تقرير: المحاصصة داخل الوزارات العراقية تشترط الولاء والانتماء ولا تعبأ بالتخصصات
تسلط اعتصامات خريجي الجامعات العراقية أمام مباني الوزارات والمؤسسات الحكومية، من أجل الحصول على فرصة عمل، الضوء على اختراق أحزاب الإسلام السياسي منظومة العمل الوظيفي وتحويلها إلى بوابة للاستقطاب وتعزيز النفوذ داخل هياكل الدولة.
وتقول إحدى حاملات الشهادات العليا، إنها تملك شهادة دكتوراه في الفيزياء النووية، وعندما حاولت أن تعمل في إحدى الدوائر بمدينة النجف، طُلِب منها أن تقدم تزكية من حزب إسلامي.
وتوضح أنها تدرجت في الشهادة والتخصص، حتى استكملت متطلبات التعيين في مجال الفيزياء النووية الواعد، لكنْ لم يهتم بتخصصها أحد، بل اهتمّوا بولائها وانتمائها.
وتعد فرصة العمل في العراق عملة نادرة، لأنها مقتصرة على التوظيف في القطاع الحكومي، بعد موت القطاع الخاص سريريا، بسبب الاقتصاد الريعي الأحادي وشيوع الفساد بين مؤسسات الدولة وسوء الإدارة.
ولم تعد الحكومة العراقية تملك أي إحصائيات عن عدد الموظفين لديها، لأن عملية التوظيف تخضع لنظام المحاصصة السياسية، الذي تتوزع بموجبه الوظائف من درجة وزير حتى درجة عامل نظافة على الأحزاب التي تمثل المكونات الطائفية والقومية.
ويمكن للأحزاب القوية أن تزيد من حصتها جزافا أو تستولي على حصص أطراف أخرى، في تجسيد حي لمنطق الغاب؛ فعلى سبيل المثال استخدم حزب الدعوة الإسلامية، في حقبة نوري المالكي بين 2006 و2014، التعيين الحكومي لكسب مئات الآلاف من الأصوات خلال عمليات الاقتراع المتعددة التي جرت في تلك الحقبة.
وهيمن الحزب على جميع مؤسسات الدولة في تلك الفترة، بعدما انتهج زعيمه نوري المالكي نهجا دكتاتوريا إقصائيا طائفيا في التعاطي مع الشركاء.
وبقي المالكي يجني ثمار تلك الحقبة حتى بعد منعه من الحصول على ولاية ثالثة في منصب رئيس الوزراء عام 2014. لكن خليفته في هذا المنصب، وهو حيدر العبادي، كان قياديا في الدعوة أيضا، ما سمح لهذا الحزب بتعزيز مكاسب حضوره داخل مؤسسات الدولة.
وحتى تضمن الأحزاب الدينية ولاء من تعينهم في دوائر الدولة تطلب منهم تزكية من قِبَل أشخاص موثوقين لديها.
وتعتمد الأحزاب الدينية على رجال دين عادة ما تكون لديهم أنشطة دعوية دورية، لذلك يكونون معروفين على نطاق اجتماعي واسع. ومقابل التزكية، يحصل رجال الدين على امتيازات مالية عديدة من قِبل الأحزاب التي يخدمونها.
وبمرور الأعوام، تشكلت شبكة صلبة من أحزاب دينية ورجال دين، تتحكم في جانب كبير من عملية التوظيف في الدوائر الحكومية، لاسيما في مناطق الوسط والجنوب.
وتستخدم الأحزاب الدينية الموظفين العاديين الذين تزرعهم في مؤسسات الدولة، خلال الانتخابات أو عند تنظيم تظاهرات موجهة، أما الموظفون المقربون جدا من الأحزاب فعادة ما يقومون بمهام تجسسية لصالح الجهات السياسية التي يوالونها، أو يسهمون في حصول شركاتها على عقود تنفيذ مشاريع حكومية تدر أرباحا بملايين الدولارات.
وهكذا، تحولت الدولة إلى مجرد وسيلة في أيدي الأحزاب الدينية، تستخدمها لتعزيز نفوذها وتساعدها في كسب المزيد من الأنصار، حتى لو لم يكونوا مؤمنين بنموذج الإسلام السياسي.
ودائما ما تجد الأحزاب الدينية أنصارا محتملين في دوائر المتخرجين حديثا من الجامعات في الدراسات الأولية والعليا، إذ يتسابق هؤلاء للحصول على فرص عمل.
وتستغل الأحزاب الدينية حاجة المتخرجين الماسة إلى العمل وتفرض عليهم قيودا سياسية غير مباشرة، تضمن لها استخدامهم وقت ما تشاء.
وعندما تولى مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة العراقية في مايو الماضي، بعدما أطاحت احتجاجات شعبية غير مسبوقة بحكومة عادل عبدالمهدي، ظن الباحثون عن فرص عمل خيرا، على اعتبار أن رئيس الوزراء الجديد لا ينتمي إلى المنظومة الحزبية التي تدير شؤون التوظيف عبر شبكة معروفة، تعمل وفقا لنمط محدد.
لكن الكاظمي لم يكن قادرا على فعل الكثير، لاسيما عندما تأكد من أن عبدالمهدي أنفق خلال الأشهر الستة التي سبقت مغادرته الموقع، نحو 20 مليار دولار في منح وعقود عمل مؤقتة بحجة تلبية طلبات المتظاهرين.
وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، عادت تجمعات خريجي الجامعات إلى الظهور أمام المباني الحكومية، ضمن فعاليات اعتصام للمطالبة بالتوظيف الحكومي.
ويقول مراقبون إن خصوم الكاظمي ربما يستخدمون هذه التجمعات للضغط على الحكومة، في توقيت حساس يشهد تصعيدا حادا بين الولايات المتحدة وإيران على الأراضي العراقية.
ويقول مراقبون إن دفع الخريجين الغاضبين المعتصمين لاقتحام مبان حكومية قد يكون وصفة إيرانية مثالية لقلب الأوضاع على حكومة الكاظمي، المتهمة بالاصطفاف ضمن المعسكر الأميركي، في مواجهة المعسكر الإيراني.
المصدر: صحيفة العرب