قادمون يا نينوى وحرب الشعارات حامد الكيلاني
العراق في قلب العاصفة الطائفية للمشروع الإيراني وجزء فاعل من الصراع ضد الإرهاب، من الرموز إلى ميدان المعركة، ويكفي أن نتأمل في شعار ‘قادمون يا نينوى’ حتى نتذكر جرائم الإبادة والشحن الطائفي.
صادقت رئاسة الجمهورية في العراق على قانون ميليشيات الحشد الشعبي، ربما لا أحد يلتفت إلى خبر خطير يؤدي، في مضمونه، إلى متغيرات جذرية وهيكلية تتعلق بالمؤسسة الأمنية والعسكرية للبلاد. عدم الاهتمام يأتي في سياق غياب صلاحيات اتخاذ القرارات الحاسمة من قبل الشخصيات الاعتبارية الرسمية حتى وهي في قمة هرم السلطة، والأكثر صلة مفردة اليأس العام من الرفض أو إبداء الرأي والتشاور، فزمن الاعتزاز بالكاريزما والتاريخ الشخصي للفرد المسؤول سحقته تماما الإرادات الطائفية، وقبلها الخيانة العظمى بالسعي لاستقدام الاحتلال وبتوسل لصناعة مبررات لازمة اعتمدتها أميركا وتبين لها في ما بعد أو أجبرتها الحقائق على الاعتراف بالأكاذيب الخاصة لامتلاك العراق أسلحة دمار شامل أو صلته بأحداث 11 سبتمبر في نيويورك.
من أسلوب الأداء البرلماني في إقرار القانون المذكور بالأغلبية الطائفية، وما حصل بعده من انقسامات حادة يقابلها شعور بنشوة الانتصار وكسر إرادة الطرف الآخر، يبدو الحديث عن المستقبل مفتوحا وبلا حدود أو توقيتات، فتوقعات مرحلة ما بعد داعش تتصاعد، وبعضهم يستبدل داعش لتكون مرحلة ما بعد الموصل؛ فوارق اللغة واسعة بين مغزى المرحلتين، وإن استخدمت لتعني ما بعد خلاص الموصل من داعش.
مستقبل العـراق يرتبط جـزء منه بالقضـاء على صورة “التنظيم” ومقاتليه كمجموعات مستهدفة ومعلومة، وهذه الجزئية تقودنا إلى مستقبل داعش أو الإرهاب في العراق والمنطقة تحت كل التسميات كسلع ترويج للمشاريع الإقليمية والدولية، مستقبل مبهم المعالم لأننا جربنا في السنوات الأخيرة تجارب متعددة لإخماد حريق الإرهاب، دون الإجهاز على تلك الجمرات المتوقدة تحت رماد المشكلات الجوهرية التي أدت إليه.
نتائج تنظيم داعش أفرزته كغاية لتحقيق غايات متضاربة معظمها تصب في صالح أعدائه المفترضين، والواقع يؤكد أنه كان ورقة لتدمير الموصل وتجييش التحالف الدولي ضدها، ومنح صك على بياض لتأسيس نواة الجيش الطائفي، وليس مجرد حشد فتوى طائفية مسوّغها الزمني محدود ويقتصر على مهمة مؤقتة فرضتها الظروف الأمنية، ونعني بها تسليم الموصل بكل تجهيزات قواتها المتقدمة تكنولوجيا خلال ساعات والهروب المخجل أمام قوة لمجموعة من الأفراد وصدمات تفجيرات انتحارية لم تكن استثنائية إذ سبق للتنظيم القيام بها العشرات من المرات.
كما أعطى تنظيم داعش تفويضا للنظام السياسي في العراق الذي يقوده حزب الدعوة الطائفي لارتكاب جرائمه، احتفل الحزب قبل أيام بعيد تأسيسه الستين وتبارى الخطباء في الحفل لتعداد مناقب دعوتهم القديمة لعراق الطائفة أولا، ودعوتهم الجديدة للتسوية والإصلاح والمصالحة المجتمعية والسياسية ما بعد مرحلة تحرير الموصل “باستثناء المجرمين” وهو وصف دقيق بمقاسات عمالة الحزب للمرجعيات الدينية والسياسية الإيرانية، حتى كلمة العمالة غير مناسبة ولا تنطبق تماما مع الواقع، فالعمالة تكون للأجنبي أما حزب الدعوة فهو نبتة طفيلية إيرانية أتت على النبتات الخيرة في تـربة العراق، ورهنت حاضره وغده للثأر والانتقام بين مكوناته.
تعداد مناقب حزب الدعوة لا يوازي إلا تعداد منـاقب داعـش في استبـاحة الميليشيات والتعجيل بتوفير الغطاء القانوني لها للذهاب بعيدا في مهمات الجيش الطائفي العابر للحدود الجغرافية، وهو جيش إقليمي للمشروع الإيراني يستهدف ضرب الأمة العربية وتقويضها بتنمية الصراعات الداخلية والفتن وخلق سعار ورهاب طائفي متبادل، النموذج العراقي تم تعميمه في دول، وقيد التعميم في دول أخرى.
نهاية داعش وبداية التسوية قبل نهاية داعش، بمعنى أن الموصل غير محررة والتسوية غير منجزة وما ينجز منها يكون مع الرضوخ لسلطة الأحزاب الإيرانية الولاء سرا وعلانية؛ زفة وداع بالطبل والمزمار لعراقنا الذي عرفناه وتعايشنا فيه كمواطنين متآخين، رغم الانتقادات الموجهة لكل الحكومات منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
العراق القادم أخطر ما فيه تلاشي شماعة داعش للنظام السياسي الحاكم، سيكون النظام بمواجهة حقيقية مع مستلزمات شعب انهارت فيه دولته واستنزفت طاقته عسكريا واقتصاديا واجتماعيا، وبات على زعمائها الطائفيين تحسين صورتهم بالأداء العملي في توفير الخدمات وفرص العمل، وعندها لن تجدي الخطب وبيانات معارك التحرير والاعتماد على الحشود المليونية لإحياء الطقوس والمناسبات الدينية نفعا لبناء حياة كريمة للعراقيين.
الواقع السياسي في العراق الآن أشبه بهجمة شرسة على مرمى في مباراة لكرة قدم ولم يتبق سوى لاعب دفاع متأخر بتجاوزه يصبح المرمى مفتوحاً لتسجيل هدف، والهدف لمرحلة ما بعد الموصل تسوية مجتمعية وسياسية فاشلة للانفراد بالحكم الطائفي الإيراني.
لذلك الحذر مطلوب جدا، فخيوط إرساء مناقصة المشروع الإيراني رست على إنجاز الإبادات واكتمال العروض وتجهيز العراق بقوة الطائفية ويدها الضاربة المتمثلة بالحشد المحمي بالقانون الذي صادقت عليه رئاسة الجمهورية؛ غدا لناظره قريب، سيدفع العراق من دمه وحياته ومستقبله للخلاص من نتائج ما بعد تحرير الموصل الذي سيتسيده جيش الطائفة وسياسيو الطائفة؛ الموصل ستقرر مستقبل العراق لعقود، ليس فقط لأنها نهاية مرحلة الإرهاب، لكنها مرحلة السيادة الإيرانية ومشروعها على مقدرات العراق.
في ظل هذا السيناريو الذي اكتملت أدواته، ما هو الحل؟
الرهان على الشعب يبدو أنه لا يخضع للمنطق بحكم تهميش وخراب عدد من المحافظات المطلوبة لإرهاب الدولة منذ بدء الاحتلال ولإرهاب التنظيم المتطرف، إبعاد الشعب من معادلة التغيير تم على مراحل، وصناديق الانتخابات روضت على اللاجدوى والاصطفاف الطائفي؛ الانقلاب العسكري المفاجئ احتمال دراماتيكي يتطلب مواقف دولية متعاطفة وداعمة سياسيا وعسكريا، لكن الأقرب هو انتظار موقف الإدارة الأميركية الجديدة من حكام منطقتهم الخضراء، وأيضا بوادر علاقتهم بإيران على ضوء تباين التصريحات حول الاتفاق النووي معها وتمديد العقوبات لعشر سنوات، وردود الفعل الإيرانية الداعية إلى استئناف تخصيب اليورانيوم فيما لو أقدمت إدارة دونالد ترامب على رفض الاتفاق ونوعية ما سينتج عنه من مؤثرات على الساحة العراقية.
مصادقة رئاسة الجمهورية على قانون ميليشيات الحشد الشعبي تكرار ممل لطريقة المصادقة على إقراره في البرلمان بتجاوز رافضيه، بواقعية غلبة الأكثرية الطائفية، وما تصريحات رئيس منظمة بدر وتأكيده على أن معركة الموصل لن تحسم في القريب العاجل إلا شاهد على تفرد الحشد الشعبي بالهيمنة على ساحة المعركة، وتحمل في طياتها تجاوزا للقائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي، وتقديراته للمدة القصيرة المطلوبة لإكمال تحرير الموصل.
العراق في قلب العاصفة الطائفية للمشروع الإيراني وجزء فاعل من الصراع ضد الإرهاب بكل تصنيفه، من الرموز إلى ميدان المعركة، ويكفي أن نتأمل في شعار “قادمون يا نينوى” حتى نتذكر جرائم الإبادة والشحن الطائفي والقمع ضد ساحات الاعتصام التي استفزت قادة حزب الدعوة وسلطتهم عندما رفعت شعار “قادمون يا بغداد” وجوبهوا بالوعيد والرد والقصاص والثأر الطائفي وكان لهم ما أرادوا؛ لكن صدورهم واغرة بالغيظ واختاروا “قادمون يا نينوى” بما يعطي انطباعا بالهجوم المقابل على نينوى وأهلها.
من يخطط يدرك أسرار صنعته وتأثيرها النفسي في تأليب الشعور الطائفي وتفجيره في الوقت المحدد، وأنا أنهي المقال أتابع على شاشة فضائية ما، حصانا بريا جامحا سقط في شرك أسلاك شائكة غريبة عن المكان، فما كان من الحصان إلا الرفس بقوة رفضا للورطة وتعلقا بالحياة، النهاية مفتوحة في العراق والمنطقة والعالم أيضا.
كاتب عراقي
حامد الكيلاني