الثقافة الضائعة بين الأجيال
يقول الفيلسوف سيغموند فرويد، إنَّ «وجود الرأس في الجسد حقيقة ثابتة، لكن وجود العقل داخل الرأس تلك مسألة فيها نقاش». وسنقف في هذا المقال عند الجهل المُستشري في مجتمعنا والرؤوس الفارغة في هذا الجيل، والذي لا بدَّ من أنَّ نقف عند أسبابه ومُسبباته التي آلت إلى ما وصلنا له اليوم من انعدام لثقافة المجتمع. ولا أقول بعضهم، بل يمكن أن نقول أغلب شبابنا اليوم يكادون يفتقرون لثقافة الحوار وثقافة النقاش، وهم لا يبحثون عن أشياء تزيد معرفتهم الذاتية، بل نراهم مُنشغلين بسفاسف الأمور التي لا تغني ولا تسمن ولا يُستفاد منها في شيء.
إنَّ وجود قاعدة في كلّ شيء نطوره ضرورة حقيقيَّة لا يمكن تجاهلها، وحين تكون تلك القاعدة مُهترئة خاوية من المحتوى، كيف لنا أن نبني عليها معلومات لاحقاً؟ ما يؤسفني ويؤسف الجميع ما نراه على شاشات الفضائيات من لقاءات وحوارات مع الشباب العراقي في برامج مختلفة ويُلاحظ الجميع مدى تدني المستوى بكل ما يحمل من معانٍ علميّة وفكريّة وحتى أخلاقيّة.. فقبل أيّام شاهدت برنامجاً يلتقي بعدد من الطلبة في أروقة الجامعة، وما لفت نظري هي أسئلة المُقدم البسيطة جداً والتي طرحها على الطلبة هناك؛ وكان منها سؤاله «من هو والد النبي عيسى»؟
فجاءت الأجوبة صادمة منهم؛ فبعضهم ظل صامتاً وهو مُستغرق في التفكير، وآخرون أجابوا إجابات خاطئة، بعضها مُضحك! هنا انتابني حزن شديد لما شاهدت، وليس هذا البرنامج فقط، بل هناك لقاءات أُخرى كانت الأسئلة الموجهة للشباب يستطيع أن يُجيب عنها طفل في زمن مضى.
وإنَّ الأدهى من هذا أن هؤلاء الشباب جامعيون؛ أي أنَّ تعليمهم عالٍ؛ وقد وصلوا مرحلة في التعليم لا تتناسب مع فقر معلوماتهم، وضحالة فكرهم.. إنَّ التكنولوجيا المنتشرة في جميع الأصعدة وعلى كُلّ الاتجاهات يبدو أنّها لم تخدم شبابنا في هذه الناحية.. فرغم الانفتاح على كل شيء وسهولة الحصول على المعلومة في أي برنامج أو تطبيق على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لم يستطع كُلّ هذا بناء ثقافة عالية للشباب، رغم توافرها من دون ثمن.
كُنّا سابقاً لا نحصل على المعلومات إلّا من المعلمين والأساتذة الذين نتتلمذ على أيديهم، أو عن طريق قراءة الكتب التي يصعب الحصول عليها.. إنَّ وجود المُعلم الكبير «كوكل» في حياتنا الآن لا أجده نافعاً للطبقة التي يكون مستواها متوسطاً في العلم، فهو في الأصل غير مُكترث لوجودها ولا يُعير لها أيّ اهتمام!
وأرى أنَّ المسؤول الأول في جهل المجتمع هي وسائل الإعلام بشتى أنواعها المسموع والمقروء والسمعي بصري المتمثل بالشاشات، فإنّنا اليوم، ومع شديد الأسف، لا نجد برنامجاً ثقافيَّاً واحداً ينمي القدرات ويزيد المعرفة للمشاهد إلا ما ندر منها؛ والتي تُحاكي مثقفي الماضي وتطرح حياتهم لنا والتي لا تزيدنا إلّا تسلية برؤيتها، وليس هذا فقط بل إنَّ بعض الإعلاميين المُقدمين للبرامج الحالية جهلة لا يعرفون إدارة الحوار ولا يستعملون اللغة العربيّة الفصحى متمسكين باللغة الشعبيَّة المتداولة؛ لجني المشاهدات ولفت الأنظار ومن باب «المتداول السهل»، حتى وإن كان معولاً يهدم ما تبقى من الثقافة، ولا أحمل المسؤولية للتلفاز فقط بل حتى برامج الراديو المنتشرة حالياً وعلى كثير من الترددات بشتى أنواعها ومُسمّياتها وتوجهاتها؛ لا نجد البرامج القيّمة المُمتلئة بالمعرفة ويكاد يكون ما هو موجود هو حوار عن صفات وآراء عن مشاكل ومُساجلات لا نفع منها، ويبدو أنَّ سبب كل هذا عدم اعتماد البرامج للمُعدّين العلماء الخبراء المثقفين وقبول الإعداد من أشخاص لايملكون أي مقوم للثقافة همّهم الوحيد كثرة المشاهدات وإن كان المضمون فارغاً، إنَّ اهتمام وسائل الإعلام بالبرامج الثقافيَّة ليس رفاهية أو إتمام التنوع فقط، بل هو باب للتنشئة يحمل هم إيصال المعلومة بشتى أنواعها ويأخذ على عاتقها إثراء المُجتمع بنور العلم، فهو الذي يتمكن من أن يُخرج جيلنا من بحر الجهل الذي يسبحون فيه، وهو القادر على توعية الناس والأخذ بيدهم للدخول إلى أبواب العلم الواسعة.