شوان زنكنة يكتب| التمويلُ الماليُّ، لا دِينَ له
عراقيون| مقالات رأي
التمويلُ الماليُّ، بمعنى: توفيرُ النقد، أو السلعة، أو المنفعة لطرفٍ يقوم باستثماره، يُعَدُّ نشاطًا اقتصاديا بحتا، لا يَمتُّ للفكر والدِّين والعِرق بصلة، فمفرداتُه وأشكالُه، ناتجةٌ عن علاقة اقتصادية طبيعية عبر التأريخ بين النقد والمُبادَلة (السلعة والمنفعة)، من غير أن تحمل مسمّى أيديولوجيا أو فكريا، أو عقائديا، وقد جرت ممارسةُ كلِّ أشكال المُداينات والمشاركات والبيوع الآجِلة، ولا زالت، بصيغٍ اقتصاديةٍ بَحتةٍ، في كافة المجتمعات، إسلامية كانت، أو غير إسلامية، وبأساليب وأنماط متشابهة، لا تختلف كثيرا، إلا في الأسماء أحيانا.
فَقدْ ذكرَ ابنُ عبدِ البَرِّ في التمهيد من “موسوعة شروح الموطأ” ما يلي: “قالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: كان الناسُ على أمرِ جاهليّتِهم، حتى يُؤمَرُوا أو يُنهَوا، يريدُ: فما لم يُؤمَروا ولم يُنهَوا، نفذَ فعلُهم”.
مالك بن أنس، موسوعة شروح الموَطّأ، ط1، (القاهرة: مركز هجر للبحوث،2005م)، ج16، 318
وهذا يعني أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حينما قدم المدينة، لم يضع نظاما اقتصاديا إسلاميا خاصا، بديلا عن النظام الاقتصادي السائد في الجاهلية، بل قنَّنَ المعاملات المالية السائدة وضبطَها بأحكامٍ شرعية، فأجاز بعضَها، وحرَّم بعضَها، ووضع ضوابط وشروطا لبعضها الآخر، ففي بيع السَّلَمِ، مثلا، رَوى أبو المِنهَالِ عن ابنِ عبّاس، قال: قَدِمَ النَّبيُّ وهُم يُسلِفُون في التَّمر السَّنتَينِ والثَّلاثَ، فقال: “من أسْلَفَ في تَمرٍ، فَلْيُسلِفْ في كَيلٍ مَعلومٍ ووَزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ”.
محمد بن يزيد القَزويني، سنن ابن ماجة، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، بدون تاريخ)، ج2، 765
فهذا النصُّ يشير بوضوح إلى أن الشَّارِعَ قد قنَّنَ المعاملةَ، ووضعَ لها ضوابط وشروطا، ثم أقرَّها، ولم يَقُمْ بإلغائِها ومنعِ الناس من التعامل بها، ناهيك عن أنه لم يأت بمعاملةٍ بديلة عنها، إسلامية كانت أو غير إسلامية، والسبب في ذلك، أن السَّلَمَ معاملةٌ مالية اقتصادية بحتة، مارسها الإنسانُ، بصيغتها المتعارَفة، منذ القدم، بغضِّ النّظر عن الدِّين والعِرق والمُعتقَد.
أخذَ التمويلُ، عبر التأريخ، أشكالا عدّة، كالمُداينة، والمُشاركة، والبُيوع الآجِلة للسلع والمنافع، فقد داينَ الإنسان أخاه الإنسان، منذ القِدَمِ، وشاركَه في نشاطه الاقتصادي، وباعَه السلع والمنافع بالأجَل، بنفس الطرق والوسائل، في كافة المجتمعات البشرية، وبالصيغة التي شَهدتْها تلك المجتمعات من تطورات اقتصادية واجتماعية، وإن اختلفت أسماء تلك المعاملات من بيئة إلى أخرى، ومن زمن لآخر.
فالدَّينُ بفائدةٍ، والقَرضُ الحَسنُ، وأنواعُ الشراكات (كالمضاربة والمزارعة والشركات، وما شاكلها)، وأنواعُ البيوع الآجِلة، في السلع والمنافع، كالسَّلَمِ والبيعِ المُقسَّط الآجِل، والاستِصناعِ، واشكالِ الإجارةِ، وغيرها، إنما هي معاملاتٌ تمويلية، مارسَها الإنسان عبر العصور، بنفس الأساليب، عمومًا، من غير تصنيفها إلى إسلامية وغير إسلامية.
وليس لِمُعاملةٍ من هذه المعاملات المالية أنْ تكونَ بديلًا لمعاملةٍ أخرى، ولا ينبغي أن تكون، بسبب اختلاف أشكالها وأساليبها، وحقوق الأطراف فيها، فكلُّ معاملة تُمثّل نفسَها، ولا تستطيع أن تَحلَّ مَحِلَّ غيرها، وما يُشاع لدى المُختصّين الإسلاميين، من وجود تمويل إسلامي، بديلٍ عن الدَّينِ بفائدةٍ، ليس إلا كلامًا نظريًّا لا ينسجم مع الواقع العملي، ناهيك عن عدم قدرة هذا التمويل المزعوم على أن يكون البديلَ للدَّين بالفائدة.
فتجاربُ البنوك التي جرتِ العادةُ على تسميتها بالإسلامية، أثبتتْ عدم إمكانية تطبيق المعاملات المالية التي تمّت تسميتها بالإسلامية، كالمضاربة، والشراكة، والمزارعة، وغيرها، في أنشطتها المصرفية، فما زالت المُرابحة، التي هي عمليةُ بيعٍ تَؤولُ إلى دَين مُقسّط، تحتلّ أكثر من 95% من استثمارات البنوك التشاركية، وتحتلّ المشاركاتُ وأشكالُ الإجارات بقيةَ استثماراتِها.
لذا.. فطرحُ المشاركاتِ، كبديلٍ إسلامي، عن الدُّيون بفوائد، طرحٌ نظريٌّ، صعبُ التطبيقِ، ناهيك عن أنه ليس بديلا في الأصلِ، ولا يمكن إنشاءُ اقتصادٍ عملي سليم عليه.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن تصنيف التمويل إلى تمويل إسلامي وغير إسلامي، تصنيفٌ ليس في مَحِلِّه، فكافةُ المعاملات التي تجري تحت مسمّى إسلامي، هي موجودة، وجارية في معاملات الإنسان عبر التأريخ وحتى يومنا هذا، وبنفس الطريقة والنمط، مع تغيير أسمائها من قبل الإسلاميين، فالبنوك التقليدية اليوم، تمارس كافة معاملات الشراكة، والمضاربة، والاستصناع، والفاكتورنج (factoring)، التي يُسمّيها الإسلاميون بالإجارة التي تَؤُول إلى التمليك.
الفرقُ بين التمويل الشرعي وغيره، هو حيازتُه للضوابط الشرعية، فقط، لا غير، وعندئذ يكون تمويلا مُوافِقا للشرع وليس تمويلا إسلاميا فحسب، أيا كان المُنفِّذُ لهذا التمويل، فالتَّوَرُّقُ المُنظَّمُ، الذي هو شكلٌ من أشكال البيع الصوري المحرّم، يُعتبَر معاملةً فاسدة، لعدم حيازتِه للضوابط الشرعية، وإن قامت بتنفيذه البنوكُ التشاركية التي تُضفي على نفسها الصفةَ الإسلامية، بينما المضاربةُ بين البنك التقليدي والمواطن العادي، بنسبةٍ شائعةٍ من الربح بينهما، وخسارةٍ مُوزَّعَةٍ على رأس المال وعمل المضارب، التي تمارسُها بعضُ البنوك التقليدية، هي معاملةٌ مباحةٌ، وإن كان قد مارسَها بنكٌ تقليدي، لا علاقة له بالإسلام.
ولن تستطيع المرابحةُ المصرفية أن تقوم مقام الدَّين المصرفي بفوائد، لأن المرابحةَ معاملةٌ مالية تتكون من عقدٍ ووَعدٍ؛ وعدٍ من الآمر بالشراء للبنك التشاركي، وعقدِ بيعٍ للآمِر بالشراء، يقوم به البنكُ، في حين أن عمليات البيع والشراء ممنوعةٌ على البنوك قانونا، لذلك، فكافةُ العمليات التجارية التي تقوم بها البنوك التشاركية باطلةٌ، لعدم قدرة هذه البنوك، قانونا، على البيع والشراء، لذلك تلجأ هذه البنوك إلى إعداد صيغٍ صورية للعقود، تُنفّذُ بها معاملات المرابحة، وهذا عمل باطل، لا يتحقّقُ فيه القَبضُ، حقيقةً أو حكمًا، كما أن الوعدَ المُلزِم هو أحدُ أهمّ عيوبِ المرابحة، ثم تَؤُولُ هذه العملية (الوعد وعقد البيع) إلى عملية مُداينةٍ مُقسّطةٍ، وبزيادةٍ، وتعودُ لِتأخُذَ شكلَ الدَّين بفائدة، بعد لفٍّ ودورانٍ كبير، والتفافٍ على القانون والشرع، في حين أنه لم يَرِدْ نصٌّ شرعي، من الكتاب والسنة، بِحُرمَة الفائدة، مع وجود الشفافية والسلاسة في عمليات الدَّين المصرفي، بعيدا عن الصورية في البيوع غير القانونية، ومن غير لفٍّ ودورانٍ ولا كُلَفٍ إضافيةٍ.
فبأي منطقٍ يَتمُّ الادّعاءُ بأن المرابحةَ المصرفية، التي تُعاني من إشكالاتٍ قانونية وشرعية، تقومُ مقامَ الدَّين المصرفي الذي لم يرِدْ نصٌّ شرعي بتحريمه؟ ناهيك عن الاختلافِ الشكلي بينهما، وصعوبةِ شمول المرابحة لكل احتياجات عملاء البنوك، قياسا بالدَّين المصرفي، الذي يُغطّي كافة احتياجات العملاء.
والغريب، أنه هناك من يُصرُّ على وضع الفائدة تحت باب الرِّبا، من غير سَوقِ دليلٍ شرعي مُعتبَر في ذلك، ثم يقوم تحت هذا الشعار بطرح المشاركةِ والمضاربة وغيرها، كمعاملاتٍ مالية إسلامية بديلة للفائدة، وهو يرى بأمِّ عينيه، فشلَ البنوكِ التشاركية في جعل هذه المعاملات بديلا لها، بل وتَوسُّعَها في عمليات التَّوَرُّقِ المُنظَّم، بعد فشلِ المُرابحة في القدرة على تغطية كافة احتياجات العملاء، والذي حرَّمه الكثيرُ من الفقهاء، بسبب صوريَّتِه والتفافِه على الشرع.
وليس من المنطقي، ولا من المُجدي اقتصادا، ولا مما يُحبِّذُه المستثمرون والقائمون على البنوكِ، أن يُفرَض عليهم تمويلا يُروَّجُ على أنه إسلامي، كبديل مُباح، وهو يصعب تطبيقُه، فلا يمكن فرضُ الشراكات على المستثمرين على نطاق واسع، سوى لحالات محدودة، ولا يمكن فرضُ المضاربة على البنوك مع كلّ من يتقدّم للمضاربة معها، إلا في نطاق محدود، ووفق شروط، لذلك نجد كافةَ البنوك التشاركية في العالم مُحجِمة عن تلك التمويلات التي يُروِّجُ لها المُروِّجون، كالمشاركة والمضاربة والمزارعة والسّلم والاستصناع والإجارة التي تؤُول إلى التمليك، وغيرها، مُكتفية في معظم معاملاتها بالمرابحة والتورّق المُنظّم، وذلك لأنها معاملاتُ مداينةٍ مضمونةٍ.
ولن يكون هناك تمويل تنموي حقيقي، من خلال فرض أشكالٍ منه، على أنها تمويلٌ إسلامي بديل، دون مراعاةِ حاجة المستثمر، وتَوافقِ البديل مع وضعه الاقتصادي، وسلاسةِ تطبيقه، ناهيك عن وجوبِ إثبات حُرمةِ المُبدَل، وإباحةِ البديل، لتكون سببا للإبدال، فليس من المنطقي فرضُ الشراكة، مثلا، على المستثمر، كبديل عن المُداينة بفوائد، ما لم يكن وضعُه الاقتصادي مناسبا لِتبنِّي هذا البديل، أو قد تحقّقَت لديه القناعةُ بذلك، او قد تبيّن لديه جدوى هذه الشراكة.
لذا.. فإن إشغالَ سوقِ التمويل والاستثمار، بحلولٍ وبدائل نظريةٍ يصعب تطبيقُها عمليا، والترويجَ لتمويلات تحت لافتاتٍ إسلامية، ليس إلا إعاقة قسرية للتنمية وسببا لحرمان المسلمين من السيولة ومصادر التمويل، وتخلُّفا عن ركْبِ الحضارة، وأنشطةُ المصارف التشاركية شاهدةٌ على ذلك، من خلال إحجامها، وبشكلٍ كبير عن تبنّي تلك البدائل التمويلية التي يُروِّج لها الكثيرون من الأكاديميين والعلماء والمهتمين، الذين يعيشون خارج نطاق السوق، ويُدوِّنون ما يخطرُ على بالهم من أفكارٍ وبدائل، لا تمتُّ للواقع بصلة، إذ يندرُ استخدامُ البنوك التشاركية في أنشطتها المصرفية لتلك التمويلات التي تُروَّجُ على أنها إسلامية، كالمضاربة والمشاركة والإجارة التي تؤُول إلى التمليك، والاستصناع، وغيرها.
يبقى أن نؤكد، في خلاصة القول، أن التمويلَ نشاطٌ اقتصادي، مُجرّدٌ عن الفكر والمعتقد، فليس منه ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي، سوى ما مَيَّزَهُ الشارعُ من خلال ضوابط فرضَها، فجعلَ منها المُباحَ والمُحرّمَ، ضمن إطار “الاقتصاد المعياري”، فلا يصحُّ الاندفاعُ وراءَ التصوّرِ الخاطئ الذي يجعلُ الفائدةَ شكلا من أشكال الرّبا المُحرّم، بلا دليلٍ شرعي مُعتبَرٍ، لِتبنّي بدائلَ تمويليةٍ نظريةٍ لا تتعاملُ معها الأسواقُ إلا في نطاقٍ محدود، وتسميتِها تسمية إسلامية، رغم أنها معاملات مالية مارسَها البشرُ قبل ظهور الإسلام، ولغاية يومنا هذا.
نعم.. التمويلُ المالي لا دِينَ، ولا فكر، ولا عِرق له، ولا يصحُّ تصنيفُه إلى إسلامي وغير إسلامي، فالمضاربةُ، مثلا شكلٌ من أشكال التمويل مارسَها الإنسان، عبر التأريخ، في كل المجتمعات، بغضِّ النظرِ عن الفكر والعِرق والمُعتقد، والترويجُ لإسلامية هذه المعاملة، ليس إلا تلاعبٌ بالألفاظ، وترويجٌ لتصوّرٍ خاطئ، يُضيّقُ حجمَ هذه المعاملة، وكأنها ممارسةٌ إسلامية معاصِرة، لم تَقُمِ المجتمعاتُ الأخرى بِتبَنِّيها قبلَ الإسلامِ وبعدَه.