معرض من الموصل :  لون لربيع جديد 
لون لربيع جديد هو العنوان الذي وضعه الفنان الدكتور خليف محمود لمعرضه الشخصي الذي عرض فيه لوحاته في قاعة المتحف بالمركز الطلابي لجامعة الموصل يوم 22/ آذار /2022 وبالتعاون مع مركز دراسات الموصل، يقول الدكتور أخمد جارالله ، من يتجول في المعرض بين اللوحات يجد صدى هذا العنوان التفاؤلي دلاليا في موضوعات اللوحات وفي الالوان الساخنة والبراقة التي يجيد الفنان استخدامها بدقة احترافية عالية ، وفي أماكنها المناسبة لفضاء اللوحة وموضوعها ، وأحيانا تكون حاضرة بشكل هامشي بالكم قياسا الى الالوان المعتمة والعميقة والباردة ، لكنها بصريا مؤثرة جدا في جذب العين جماليا إليها ، وتحريك اللوحة لونيا ، مما يمنح الزائر إحساسا عاما ببهجة الربيع وزهو ألوانه الموعود بها في العنوان ، وتبقى الموصل القديمة موضوعا مركزيا في سيرة الفرشاة عند الفنان الذي رسمها في لوحة كبيرة تبرز جمالياتها اللونية والمعمارية ، ونالت المرأة النصيب الأوفر في شخصيات اللوحة ، فحضرت بكل تاريخها اللوني المظهري ( في الملابس والاكسسوارات والماكياج ) ، والداخلي بمشاعرها المختلفة بين لوحة وأخرى ، مابين الفرح والحزن والتوجس والتباهي والمعاناة ..
وكان للموضوعات الشعبية نصيب آخر من موضوعات المعرض لاسيما المنتخبة من الأسواق التي توفر عادة مادة لونية غنية جدا ومتنوعة ، فضلا عن توفيرها للأشكال الإنسانية المختلفة حسب الفعل لحظة اقتناصه تشكيليا ، وتماثلها أيضا موضوعات الريف والفلاحين ، وأغلب شخوص د. خليف تكون وجوههم في مواجهة المتلقي ، وكأنها قادمة إليه رغبة بالتواصل البصري أو التحاور الجمالي ، كما أن ذلك يعكس نفسيا عنصر التحدي والمواجهة الصريحة مع العالم ولو جماليا وبالألوان .
من اللوحات التي جذبت انتباهي بشكل خاص ، لوحة تتمظهر فيها شخصية ( متي ) البائع الشعبي المتجول المعروف في أسواق الموصل قبل سنوات ، وعلى الرغم من الشحة اللونية في الشكل قياسا الى محيطه ( ربما لتشخيص الفقر الاجتماعي في مظهره البصري أو جانب المعاناة النفسية في اعماقه ) الا ان الفنان عوض ذلك بضربات لونية متنوعة تحيط به وتعوض الشحة اللونية التعبيرية في مظهره المناسبة لكاريزما الشخصية الفقيرة ، وهنا يتجلى التوازن اللوني الجميل بين مظهر الشخصية ومحيطها ، كما أن الضربات اللونية لم تكن بطريقة واحدة او اتجاه واحد وانما تنوعت مابين الحركة العمودية والافقية والمنحنية وحتى العشوائية وكأنها إشارات بصرية إلى تقلبات الحياة والعالم من حولنا أو من حول كل شكل تمركز في لوحاته ، ويكسر الفنان توقعاتنا البصرية بوجود اشكال هندسية نظامية مثل المربعات والمستطيلات اللونية حول الشكل تخالف بترتيبها ونظامها مايمكن أن اسميه ب (التشظي الجمالي )الماثل في الضربات السابقة . وهو اسلوب خاص بالفنان تمظهر في اغلب اعماله ، ورسخ له بصمة فنية في محيطه التشكيلي .
الثورة اللونية حول الشخصية يمكن قراءة دلالاتها اجتماعيا ونفسيا بكون تلك الشخصية الشعبية ( متي ) كانت ممن تدخل السرور الى نفوس من حولها بطابعها البسيط والعفوي الساخر وظرافتها المعروفة ، وهذا مايناظره التشظي الجمالي للون حولها بكرم طاغ من الفرشاة لاسيما الالوان البراقة مثل الاصفر والبرتقالي ، بينما تناظر الانكسار النفسي الدفين للشخصية بسبب فقرها ومعاناتها هذه الالوان الصحراوية والقهوائية والقاحلة المهيمنة على مظهر الشخصية وهي تحتضن جانبا وعاء البيع المتجول قرب خصرها .
ان اسلوب د. خليف ينزاح عن الواقعية في رسم الشخوص والبورتريت بهذه الانزياحات اللونية المحيطة بها التي تزجها في عالم ( اللوحة ) الخاص الجمالي ، تبعدها عن عالم الواقع رغم انتمائها اليه وهنا تكمن حداثة اللوحة لديه وهي تزج المتلقي جماليا في هذه المسافة الجمالية بين الشكل الواقعي وماكان عليه او ماترسخ عن معرفتنا به في الذاكرة ، وبين ماتمظهر به في اللوحة وهو يجد نفسه ( الشكل ) محاطا بهذا التشظي الجمالي الذي يحرك اللوحة بصريا ويجذب المتلقي إليها للبحث إما عن الشكل الواقعي او ماتبقى منه إن كان المتلقي كلاسيكيا تقليديا ، أو البحث عن الانزياحات الحداثية اللونية التجريدية المحيطة بالشكل أو المندمجة معه او المخترقة له إن كان المتلقي حداثي الذوق والرؤية والثقافة .
اسلوب د. خليف بهذا الانتشار للوني الواسع في فضاء اللوحة كله يقصي الفراغ ويملؤه بما أصفه بالسرد البصري التفصيلي الذي لايدع بقعة فارغة من دون لون ما يستحوذ عليها ويتفاعل بصريا مع مايجاوره ، ويصنع الجميع في النهاية ايقاعا بصريا منسجما امام المتلقي ، وهو اسلوب يحمل فلسفيا فكرة الشرقي عن الفراغ ومحاولته التغلب عليه هنا بالسرد اللوني المستمر والمسترسل في أدق التفاصيل ، مثلما تغلبت على الفراغ اللغوي والدلالي قصص الف ليلة وليلة في الأدب .