د. ريان توفيق يكتب : تعليق صلاة الجمعة بسبب فيروس كورونا بين الخطاب المقاصدي والخطاب العاطفي
صدرت يوم أمس فتوى من المجلس الإفتائي في نينوى بتعليق صلاة الجمعة بسبب المخاوف من فيروس كورنا .. وبعد دقائق انقسم المغردون ما بين مؤيد وعارض .. وسأسلط الضوء على ما تمسك به الفريق المعارض .. الذي صّدَّر اعتراضاته بجملة من العبارات الشديدة في وطئتها.. منها: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا )) .. “من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله” .. “حسبنا الله ونعم الوكيل” .. لماذا لايتم منع التنزه وتمنع صلاة الجمعة؟! .. الخ
ومع تقديري للعاطفة الجياشة لهذا الفريق إلا أن الشريعة لا تقيم لهذه العاطفة في هذه الحالة ولا لهذه الاستدلالات وزنا .. فليس أولئك المعترضون – أدامهم الله – أحرص على الصلاة من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.. فعن سيدنا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة ، أو المطيرة في السفر )) رواه البخاري .. بل ورد هذا في صلاة الجمعة ذاتها فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ ، قَالَ : (( شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ ، يَوْمَ جُمُعَةٍ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى : أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ )) رواه الطبراني.. فإذا كان مجرد المطر أو البرد مسوغا لإسقاط الجماعة أو الجمعة فلئن يكون خوف الإصابة بالمرض مسوغا لإسقاط الجمعة من باب الأولى .
ومما يجب أن نعلمه أن حفظ النفس مقصد من مقاصد الشريعة .. ومن هذا المنطلق قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد )) رواه البخاري .. والجذام مرض معد، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالفرار منه، وهذا يعني أن مناط الحكم هنا هو احتمالية العدوى، لا كما يردد بعض الأخوة (( من صلى الفجر بجماعة فهو ذمة الله )) إشارة إلى صلاة الفجر واقية بحد ذاتها .. فالذي قال هذا – صلى الله عليه وسلم – هو ذاته الذي قال: (( لا تُورِدوا المُمرِض على المصح )) رواه البخاري، فقد نهى النبي عليه السلام عن إيراد المريض على الصحيح .. إشارة إلى ضرورة عزل المريض.. ولما كان الحامل لفيروس كورنا قد لا تظهر عليه الأعراض، ويبقى حاضنا للفيروس مدة قد تصل إلى أربعة عشر يوما، لذا وجب الغوص في أعماق هذه النصوص واستنطاقها للتعاطي مع هذا الفيروس الذي صنفته منظمة الصحة العالمية بأنه قد دخل مرحلة الوباء.. وذلك من خلال منع التجمعات التي تعد مدعاة لنقل الفيروس.
والأدلة في هذا الصدد كثيرة لا يمكن في هذا المقام استيعابها .. والذي أريد أن أقوله أنه يجب أن نغادر ثقافة الرأي الواحد، ونظرية المؤامرة في هذه المسألة ومثيلاتها، فالكل حريص على الشعائر، ولا أحد يجرؤ على القول بهذه النازلة دون حزمة كبيرة من الأدلة والقواعد .
إن المسؤولية الشرعية والأخلاقية والاجتماعية تستدعي القول بتعليق خطبة الجمعة وكافة التجمعات.. ولقد رسم لنا البيان القرآني الكريم خارطة طريق في مثل هذه النوازل ؛ فقال المولى جل شأنه: ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )).. فليس الكل مؤهلا للاستنباط، وليس الكل قادرا على تقدير الضروريات والحاجيات، وليس الكل قادرا على التعاطي مع الأدلة ومناطات الأحكام .
ولنعلم أن لنا شريعة راقية في مقاصدها، رحيمة في أحكامها، ولكن الخلل في النظرة التجزئية للنصوص وعدم فهمها ضمن النسق العام.
وقى الله بلدنا وشعبنا من الأمراض والأسقام .. وكل حين وأنتم بصحة وعافية وراحة بال.