نواف شاذل طاقة يكتب : الموصل قبل ثلاثة قرون.. مارآه راهب إيطالي
تتجلى متعة كتب التاريخ في تجدد معانيها كلما عاد القارئ إلى تصفحها فتتكشف له حقائق جديدة لم يكن ليدركها من قراءات قديمة للنص ذاته، وهذا تماما ما يجده القارئ عند العودة إلى كتاب “الموصل في القرن الثامن عشر حسب مذكرات دومينيكو لانزا” الذي عربه القس روفائيل بيداويد، وصدرت طبعته الثانية في الموصل سنة 1953.
جاء في مقدمة الكتاب أن رهبانية الاخوة الواعظين في روما أوفدت الراهب دومينيكو لانزا الى الموصل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث أقام فيها لفترتين متعاقبتين، وألف كتابين، لم يحفظ لنا التاريخ منهما سوى هذا الكتاب. يتناول الراهب لانزا في كتابه هذا فترة إقامته في الموصل بين الاعوام 1753-1771م، فيسجل فيه مشاهداته وما سمعه ورآه من أهالي الموصل وأعيانها خلال تلك الفترة.
يقول مُعرِّب الكتاب القس بيداويد في مقدمته إن المخطوطة الايطالية التي اعتمد عليها في تعريب ما جاء فيها عن الموصل كانت قد حُفظت في خزانة السجلات العامة الرهبانية في روما لكنها فقدت في الثورة الرومانية سنة 1848، حتى عثر عليها صدفة أحد الرهبان لدى قصاب في روما كان قد اشتراها لتغليف اللحوم لزبائنه. يستهل لانزا كتابه بالحديث عن تاريخ الموصل وموقعها الجغرافي وواقعها الديمغرافي لافتا الى قدم وجود المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم هناك، حيث كرس صفحات استعرض فيها تاريخ بعض هذه الاديرة ومواقعها، والتي ما برحت قائمة في الموصل وضواحيها حتى يومنا هذا، مشيراً إلى أن القساوسة تعاقبوا على الموصل منذ سنة 500م.
ينتقل بعد ذلك الكاتب إلى أهالي الموصل ودورها ومبانيها، فيؤكد أنه عثر في الموصل أثناء إقامته فيها على أبنية تاريخية كثيرة وقنوات عميقة، وانه رأى “ثلاث طبقات من الأبنية: الواحدة على أنقاض الأخرى” وأنه وجد “تحت الطبقات الثلاث جدرانا ضخمة لقصور كبيرة”. يصطحب الراهب لانزا قراءه في كتابه الشيق إلى حارات الموصل وأزقتها، ويقدم وصفاً جميلاً ونادراً لديارها كما شاهدها، والتي تبدو للقارئ أنها لا تختلف كثيرا في تصميمها عن دور الموصل التي عرفها الاهالي حتى وقت قريب. يصف لانزا هذه البيوت قبل نحو ثلاثمائة سنة بأنها جيدة “ومبنية بالأحجار والطابوق والجص، وهي مريحة” لكنها كانت على طراز واحد، قائلا إنها: “دور لها من الوسط منطقة مفتوحة من جهة الفناء اشبه بغرفة (ربما يطلق عليها الموصليون اليوم اسم ‘الحوش’) ومن الجهة الاخرى تقوم غرفة من الطبقة السفلى جميلة وتتصل بها خزانة”. يتطرق لانزا كذلك الى “السراديب” التي تكثر في بيوت الموصليين، والتي اعتاد الأهالي اللجوء إليها في فصل الصيف اتقاءً للحر.
ولا يفوت لانزا وصف بعض مظاهر الحياة لا سيما نوم الاهالي في ليالي فصل الصيف الحار لنحو 3-4 أشهر من السنة فوق سطوح منازلهم. وعن سكان الموصل، يذكر لانزا انه على الرغم من ما تعرضت له المدينة من حصارات وقلاقل فأنها ظلت واسعة مكتظة بالسكان حيث قدر عدد سكانها عام 1754م بأكثر من 300 ألف نسمة. لم يتوسع الكاتب في تفصيل أصول أهالي الموصل لكنه غالبا ما يشير إلى أن المدينة تضم بين ساكنيها العديد من الاكراد والجنود الاتراك فضلا عن العرب، بطبيعة الحال.
أحصى الكاتب وجود نحو 400 يهودي في المدينة معظمهم من الفقراء، على حد قوله، إضافة الى أكثر من 6000 من النصارى الذين عملوا في مهنة الصياغة والتجارة ويبدو انهم كانوا اوسع رزقا من اليهود، مؤكدا “بأن النصارى لا يختلفون بعاداتهم وازيائهم عن المسلمين” ولم تكن لهم علامات فارقة، وأنهم “يعانون حيفاً أقل مما يعانيه غيرهم في بلاد الدولة العثمانية”. يذكر لانزا إلى أنه بعد أن غادر الموصل اجتاحها الطاعون، وأن رهبان المدينة كتبوا إلى روما قائلين إن الموصل كانت ترسل الجثامين يوميا لدفنها خارج المدينة، وأن عدد من دفنوا خلال الوباء بلغ أكثر من 100 ألف شخص، غير أنهم أكدوا في رسائلهم بأن المدينة ما برحت مكتظة بالسكان.
وبخصوص حالة الموصل الاقتصادية، يتحدث الكاتب عن وفرة الحبوب فيها، واصفا خصوبة اراضيها الزراعية المجاورة لنهر دجلة بانها “تفوق التصور”، وأن غلتها زادت عن حاجة المدينة وربما سدت احتياجات الولايات المجاورة. وعلى الرغم من قلة الاراضي المزروعة، يلفت لانزا إلى أن الأراضي الزراعية جنوب الموصل الواقعة إلى جهة الصحراء لم تزرع بسبب خوف المزارعين من غزوات الأعراب لها.
ويبدو أن زراعة القمح كانت الأوسع انتشارا بين المزارعين، لكنها كانت عرضة في بعض السنوات إلى غزوات أسراب الجراد التي لم تبق ولم تذر. وربما لهذا السبب، وكثرة الكوارث التي تعرضت لها المدينة، تحدث لانزا عن مخازن لحفظ القمح تحت الأرض شيدها الموصليون بأحجام مختلفة وبجدران متينة مطلية بالقار اتسعت لما بين 100-400 كيس قمح، تعود الأهالي على تخزين القمح فيها لفترات طويلة تصل إلى عشرين سنة دون أن تتعرض لأي ضرر، ليعودوا إليها كل ما دعت الضرورة. يضيف الكاتب أن المواد الغذائية الضرورية كانت متوفرة وبأسعار زهيدة مقارنة بغيرها من الولايات، ولا سيما الخبز والعنب والخوخ، نظرا لأن كميات منها كانت ترد إلى الموصل من كردستان، ناهيك عن “الشمزي” والبطيخ الذي يزرع في المدينة.
تجاريا، يبدو أن أسواق الموصل كانت عامرة بالمواد التي تأتي اليها من إيران والهند وأوروبا، على ما يذكره لنا الراهب لانزا، الذي يفصل للقارئ صادرات الموصل الرئيسية، وكانت تشمل، إضافة إلى الحبوب، الاقمشة القطنية بصورة رئيسية والتي يصدر منها الموصليون كميات كبيرة خارج ولايتهم. يلفت الكاتب إلى إن العديد من قرى الموصل كانت قد اشتغلت بزراعة القطن، كما استورد تجارها القطن من كردستان، وانشغلوا بصناعته، أي بقصر القطن وصبغه ونسجه بأشكال مختلفة، ليباع بعدها في الموصل التي يفد اليها التجار من كل صوب وحدب بسبب موقعها الذي يتوسط الولايات. يضيف لانزا أن أسواق الموصل كانت مكان التقاء الأعراب من البادية، والأكراد من الجبال، حيث تنتقل البضائع بعد ذلك إلى ايران عبر جبال كردستان، وإلى بغداد عبر نهر دجلة، ومنها إلى البصرة ثم الهند حتى أوروبا.
يخلص لانزا إلى القول إن: “نتيجة هذه المميزات كانت ثروة الموصل على جانب من الأهمية” لكنه يستذكر بأن هذه الثروة كانت “أعظم لو انتظم فيها الحكم ولم تكن مطمحاً لاستبداد حكام لا هم لهم سوى البحث عن الأغنياء وتحري ثرواتهم.. والاستيلاء عليها كلها أو بعضها”.
ولعل من الضروري التذكير بأن المنسوجات القطنية ما تزال حتى يومنا هذا تعرف في أوروبا باسم (موسلين) أو (موصلين) نسبة إلى مدينة الموصل التي وصلت اقمشتها القطنية إلى أوروبا والهند. وفيما صارت اقمشة (الموصلين) التي وصلت إلى القارة الهندية قبل مئات السنين، ومنها بنغلاديش حالياً، موضوعا تحتفي به منظمة اليونسكو التي اعتبرت قبل سنوات صناعة هذا القماش في بنغلاديش تراثا محليا ينبغي الحفاظ عليه، فان الموصليين الذين صنعوا هذا القماش ونشروه في أصقاع العالم ينتظرون من يخلد مدينتهم التي تعج بأنواع المظاهر التراثية.
يكرس الكاتب صفحات أخرى للحديث عن الأحداث التاريخية التي شهدتها الموصل مبتدئا بحصار طهماسب كلي خان للمدينة (حملة نادر شاه)، ويروي كيف أن الشاه قدم من فارس سنة 1742 “بجيش جرار للاستيلاء على الموصل” لكن الأهالي “من العرب والأكراد والاتراك ومن نصارى القرى المجاورة تحالفوا للدفاع عنها” في حصار دام 42 يوما تكبد فيه الشاه خسائر كبيرة وعاد إلى بلاده مدحوراً. ربما كان وضع الموصل قبل نحو ثلاثمائة عام أفضل مما هو عليه اليوم. يقول الكاتب إن الباب العالي في الاستانة دأب على تعيين الولاة ومن بينهم والي الموصل (الباشا)، بيد أن ضعف الدولة العثمانية، غالبا ما تسبب برضوخ الباب العالي إلى مشيئة باشا بغداد في اختيار حاكمها واقصائه أو توليته، اعتمادا على ما يقدمه باشا الموصل من هدايا ومزايا للباب العالي وباشا بغداد، على حد سواء.وسعى باشا الموصل إلى فرض الضرائب على ابناء المدينة، وسرقة الاثرياء، واضطهاد الفقراء، وهكذا كانت تتوالى الفتن على المدينة، وتنشب الحروب، وتسرق الثروات، ويقتل البشر، ليعود المتنفذون بعدها للحكم والسرقة ، تماما كما هو حال الموصل حالياً، سوى أن الباب العالي انتقل من اسطنبول إلى طهران.