ريان توفيق يكتب | نحو تأسيس ثقافة قبول الآخر
عراقيون | مقالات رأي
ما زال العقل الجمعي رغم المنعطفات الكبيرة التي مر بها مجتمعنا، ورغم السنون الطويلة من الانقسام والخلاف يعيش حالة من الأحادية، وعدم الانفتاح على الآراء الفقهية الخلافية المؤصلة .. فترى الكثير يقفل على رأي فقهي واحد – وله الحق – إلا أن الإشكالية تكمن في تسفيه غيره من الآراء، ونعته بنعوت الضلالة بقائمتها الطويلة، ويغضب صاحبنا إن وجد مخالفا له، والأنكى من هذا عندما تتخذ الاتجاهات الفقهية مقياسا للتصنيف الفكري والتخندق الفئوي .. وثمة مسائل موسمية لم يستطع الاتجاه الجمعي أن يحسم ملفها، ويتجاوزها إلى الانشغالات التي تطور الواقع العلمي والاجتماعي .
ولا أريد أن أغرق في استعراض الجزئيات الخلافية على مساحة الفقه الإسلامي الواسعة، بقدر ما أريد أن ألفت عناية الجمع العام بأن يعيد حساباته في كيفية التعاطي مع الخلاف الفقهي، ويتجاوز هذه الحساسية والانفعالية غير المبررة تأصيلا .. ولا أجدني بحاجة إلى تأصيل الموضوع.. فأحسب أن المسألة قد غدت في حكم البديهيات لكثرة ما كتب فيها.
فالمشكلة ليست في تأصيل الخلاف الفقهي، فهذه قضية يسلمها المتخالفان أنفسهما، لكن المشكلة في ردود الأفعال اتجاه أي قول يخالف متبنياتهما، وهنا سنقف على حجم الهوة بين النظرية والتطبيق .. فعلى المستوى النظري يقال: الخلاف لا يفسد الود، ولا يعكر الصفو، وعلى مستوى السلوك يفسد الود والقضية أجمع.
وفي هذا السياق وبغية فتح نافذة لحلحلة هذا الوضع فاعتقد أن البداية لابد أن تبدأ من الهرم، وليس من القاعدة، فالهرم وأعني به الجهات الموجهة لهذا الطرف أو ذاك، لهذا الفريق أو ذاك .. الهرم أمام مسؤولية شرعية وأخلاقية واجتماعية لتأسيس ثقافة قبول الآخر الفقهي، ونزع فتيل الخلاف على المستوى السلوكي، وفي هذا الحال يجب أن يبتعد الهرم عن أوصاف التفسيق والتبديع للمخالف الفقهي، إذ إنها سرعان ما تسري إلى القاعدة كالنار في الهشيم، وتتصور القاعدة أنها قبالة مسؤولية شرعية، وهي تصحيح سلوك المخالف.
كما يجب على الهرم أن يبتعد عن اتهام النويا والقصود، وأن يكون ما يقال في المجالس الخاصة عن المخالف هو عين ما يقال في العلن؛ بغية تأسيس فكر جديد لدى الاتباع يقبل الآخر، ويتطابق سلوكه مع حال السلف رضي الله عنهم، وأن لا يتصور الهرم وأتباعه أنه هو المسؤول عن تلوين المجتمع بلون فقهي واحد.. فهذا لم يتحقق منذ عهد الخلافة الراشدة وإلى الآن، ولن يتحقق؛ لأن الشارع الكريم جعل في الكثير من النصوص احتمالية الرأي والرأي المقابل، وفي هذا السياق روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسم فلم يعنف واحدا منهم )
آن الأوان أن يتنفس المجتمع الصعداء، وأن يتحول هذا التشنج بسبب اختلاف الاتجاهات الفقهية إلى وئام ومحبة، وأن نغلق ملف الاختلاف لصالح ملفات النهوض الحضاري، والرقي المعرفي، والاستقرار الاجتماعي؛ فقد سبقتنا الأمم بقرون من الزمن على هذه الأصعدة.