سعد سعيد الديوه جي يكتب:حديث عن الكتابة المسمارية ومكتبة آشور بانيبال
تعرضت أرض العراق – ما بين النهرين – خلال تاريخها الممتد لأكثر من (5000 عام) لغزوات عسكرية وثقافية مريرة، اتت على بعض معالمها التاريخية والأثرية والحضارية، وكان من سوء حظنا اننا عشنا بعض هذه الغزوات، أثناء الاحتلال الأخير للعراق عندما تُركت المتاحف والمواقع الأثرية للسلب والنهب بينما بقت الدبابات الغازية تحمي وزارة النفط، والآخر عندما دمر الدواعش كل ما وقعت ايديهم عليه من جوامع وكنائس ومواقع اثرية، يريدون بها محو ذاكرة شعب بذرائع دينية انطلت على بعض المغفلين!.
بجانب هذا التدمير المادي ظهرت اصوات تنتقد التاريخ وتحط منه بتفاهة نادرة للتشكيك بحضارة أمة عريقة، فيقول احدهم بان اهل العراق لم يعرفوا الديمقراطية وان حمورابي سادس ملوك الامبراطورية البابلية (1792-1750 ق.م)، صاحب المسلة المشهورة التي احتوت علي (282) مادة قانونية كان اول حاكم ديكتاتوري وان شريعته المكتوبة بالخط المسماري تثير الرعب الجسدي والنفسي!.
ان منهجية الغاء الماضي والتاريخ جملةً وتفصيلاً وبمثل هذه الاساليب مسألة لا يراد منها الا الانتقاص من مقومات الحضارة، فالتاريخ بكل مفاصله يجب ان يكون مدرسة لمن يريد التطلع للمستقبل وذلك تجنباً للخيبة والاحباط، ومحو التاريخ يعني محو الإنسان ثقافياً وحضارياً وتحويله الى كائن لا معنى لوجوده الا بإشباع معدته وغرائزه، فالتاريخ ثقافة والثقافة هي المكون الرئيسي لشخصية الإنسان وعقيدته.
فعندما بدأت الكتابة المسمارية (3000 ق.م تقريباً)، على عهد الحضارة السومرية ثم انتقلت للبابليين والآشوريين عبر الأكديين (الكلدان)، كانت قد بدأت عهداً في فتح أبواب تدوين المعرفة ولولاها لضاع تراث الإنسانية وبقيت البشرية بلا ذاكرة، تتخبط يميناً ويساراً.
يقول المستشرق الشهير ادوارد كييرا في كتابه الشهير “كتبوا على الطين” الذي الفه في الثلاثينات من القرن الماضي، بأن هذه الكتابة تعبرعن تلك الرغبة الدافعة لدى انسان ذلك العصر لتأكيد ذاته من خلال عملية شاقة جداً ومعقدة باستخدام الواح الطين المجفف لغرض الكتابة.
ويقول كييرا “كانت العملية التي قدموا بها تاريخهم وحضارتهم معقدة وشاقة تستحق الاحترام”، وقد وقفنا قليلاً نتأمل عملية تصنيع رُقم (لوح صغير) طيني صغير من اجل الكتابة بأدوات خاصة وان المتداول منه كان بعشرات الألوف وما كان يكتنف العملية من صعوبة في تجميع نوع خاص من الطين وتنقيته وطحنه ونخله وعجنه بعد صب الماء عليه ثم صبه في قوالب خاصة او على شكل اسطوانات، كل ذلك يجعلنا نتخيل صعوبة عملية التعليم التي اساسها الكتابة.
وان الأمر يزداد صعوبة عندما تتم الكتابة على الحجر الصلب، فالقوانين والمعاملات ووثائق التمليك كانت موجودة على رُقم طينية عند اطراف البيع والشراء ونسخ لدى السلطة وكل ما يتعلق بعلوم الطب والهندسة والفلك والقصص كان مسطراً على تلك الرُقم الطينية وحتى على الحجر، مما يؤشر على مهارة كُتاب تلك اللغة.
ويقول السيد كييرا عن شريعة حمورابي هو من السلالة الملكية الأولى التي حكمت بابل (1830 – 1530 ق.م)، والتي اظهرت للعالم ان العقل البابلي لم يكن له مثيل، ومهما كان للرومان من فضل في حق التشريع، فقد سبقهم البابليون فيه بما لا يقل عن ألفي سنة، ثم يردف معقباً “وكلما ازدادت قراءتي للشريعة البابلية إزداد اعجابي بذكاء المشرع”.
لقد ورث البابليون (الساميون) الذين جاءوا من شبه الجزيرة العربية حضارة اهل سومر، فكان امام المشرع مهمة عسيرة، ألا وهي التوفيق بين حضارتين ليستا على خط مستقيم واحد.
ومن خلال الكتابة المسمارية يؤكد السيد كييرا بأن البابليين والآشوريين وهم اقوام سامية جاءوا من شبه الجزيرة العربية قد بذلوا جهوداً مضنية لمعرفة مكان الإنسان في الكون وعرفوا ان الفارق الجوهري الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان هو الذكاء لا الشكل.
لقد كان المُعلم ينتقل هنا وهناك يمارس مهنته ويتبعه تلاميذه، وكان هذا التعليم الخصوصي كافياً لإعداد كتبة يسددون احتياجات اعمال الفروع التجارية وغيرها من امور الدولة، وهذا النوع من التعليم يعادل الدراسات العليا في زماننا هذا، ثم يستمر الطالب بتلقي العلوم حتى يصبح عالماً بالمفهوم السائد آنذاك ومن ثم يدخل سلك الكهانة.
ويشرح سيد كييرا كيف كان الطلاب يعملون نوعاً من الرُقم اللينة التي يعاد عليها الكتابة عدة مرات وكيفية اعطاء الواجبات للطلاب، كل ذلك ليثبت ان شعباً بهذا الإصرار على تجاوز المحن والصعوبات يستحق الاعجاب والاحترام.
لقد سجلت تلك الحضارة كل شيء على الطين بدون كلل ولا ملل، فقد احتل الطب مثلاً مكانة مهمة في الحياة العامة، حتى ان قوانين حمورابي خصصت عدة اقسام منها للجراحة، كما حددت اجور العلاج بالنسبة للحالة الاجتماعية، فأجرة الطبيب التي يتقاضاها من الغنى تختلف عن إجرته التي يتقاضاها من العامل او الرقيق، وان الآشوريين وصفوا علاجاً لأمراض كثيرة.
ولعل اهم انعكاس للكتابة الآشورية المسمارية على مسيرة الثقافة الإنسانية هو ما احتوته مكتبة آشور بانيبال الملقب “الملك المثقف” (668 – 626 ق.م)، فقد تم العثور على رسائل صادرة منه شخصياً موجهة الى احد الحكام يأمره بها بجمع الألواح من المعابد ويرسلها له، وهو احد ملوك نينوى العظام والتي يقول بحقها الرحالة الشهير لكنغهام عام (1816م)، بانها كانت اكبر مدينة ظهرت في العالم آنذاك.
فحتى ذلك الزمان وكما يقول الاستاذ فؤاد قزانجي بأنه يصعب القول بوجود مكتبات عامة، وقد برزت فكرة المكتبة الجامعة في عهد الملك سنحاريب (705 – 681 ق.م)، وعززها خلفه اسرحدون واضاف اليها بعض الرُقم، الا ان آشور بانيبال خصص لها جناحاً مستقلاً في قصره وأخذت صفة المؤسسة المستقلة كمَعلم بارز في سلك الحضارة آنذاك.
وتقع مكتبة آشور بانيبال في جزء واسع من قصره على تل قوينجق المقابل لتل توبة الذي يربض عليه جامع النبي يونس (ع) في نينوى، وكانت أعظم مكتبة عُرفت حتى الآن في التاريخ القديم، فقد تم العثور عليها بين عامي (1845 -1851م)، وفيها أكثر من (31000) رُقم طيني معظمها بحالة جيدة، وهي التي حفظت تراث وادي الرافدين مثل ملحمة جلجامش والقواميس اللغوية البابلية والآشورية وكثير من مبادئ الطب والهندسة والنظريات الرياضية وبراهينها وهي محفوظة في المتحف البريطاني الآن في لندن.
ولقد ثبت تاريخياً بأن آشور بانيبال بعث بكتبته الى جميع ارجاء البلاد الواقعة تحت حكمه ليبحثوا عن الرُقم البابلية والسومرية اي الحضارات السابقة للحضارة الآشورية، ثم قاموا بترجمتها وحفظها، فكانت جسراً بين الثقافات المتلاحقة لوادي الرافدين.
ولو تخيلنا هذه العملية قليلاً حيث لا ورق ولا قلم ولا وسائط نقل حديثة لوقفنا اجلالاً واحتراماً لتلك العقليات التي فكرت بمثل هذه الأمور!، ومن المؤكد ان انجاز هذا العمل قد تطلب وقتاً طويلاً وعدداً كبيراً من الأساتذة المثقفين، وان المترجمين كانوا يلاقون متاعب جمة في النقل من لغة قد بطل استعمالها قبل اكثر من الف عام ألا وهي السومرية.
ويقول الاستاذ قزانجي بأن هذه المكتبة قد عرفت تصنيفاً يدعى بالتصنيف الملكي، وتم فيه تخصيص بعض الأركان للموضوعات الهامة ونقش قائمة بالمحتويات فوق المداخل، حيث رُتبت الرُقم على الرفوف أو في أوعية فخارية أو مزهريات، وكانت الرُقم مرتبة حسب موضوعاتها الرئيسية كالسحر والتنجيم والدين والتاريخ والطب وباقي العلوم.
بالإضافة لذلك فإن طريقة الإعارة كانت طريقة متقدمة اعتمدت التنسيق الحسابي وكانت أعظم ما قدم بخصوص التنظيم المكتبي.
وكان آشور بانيبال فخوراً بعمله هذا فقد دون على كل لوح من ألواح مكتبته عبارة “ممتلكات آشور بانيبال – ملك الجيوش – ملك آشور”.
لقد وضع آشور بانيبال مكتبته في غرف حصينة ذات جدران عريضة سميكة حفظتها من العبث لأكثر من أربع وعشرين قرناً، وحتى بعد تهديم نينوى وسقوطها عام (612ق.م).
أما إن كانت المكتبة مفتوحة أمام الناس جميعاً أم لا، فذلك سؤال لم يجب عليه أحد، إلا أنه من المؤكد كانت موضوعة تحت تصرف العلماء والكهنة ورجال القانون.
ورغم هذه المكتشفات المذهلة فإنها لا زالت تمثل بالنسبة لمعظم الآثاريين ودارسي علم الآشوريات إلا نسبة (10%) أو أقل مما هو موجود فعلاً، وذلك لظروف البلد الذي لم يعرف الإستقرار.
إن تدمير هذه الحضارة مادياً أو الإستهزاء بها من خلال صناديق الإقتراع أمر يدعو للحزن والرثاء وسيلعن التاريخ كل من سعى ويسعى في هذا المجال، لأنها حضارة خالدة من حق البشرية كلها الإفتخار بها.