدلية الحقيقة:
في حديث لأخ حول سلبية أبرزت مدى التخلف المجتمعي ذكر أمرا جعلني أفكر في كلامه بهذا المقال.
الناس تظن الظنون في الحقيقة وامتلاكها، وهذا متأتي من طبيعة الإنسان وتأطير كينونته بمحددات الزمان والمكان والانطباعات وغيرها، لهذا يظنون أن ما يعتقدون هو الحقيقة والحقيقة مطلقة لا حدود لها ولا أطر، هي اليوم واقع، مجتمع، إنسان، حزب، مظلوم، ولكنها غدا لا تكون مع دعاوى ذات هذه الناس عندما يتفاعلون وتقلبات الحياة ويتغيرون معها، لهذا علينا أن ندرك ونحرص أن نكون مع الحقيقة وفي عالمها فلا يمكن أن تكون الحقيقة معنا كيفما كنا لان سنن الكون لا تحابي أحدا، وكما ارتفعت بقوم حين ضبطوا إيقاع سلوكهم ليرتقوا، فهي تغادرهم بذات المبدأ عندما نرى أن السلطة اليوم بيد الطغيان وهو جبري في كل مكان، وسنجد طغيانا للجهالة والجهل، في مجتمعنا، وقبح السلوك والعادات التي تكونت نتيجة التماهي مع الظلم والظالمين وطلب الرضا بدافع من غريزة البقاء وليس إعمال العقل من اجل الحقيقة، وكما نرى في الغرب من انحلال القيم التي ماتت مع قيام الدولة الحديثة إلى أبعاد تتبناها الحكومات، ولتسقط حواجز الحماية الرأسمالية من الليبرالية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وكل الادعاءات الزائفة التي تبنتها الرأسمالية لتغطي وجهها الخفي فتظهر مكشره عن أنيابها وهي تقمع المخالفين والذي برز واضحا في انتفاضة الطلبة في الجامعات الأمريكية أمام التعسف وظلم الإدارات لمنع وتجريم التعبير.
مجتمعنا وقتل الآدمية:
يعيب البعض على الناس المسالمة التي لا تزعم أنها تمتلك الحقيقة ولا تسعى للمواجهة بينما هي تأخذ طريق السلام؛ أن هؤلاء أناس ضعفاء وربما يؤخذ منهم كل شيء منصبهم جاههم وحتى مصادر عيشهم، في مجتمع محلي وغيره عندما تطرد الغرائز الحكمة وتسيطر مستعمرة المنظومة العقلية. هذه الناس النحسة لغة وفعلا والحاسدة المتمنية زوال الإبداع والمبدعين حسدا ونحاسة لأنها لا ترى إيجابية في غيرها وهي لا علم ولا فعل، المغطية لإنتاجهم المبددة لجهدهم وهي تظن أنها تمتلك الحقيقة ولكنها لا ترى فشلها القيمي والآدمي ولا الحيوانية في العقلية والنفسية التي تمتلكها، فتاتي إلى كل إضاءة فتطفئها، وتفسر كرم من تؤذيه غفلة فتتمادى في إيذائه لأنها تريد أن ترى اثر أذيتها عليه، تمني زوال النعمة والموهبة والنجاح هذا حسد وليس حرصا على الحقيقة وإبرازها عندما تهاجم قدوة أو نخبة أو تمنع ظهور مصلح بالتعتيم عليه فلا تفيد منه ولا تدع احد يستفيد وهي تسعى لأهداف زائلة تافهة كتفاهتها وربما باسم الدين تقتل التجديد، وباسم الوطنية تقتل الوطني الذي يسعى للنفع العام وباسم الإعمار تطرد الكوادر البناءة لتنمي ديدان وحشرات الفساد على شجرة تحوي كل هذه المرضى ويرقات تنخر لحائها.
في مجتمعنا حيث الجرأة عند السفيه فيرتفع بالتزييف والوشاية والإقصاء والإبعاد للناس المنتجة تلك السنابل الممتلئة بالعلم والتي تطأطئ من ثقل الإحساس بالمسئولية والمنتجون اقل الناس كفاءة في الدفاع عن أنفسهم أو حياكة الشباك والمؤامرات للآخرين أو طلب المناصب إلا لصلاحيات المنصب لتنفيد عملا ناجحا، لطالما فقد البلد طاقات أو حيدت به طاقات بسبب الحسد، وتصور سوداوي عدمي لا يرى خيرا في غيره ويسارع في تأييد السلبية والظلم على غيره ليس لربح أو مكسب وإنما لأنه يحب إبراز السلبية في كل شيء عدى ما يمسه، وهذا مرض للأسف يمحق ويجرّف طرق النهضة والتقدم خصوصا عندما يكون المسؤولون عن الدولة بنفس العقلية العدمية أو الأنانية عند ذلك سيكون البلد عقيما ليس لعدم وجود كفاءات بل لتغييبها وإسناد الأمر لغير أهله فهو لا يحدث تطورا ولا يسمح بان ترمش عين الحقيقة لتظهر الإيجابيون الفاعلون ذوي الكفاءة رجال المنظومة التي تقود إلى النهضة.
الطيبة ليست عيبا:
يقول فيودور دوستويفسكي في “الفقراء” (لماذا تعيش النفوس الطيبة النبيلة في الشقاء والهجران، بينما لا يحتاج غيرها حتى إلى البحث عن السعادة لأن السعادة هي التي تلقي بنفسها بين ذراعيه) ربما يجيب في كتاب الجريمة والعقاب عن هذا النوع من التساؤلات فيخطئ في التعميم رغم صوابه بأصل المؤثرات حين يقول (“كل شيء مرهون بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان. كل شيء تحدده البيئة والإنسان في ذاته لا شأن له.”)، بيد أن إجابته الأكثر املأ ووعيا في كتاب الفقراء ذاته، عندما يقرر (إن في النهايات يفوز ذوي النوايا الحسنة) والحقيقة أن فوزهم معنويا فبيئة الظلم لا تنصف مظلوما وبيئة التخلف لا ترفع نهضويا وبيئة الجهل لا ترفع عالما والناس تركض وراء ذي السلطة الفاسد رغم فساده وتبتعد عن العالم لأنه لا يعطيها ما يتجاوب مع طمعها وكسلها فان سقط صاحب السلطة والتمكين ارتدت تلك الجماهير من الرعاع والغوغاء وأنصاف المتعلمين والأقلام المؤجرة أو المثقفين العدميين الذين تحكمهم الأمراض النفسية والفكرية عليه كما ارتدوا على النخب من قبل.
إن مجتمعنا مريض ونخبتنا تحتاج إلى إعادة تأهيل لأنها أصبحت عالة في حراك الغوغاء وتزيت بزيهم لتعيش فقتلت السليم بالتهم والكيد والحسد، وسفهت واحبطت من يحمل املها والمها وسجنت نفسها بخيال الماضي المفلتر لتستحضر الظلم وتبرر الفشل بدل أن تسعى لاستنهاض النخب الصاحية ودعمها لتستقيم الحياة، ونحن نشخص مرض مجتمع وليس عجز الإنسان عن الفعل وأفوض امري إلى الله.