نواف شاذل طاقة يكتب : الموصل قبل ثلاثة قرون.. مارآه راهب إيطالي

تتجلى‭ ‬متعة‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬تجدد‭ ‬معانيها‭ ‬كلما‭ ‬عاد‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬تصفحها‭ ‬فتتكشف‭ ‬له‭ ‬حقائق‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليدركها‭ ‬من‭ ‬قراءات‭ ‬قديمة‭ ‬للنص‭ ‬ذاته،‭ ‬وهذا‭ ‬تماما‭ ‬ما‭ ‬يجده‭ ‬القارئ‭ ‬عند‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ “‬الموصل‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬حسب‭ ‬مذكرات‭ ‬دومينيكو‭ ‬لانزا‭” ‬الذي‭ ‬عربه‭ ‬القس‭ ‬روفائيل‭ ‬بيداويد،‭ ‬وصدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬سنة‭ ‬1953‭.

‬جاء‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬رهبانية‭ ‬الاخوة‭ ‬الواعظين‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬أوفدت‭ ‬الراهب‭ ‬دومينيكو‭ ‬لانزا‭ ‬الى‭ ‬الموصل‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬حيث‭ ‬أقام‭ ‬فيها‭ ‬لفترتين‭ ‬متعاقبتين،‭ ‬وألف‭ ‬كتابين،‭ ‬لم‭ ‬يحفظ‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬منهما‭ ‬سوى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭. ‬يتناول‭ ‬الراهب‭ ‬لانزا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬هذا‭ ‬فترة‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬بين‭ ‬الاعوام‭ ‬1753‭-‬1771م،‭ ‬فيسجل‭ ‬فيه‭ ‬مشاهداته‭ ‬وما‭ ‬سمعه‭ ‬ورآه‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬الموصل‭ ‬وأعيانها‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬

يقول‭ ‬مُعرِّب‭ ‬الكتاب‭ ‬القس‭ ‬بيداويد‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬إن‭ ‬المخطوطة‭ ‬الايطالية‭ ‬التي‭ ‬اعتمد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬تعريب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الموصل‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬حُفظت‭ ‬في‭ ‬خزانة‭ ‬السجلات‭ ‬العامة‭ ‬الرهبانية‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬لكنها‭ ‬فقدت‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬الرومانية‭ ‬سنة‭ ‬1848،‭ ‬حتى‭ ‬عثر‭ ‬عليها‭ ‬صدفة‭ ‬أحد‭ ‬الرهبان‭ ‬لدى‭ ‬قصاب‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اشتراها‭ ‬لتغليف‭ ‬اللحوم‭ ‬لزبائنه‭. ‬يستهل‭ ‬لانزا‭ ‬كتابه‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الموصل‭ ‬وموقعها‭ ‬الجغرافي‭ ‬وواقعها‭ ‬الديمغرافي‭ ‬لافتا‭ ‬الى‭ ‬قدم‭ ‬وجود‭ ‬المسيحيين‭ ‬وكنائسهم‭ ‬وأديرتهم‭ ‬هناك،‭ ‬حيث‭ ‬كرس‭ ‬صفحات‭ ‬استعرض‭ ‬فيها‭ ‬تاريخ‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الاديرة‭ ‬ومواقعها،‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬برحت‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬وضواحيها‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القساوسة‭ ‬تعاقبوا‭ ‬على‭ ‬الموصل‭ ‬منذ‭ ‬سنة‭ ‬500م‭.‬

ينتقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬أهالي‭ ‬الموصل‭ ‬ودورها‭ ‬ومبانيها،‭ ‬فيؤكد‭ ‬أنه‭ ‬عثر‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬أثناء‭ ‬إقامته‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬أبنية‭ ‬تاريخية‭ ‬كثيرة‭ ‬وقنوات‭ ‬عميقة،‭ ‬وانه‭ ‬رأى‭ “‬ثلاث‭ ‬طبقات‭ ‬من‭ ‬الأبنية‭: ‬الواحدة‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬الأخرى‭” ‬وأنه‭ ‬وجد‭ “‬تحت‭ ‬الطبقات‭ ‬الثلاث‭ ‬جدرانا‭ ‬ضخمة‭ ‬لقصور‭ ‬كبيرة‭”. ‬يصطحب‭ ‬الراهب‭ ‬لانزا‭ ‬قراءه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشيق‭ ‬إلى‭ ‬حارات‭ ‬الموصل‭ ‬وأزقتها،‭ ‬ويقدم‭ ‬وصفاً‭ ‬جميلاً‭ ‬ونادراً‭ ‬لديارها‭ ‬كما‭ ‬شاهدها،‭ ‬والتي‭ ‬تبدو‭ ‬للقارئ‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬تصميمها‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬الموصل‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الاهالي‭ ‬حتى‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭. ‬يصف‭ ‬لانزا‭ ‬هذه‭ ‬البيوت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬سنة‭ ‬بأنها‭ ‬جيدة‭ “‬ومبنية‭ ‬بالأحجار‭ ‬والطابوق‭ ‬والجص،‭ ‬وهي‭ ‬مريحة‭” ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬واحد،‭ ‬قائلا‭ ‬إنها‭: “‬دور‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الوسط‭ ‬منطقة‭ ‬مفتوحة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الفناء‭ ‬اشبه‭ ‬بغرفة‭ (‬ربما‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬الموصليون‭ ‬اليوم‭ ‬اسم‭ ‘‬الحوش‭’) ‬ومن‭ ‬الجهة‭ ‬الاخرى‭ ‬تقوم‭ ‬غرفة‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬السفلى‭ ‬جميلة‭ ‬وتتصل‭ ‬بها‭ ‬خزانة‭”. ‬يتطرق‭ ‬لانزا‭ ‬كذلك‭ ‬الى‭ “‬السراديب‭” ‬التي‭ ‬تكثر‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الموصليين،‭ ‬والتي‭ ‬اعتاد‭ ‬الأهالي‭ ‬اللجوء‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الصيف‭ ‬اتقاءً‭ ‬للحر‭. ‬

ولا‭ ‬يفوت‭ ‬لانزا‭ ‬وصف‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬نوم‭ ‬الاهالي‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬فصل‭ ‬الصيف‭ ‬الحار‭ ‬لنحو‭ ‬3‭-‬4‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬فوق‭ ‬سطوح‭ ‬منازلهم‭. ‬وعن‭ ‬سكان‭ ‬الموصل،‭ ‬يذكر‭ ‬لانزا‭ ‬انه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ما‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬حصارات‭ ‬وقلاقل‭ ‬فأنها‭ ‬ظلت‭ ‬واسعة‭ ‬مكتظة‭ ‬بالسكان‭ ‬حيث‭ ‬قدر‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭ ‬عام‭ ‬1754م‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬300‭ ‬ألف‭ ‬نسمة‭. ‬لم‭ ‬يتوسع‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تفصيل‭ ‬أصول‭ ‬أهالي‭ ‬الموصل‭ ‬لكنه‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المدينة‭ ‬تضم‭ ‬بين‭ ‬ساكنيها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الاكراد‭ ‬والجنود‭ ‬الاتراك‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬العرب،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭.

‬أحصى‭ ‬الكاتب‭ ‬وجود‭ ‬نحو‭ ‬400‭ ‬يهودي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الفقراء،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قوله،‭ ‬إضافة‭ ‬الى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬6000‭ ‬من‭ ‬النصارى‭ ‬الذين‭ ‬عملوا‭ ‬في‭ ‬مهنة‭ ‬الصياغة‭ ‬والتجارة‭ ‬ويبدو‭ ‬انهم‭ ‬كانوا‭ ‬اوسع‭ ‬رزقا‭ ‬من‭ ‬اليهود،‭ ‬مؤكدا‭ “‬بأن‭ ‬النصارى‭ ‬لا‭ ‬يختلفون‭ ‬بعاداتهم‭ ‬وازيائهم‭ ‬عن‭ ‬المسلمين‭” ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لهم‭ ‬علامات‭ ‬فارقة،‭ ‬وأنهم‭ “‬يعانون‭ ‬حيفاً‭ ‬أقل‭ ‬مما‭ ‬يعانيه‭ ‬غيرهم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭”. ‬يذكر‭ ‬لانزا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬الموصل‭ ‬اجتاحها‭ ‬الطاعون،‭ ‬وأن‭ ‬رهبان‭ ‬المدينة‭ ‬كتبوا‭ ‬إلى‭ ‬روما‭ ‬قائلين‭ ‬إن‭ ‬الموصل‭ ‬كانت‭ ‬ترسل‭ ‬الجثامين‭ ‬يوميا‭ ‬لدفنها‭ ‬خارج‭ ‬المدينة،‭ ‬وأن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬دفنوا‭ ‬خلال‭ ‬الوباء‭ ‬بلغ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬أكدوا‭ ‬في‭ ‬رسائلهم‭ ‬بأن‭ ‬المدينة‭ ‬ما‭ ‬برحت‭ ‬مكتظة‭ ‬بالسكان‭.‬

وبخصوص‭ ‬حالة‭ ‬الموصل‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬يتحدث‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬وفرة‭ ‬الحبوب‭ ‬فيها،‭ ‬واصفا‭ ‬خصوبة‭ ‬اراضيها‭ ‬الزراعية‭ ‬المجاورة‭ ‬لنهر‭ ‬دجلة‭ ‬بانها‭ “‬تفوق‭ ‬التصور‭”‬،‭ ‬وأن‭ ‬غلتها‭ ‬زادت‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬المدينة‭ ‬وربما‭ ‬سدت‭ ‬احتياجات‭ ‬الولايات‭ ‬المجاورة‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬الاراضي‭ ‬المزروعة،‭ ‬يلفت‭ ‬لانزا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬جنوب‭ ‬الموصل‭ ‬الواقعة‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬الصحراء‭ ‬لم‭ ‬تزرع‭ ‬بسبب‭ ‬خوف‭ ‬المزارعين‭ ‬من‭ ‬غزوات‭ ‬الأعراب‭ ‬لها‭.

‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬زراعة‭ ‬القمح‭ ‬كانت‭ ‬الأوسع‭ ‬انتشارا‭ ‬بين‭ ‬المزارعين،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬عرضة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬السنوات‭ ‬إلى‭ ‬غزوات‭ ‬أسراب‭ ‬الجراد‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تبق‭ ‬ولم‭ ‬تذر‭. ‬وربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب،‭ ‬وكثرة‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬لها‭ ‬المدينة،‭ ‬تحدث‭ ‬لانزا‭ ‬عن‭ ‬مخازن‭ ‬لحفظ‭ ‬القمح‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭ ‬شيدها‭ ‬الموصليون‭ ‬بأحجام‭ ‬مختلفة‭ ‬وبجدران‭ ‬متينة‭ ‬مطلية‭ ‬بالقار‭ ‬اتسعت‭ ‬لما‭ ‬بين‭ ‬100‭-‬400‭ ‬كيس‭ ‬قمح،‭ ‬تعود‭ ‬الأهالي‭ ‬على‭ ‬تخزين‭ ‬القمح‭ ‬فيها‭ ‬لفترات‭ ‬طويلة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتعرض‭ ‬لأي‭ ‬ضرر،‭ ‬ليعودوا‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬دعت‭ ‬الضرورة‭. ‬يضيف‭ ‬الكاتب‭ ‬أن‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬الضرورية‭ ‬كانت‭ ‬متوفرة‭ ‬وبأسعار‭ ‬زهيدة‭ ‬مقارنة‭ ‬بغيرها‭ ‬من‭ ‬الولايات،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الخبز‭ ‬والعنب‭ ‬والخوخ،‭ ‬نظرا‭ ‬لأن‭ ‬كميات‭ ‬منها‭ ‬كانت‭ ‬ترد‭ ‬إلى‭ ‬الموصل‭ ‬من‭ ‬كردستان،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ “‬الشمزي‭” ‬والبطيخ‭ ‬الذي‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

تجاريا،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أسواق‭ ‬الموصل‭ ‬كانت‭ ‬عامرة‭ ‬بالمواد‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬اليها‭ ‬من‭ ‬إيران‭ ‬والهند‭ ‬وأوروبا،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يذكره‭ ‬لنا‭ ‬الراهب‭ ‬لانزا،‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬للقارئ‭ ‬صادرات‭ ‬الموصل‭ ‬الرئيسية،‭ ‬وكانت‭ ‬تشمل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الحبوب،‭ ‬الاقمشة‭ ‬القطنية‭ ‬بصورة‭ ‬رئيسية‭ ‬والتي‭ ‬يصدر‭ ‬منها‭ ‬الموصليون‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬خارج‭ ‬ولايتهم‭. ‬يلفت‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬إن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬الموصل‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬اشتغلت‭ ‬بزراعة‭ ‬القطن،‭ ‬كما‭ ‬استورد‭ ‬تجارها‭ ‬القطن‭ ‬من‭ ‬كردستان،‭ ‬وانشغلوا‭ ‬بصناعته،‭ ‬أي‭ ‬بقصر‭ ‬القطن‭ ‬وصبغه‭ ‬ونسجه‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة،‭ ‬ليباع‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ ‬التي‭ ‬يفد‭ ‬اليها‭ ‬التجار‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صوب‭ ‬وحدب‭ ‬بسبب‭ ‬موقعها‭ ‬الذي‭ ‬يتوسط‭ ‬الولايات‭. ‬يضيف‭ ‬لانزا‭ ‬أن‭ ‬أسواق‭ ‬الموصل‭ ‬كانت‭ ‬مكان‭ ‬التقاء‭ ‬الأعراب‭ ‬من‭ ‬البادية،‭ ‬والأكراد‭ ‬من‭ ‬الجبال،‭ ‬حيث‭ ‬تنتقل‭ ‬البضائع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ايران‭ ‬عبر‭ ‬جبال‭ ‬كردستان،‭ ‬وإلى‭ ‬بغداد‭ ‬عبر‭ ‬نهر‭ ‬دجلة،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬البصرة‭ ‬ثم‭ ‬الهند‭ ‬حتى‭ ‬أوروبا‭.

‬يخلص‭ ‬لانزا‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭: “‬نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬المميزات‭ ‬كانت‭ ‬ثروة‭ ‬الموصل‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭” ‬لكنه‭ ‬يستذكر‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬كانت‭ “‬أعظم‭ ‬لو‭ ‬انتظم‭ ‬فيها‭ ‬الحكم‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مطمحاً‭ ‬لاستبداد‭ ‬حكام‭ ‬لا‭ ‬هم‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأغنياء‭ ‬وتحري‭ ‬ثرواتهم‭.. ‬والاستيلاء‭ ‬عليها‭ ‬كلها‭ ‬أو‭ ‬بعضها‭”.

‬ولعل‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬المنسوجات‭ ‬القطنية‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬باسم‭ (‬موسلين‭) ‬أو‭ (‬موصلين‭) ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الموصل‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬اقمشتها‭ ‬القطنية‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬والهند‭. ‬وفيما‭ ‬صارت‭ ‬اقمشة‭ (‬الموصلين‭) ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬القارة‭ ‬الهندية‭ ‬قبل‭ ‬مئات‭ ‬السنين،‭ ‬ومنها‭ ‬بنغلاديش‭ ‬حالياً،‭ ‬موضوعا‭ ‬تحتفي‭ ‬به‭ ‬منظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬صناعة‭ ‬هذا‭ ‬القماش‭ ‬في‭ ‬بنغلاديش‭ ‬تراثا‭ ‬محليا‭ ‬ينبغي‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليه،‭ ‬فان‭ ‬الموصليين‭ ‬الذين‭ ‬صنعوا‭ ‬هذا‭ ‬القماش‭ ‬ونشروه‭ ‬في‭ ‬أصقاع‭ ‬العالم‭ ‬ينتظرون‭ ‬من‭ ‬يخلد‭ ‬مدينتهم‭ ‬التي‭ ‬تعج‭ ‬بأنواع‭ ‬المظاهر‭ ‬التراثية‭.‬

يكرس‭ ‬الكاتب‭ ‬صفحات‭ ‬أخرى‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬الموصل‭ ‬مبتدئا‭ ‬بحصار‭ ‬طهماسب‭ ‬كلي‭ ‬خان‭ ‬للمدينة‭ (‬حملة‭ ‬نادر‭ ‬شاه‭)‬،‭ ‬ويروي‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الشاه‭ ‬قدم‭ ‬من‭ ‬فارس‭ ‬سنة‭ ‬1742‭ “‬بجيش‭ ‬جرار‭ ‬للاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الموصل‭” ‬لكن‭ ‬الأهالي‭ “‬من‭ ‬العرب‭ ‬والأكراد‭ ‬والاتراك‭ ‬ومن‭ ‬نصارى‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬تحالفوا‭ ‬للدفاع‭ ‬عنها‭” ‬في‭ ‬حصار‭ ‬دام‭ ‬42‭ ‬يوما‭ ‬تكبد‭ ‬فيه‭ ‬الشاه‭ ‬خسائر‭ ‬كبيرة‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬مدحوراً‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬وضع‭ ‬الموصل‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬عام‭ ‬أفضل‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭. ‬يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬إن‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬في‭ ‬الاستانة‭ ‬دأب‭ ‬على‭ ‬تعيين‭ ‬الولاة‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬والي‭ ‬الموصل‭ (‬الباشا‭)‬،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬ضعف‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تسبب‭ ‬برضوخ‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬إلى‭ ‬مشيئة‭ ‬باشا‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬حاكمها‭ ‬واقصائه‭ ‬أو‭ ‬توليته،‭ ‬اعتمادا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬باشا‭ ‬الموصل‭ ‬من‭ ‬هدايا‭ ‬ومزايا‭ ‬للباب‭ ‬العالي‭ ‬وباشا‭ ‬بغداد،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬وسعى‭ ‬باشا‭ ‬الموصل‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬الضرائب‭ ‬على‭ ‬ابناء‭ ‬المدينة،‭ ‬وسرقة‭ ‬الاثرياء،‭ ‬واضطهاد‭ ‬الفقراء،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬تتوالى‭ ‬الفتن‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬وتنشب‭ ‬الحروب،‭ ‬وتسرق‭ ‬الثروات،‭ ‬ويقتل‭ ‬البشر،‭ ‬ليعود‭ ‬المتنفذون‭ ‬بعدها‭ ‬للحكم‭ ‬والسرقة‭ ‬،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الموصل‭ ‬حالياً،‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬اسطنبول‭ ‬إلى‭ ‬طهران‭.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *