ريان توفيق يكتب | نحو وعي جديد لزمن جديد
عراقيون | مقالات رأي
كثيرا ما تدور حوارات في قضايا ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو شرعية، ولا ينتهي الحوار إلى نتيجة، ومن أهم الأسباب التي تفضي إلى اللاوفاق هو النموذج العقلي؛ وما أعنيه بالنموذج العقلي هو القناعات التي صنعها أحد المتحاورين في عقله، متخذا منها المعيار والمنطلق لأية فكرة أو مبدأ، وبالتالي فإن أي طرح يخالف نموذجه العقلي فهو مرفوض جملة وتفصيلا، فلم يَدَعْ صاحبنا أية فسحة للطرح الذي يخالف نموذجه العقلي.
وعادة ما تكون هذه النماذج العقلية الجزمية لدى من بنى ثقافته من خلال مواقع التواصل، أو من خلال ردة فعل بسبب هزة ما، وربما تكون هذه الجزمية لدى من تخصص في حقل من المعرفة، وظن أنه قد أمسك بزمام التخصصات الأخرى، فتراه يتكلم في الحقول المعرفية المتعددة، ويطرح الحلول، ويخيل له نموذجه العقلي أنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل، وكأنه المُخَلِص الذي يمتلك عصا سيدنا موسى عليه السلام.
فثمة من بنى نموذجه العقلي على أن حلحلة الممارسات الخاطئة أوالمحرمة على صعيد السلوك المجتمعي مثلا إنما تحسم بفتوى، وكأن المجتمع هو مجتمع ملائكي ينتظر الفتوى ليصحح مساره.. وبالتالي فهو يرفض أي طرح منطقي يدخل إلى جذر المشكلة، ويحاول تفكيكها، من خلال إشراك الاختصاصات النفسية والاجتماعية والإعلامية والقانونية، فضلا عن الشرعية.
وثمة من بنى نموذجه العقلي على أن حل الإشكاليات التي ترد في فهم بعض الأحاديث النبوية إنما يكون بإقصاء السنة برمتها، فهو لم ينتبه إلى اللوازم التي يحتف بها طرحه، وبالتالي تراه يرفض أي طرح منهجي لتفكيك الإشكاليات، وردها إلى المحكمات، كما هو المقرر في المنهج المعرفي الخاص بفهم النصوص؛ الذي لم يتسن له التعرف على طبيعته وطريقة اشتغاله.
وثمة من بنى نموذجه العقلي على أن الدخول إلى عصر جديد يكمن بالرجوع منهج بعينه، سواء أكان مذهبا فقهيا أو تيارا إصلاحيا أو توجها فكريا، فهو يرفض ابتداء أي منهج آخر من المناهج المعرفية المتاحة في الفضاء العلمي، فالمعيار عنده قناعاته، وبالتالي لا اعتبار لأي طرح يخالف نموذجه العقلي، إذ إنه رافض لفكرة احتمالية صوابية الطرح المخالف لنموذجه الذي أضفى عليه الطابع المعياري الصرف .. والمشكلة الكبرى عندما يخلع على مرجعيته مسحة القداسة، ويسفه المرجعيات المعرفية الأخرى لقراءة النصوص، أو بناء الوعي.
ومن تأمل الخطاب القرآني في تأسيسه لطريقة بناء المعرفة في الفضاءات المختلفة لوجدنا أن المعيار هو البرهان؛ وليس النموذج العقلي (( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )) .
فإذا أردنا دخول عصر جديد، فلا بد من التخلص من وهم أننا نفهم كل شيء، وأننا نناقش كل شيء، وأننا نطرح رأينا في أي موضوع، وأننا نحتكر الصواب، وأن لكل منا القدرة أن يدلي بدلوه في الاقتصاد والإصلاح والإدارة والعمران والشريعة، والحقيقة أنه ما لم نتجاوز هذا الوهم سنظل نراوح في مكاننا لا نخطو خطوة واحدة إلى الإمام، وسوف لن نجني إلا مزيدا من التراجع والتفكك على المستويات كافة.