معركة الموصل.. إشكالية التعبئة في غياب الدولة ربيع الحافظ
لا تقل أحداث الموصل عمقا عن تلك التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، غير أن الأخيرة اصطحبت معها وقبلها مدا فكريا أبدل حقبة ثقافية مكان أخرى وازدحمت به المكتبة العربية. كان المد غطاء للحدث العسكري وقت وقوعه (الثورة العربية) ثم مجرى لنهره السياسي عاشت مجتمعات المنطقة على ضفتيه نصف قرن، في وقت تبقى فيه أحداث الموصل بعيدة عن عناوين تظهر ما يجري، وعن أفكار تتناول مآلاته، وتعدّ لمشهد قادم يرث حقبة منتهية تتضح معالمها مع كل يوم.
كانت مآلات الحرب العالمية الأولى “فيزيائية” بمعنى أن المجتمع الإقليمي (العثماني) الكبير تشظى إلى مجتمعات أصغر أمسكت بالخصائص الاجتماعية للكيان الكبير ونمط العيش وبالنظام السياسي فأعادت إنتاج حكومات مركزية على نمط الحكومة المركزية الإقليمية في إسطنبول.
كان الطوب الناجم عن تقويض الجدار العثماني مادة البناء الوحيدة المتاحة لتشييد صرح بديل وكان هو الشخصية العربية السنية التي مثلت الخيمة السياسية والاجتماعية والمواطنة في النظام الإقليمي وآوت أقلياته الدينية والمذهبية والقومية. أرادت هذه الشخصية الاستمرار بأدوارها السابقة وإعادة نصب الخيمة على رقعة جغرافية أصغر وإليها يعزى نشوء كيانات مدنية -في حقبة هرج ومرج سياسي وأمني واقتصادي- آوت الأقليات من جديد لتعرف تلك الكيانات بـ “الدولة الحديثة”.
“كان الطوب الناجم عن تقويض الجدار العثماني مادة البناء الوحيدة المتاحة لتشييد صرح بديل وكان هو الشخصية العربية السنية التي مثلت الخيمة السياسية والاجتماعية والمواطنة في النظام الإقليمي وآوت أقلياته الدينية والمذهبية والقومية”
هذه قراءة ميدانية لكنها يشير إليها جون فيلبي كبير جواسيس بريطانيا في فترة الحرب العالمية الأولى “واعتقد الناس أن المسألة الشرقية قد انتهت بمولد معاهدة سايكس بيكو، ثم اتضح خطأ اعتقادهم حيث بقي المسلم السني الذي كان يمثل القدس أو بيروت أو دمشق أو بغداد في مجلس المبعوثان هو الذي يمثل الزعامة العربية بعد زوال العهد العثماني ومولد الدول العربية المستقلة، وهكذا لم تسقط المؤسسة التي كانت امتدادا للإمبراطورية العثمانية”.
سقف الدولة
شكلت مفاهيم الشخصية العربية السنية مادة صمغية لأقليات اجتماعية انفلتت من المدار الإقليمي كانت تفتقر ـوما زالت ـ إلى مقومات التعايش الاجتماعي ولم تضمر لبعضها غير المكيدة، ولا ثقافة سوى الثأر، ولا رؤية للتعايش سوى “الكانتونات”، ولا نمطا اقتصاديا سوى الاقتتال على الماء والكلأ والنار الذي هو أدنى درجات السلم الاجتماعي لبني البشر.
لم يكن إعادة نصب الخيمة الكبيرة على رقعة صغيرة من دون ثمن والشخصية العربية السنية هي من تحمّل فاتورة قيام الدولة الحديثة حين قبلت بالعيش على قدم المساواة الثقافية والتاريخية مع شركاء الكيان الجديد (رعايا كيان الأمس) واقتسام أوسمة التاريخ مع من لم يضع لبنة واحدة في صرح حضارته العربية الإسلامية أو إيصال مشعلها إلى شبر مربع يرفع اسم الله عليه اليوم أو حرر شبرا مغتصبا بل كان عونا لكل عاد، هؤلاء وبهذا الرصيد الاجتماعي منحوا شهادات مواطنة وهي بداية لمشوار تأسيس مجتمع جديرة بالتأمل لاسيما اليوم.
لم تكتف هذه الشخصية بهذا القدر من إطلاق النار على نفسها حتى راحت تضفي قداسة على قسمة ضيزى لتصبح “الثقافة الوطنية” ماء يملأ فمها ـ هي وحدها ـ يعجزها عن النطق وعن قرع أجراس الخطر وهي ترى خنجر الطائفية يغرز في أحشائها.
رغم ذلك نصبت الخيمة من جديد وقامت تحتها مؤسسات الدولة ونظامها الإداري المركزي والشاقولي ممثلا بعملية صناعة القرار من أعلى إلى أسفل وتحقق الانضباط القانوني والأمني. كان حرص العرب السنة على استئناف الدولة والمواطنة على رقعة صغيرة بعد انهيار الكيان الإقليمي كتاجر يخسر إمبراطوريته وهو لا يحسن حرفة غير التجارة فيبدأ عمله الكبير من جديد ولكن من دكان صغير. ما زال العرب السنة يحرصون اليوم على إعادة نصب الخيمة ولكن بوجود مستجدات هذه المرة ومساحة الرقعة ليست هي مشكلتها الوحيدة.
مستجدات
بعد الاحتلال في عام 2003 أصبح للتغيرات الفيزيائية التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى دور في إحداث تغيرات “كيميائية” حين زالت الدولة الحامية الطبيعية للمجتمع الذي تفكك هو الآخر بدوره، وزاد من عمق التغيير أن زوال الدولة لم يكن عفويا ناجما عن خطأ أو فساد محلي يمكن أن تتغلب نخب المجتمع على عطبه، وإنما بفعل قوة احتلال ليس من مصلحتها عودة الدولة والمجتمع أو قيام نخب المجتمع بدور الإصلاح فكانت تصفيتهم هي المصلحة.
“في الموصل اليوم إشكالية تعبئة، وأبناؤها هم الأقل عددا بين الأطراف التي تتأهب للانقضاض على مدينتهم. المدينة التي كانت العمود الفقري للجيش العراقي الوطني السابق لا تنقصها الكفاءات العسكرية، وغياب السقف هو عنوان مشهد أزمة التعبئة”
رغم عمق التغيير الكيميائي في المشهد الموصلي إلا أنه ما زال في غرفة الإعلام التي هي خط التعامل الأول مع الحدث لحظة وروده كغرفة الإسعافات الأولية لحظة وصول المصاب. هذا المشهد رغم كسوره البالغة لم ينقل إلى ردهات التشخيص العميق والعناية المركزة وما برح يناقش في سياقات سريعة الإيقاع أو في أحسن الأحوال في مقارنات تاريخية أكاديمية بمعزل عن قواعد الاجتماع السياسي.
لن يخرج المشهد الموصلي عن سنن نشوء وسقوط المجتمعات، وإذا كان المجتمع هو صيغة للتعايش المشترك ينهض بها طرف متغلب سياسيا أو عسكريا ينزل عند تغلبه الآخرون، فإن وجود كتلة بشرية متنوعة على بقعة أرض ليس فيها جيش أو شرطة أو قانون، يدفع الجميع إلى أن يكونوا ذاك المتغلب، فيدب الاختلاف وتنشب الحرب الأهلية قبل بروز طرف متغلب قادر على الحكم (أمثلة الحروب الأهلية في إنجلترا وسويسرا وأميركا)، ومثل ذلك محاولة مواطنين إعادة بناء دولتهم ومجتمعهم المنهار (يوغوسلافيا السابقة). الطارئ على هذه القاعدة الاجتماعية هو “حروب النيابة” التي تجعل من مكونات المجتمع المفكك بيادق بيد قوى خارجية في حرب مفتوحة، أو ـ في أحسن الأحوال ـ في تنافس سياسي عقيم يجعل من الاستقرار السياسي هدفا محالا (لبنان).
الغلبة في هذا الصراع ـ في مراحله المبكرة ـ للأقليات التي يوفر لها نمط عيشها بموازاة المجتمع الكبير هوية ثقافية ثانية بجانب الهوية الوطنية تجعلها على أهبة فكرية لإعادة الاصطفاف خارج مفاهيم الدولة لحظة سقوطها وتمنحها قدرة تعبوية واستقلالا اقتصاديا وعلاقات خارجية، في الوقت الذي تفقد فيه الأغلبية كل شيء وتتعطل قدراتها مع فقد الوزارة وتعطل مؤسسات الدولة وتصبح كأجهزة المنزل الكهربائية حين انقطاع التيار الكهربائي، هذه الحقيقة الميدانية تفسر إمكانية توقف المسار الاجتماعي في مجتمع الأغلبيات وعدم صموده أمام تيارات داخلية وانهيار السقف واندثار الدول (البيزنطية مثالا). لكن لخصوصية مبدأ انتقال مركز الدولة عند أغلبية هذه الأمة (أهل السنة) أثر مختلف.
تعويض السقف
في عام 1545 حررت الدولة العثمانية الموصل من احتلال صفوي دام قرابة عقد وانتشلتها من شلل اجتماعي وسياسي واقتصادي. كانت إسطنبول في زهوة الانتعاش التنظيمي والاقتصادي والقانوني والجندية (عهد سليمان القانوني) الذي تسرب إلى المجتمع الموصلي وصبغ الحياة الاجتماعية فيها، وإلى هذه الحقبة تعزى خصائص الشخصية الموصلية المعاصرة التي تعرف بالفروسية والانضباط والحرص وحسن التدبير.
كان الطرد العسكري للصفويين خطوة على مسار طويل لإعادة اصطفاف المجتمع لم تنقذ فيه الموصل من الفناء الاجتماعي والسياسي المحتوم فقط وإنما وصلت بشريان الحياة ونقلت إليها دماء جديدة أغنت مؤهلاتها كحاضرة لتكون هي فيما بعد واحة الحياة في المنطقة وكانت عند نشأة العراق الحديث أعمدة سقف الدولة فيه.
الخليفة العباسي القائم بأمر الله إلى السلاجقة “للتدخل ونشر العدل وإصلاح الرعية” فدخل السلاجقة بغداد في عام 447هـ. أمثلة التاريخ متضافرة على أن الدولة بالنسبة لأهل السنة كالماء للسمكة بغيابها تدب الفوضى في الشخصية السنية الفردية والجمعية فلا تكاد تقدر على الاجتماع على شيء ولعل 14 عاما من غياب الدولة في العراق الراهن أبلغ وسيلة إيضاح.
معطيات عام 1545 قائمة اليوم والموصل بحاجة إلى إنقاذ وإنعاش ولكن بوجود مستجدات تحتم آليات مختلفة، وما يحدث في سوريا هو وسائل إيضاح ميدانية للموصل وبالعكس. التدخل العسكري التركي في سوريا ليس أحد عنوانين عصيين على الثقافة الوطنية: احتلال عسكري من صديق أو فناء أمام عدو. اتخاذ فصائل المعارضة المشتتة والعشائر العربية (30 ألفا مرشحون للالتحاق) من الجيش التركي سقفا إداريا للاصطفاف وبناء جيش منضبط يحرر المدن ويديرها ذاتيا ويعيد إعمارها بمساعدة مؤسسات تركية هو مشهد ينسجم مع بواعث ومآلات المواطنة، وحل لمعضلة التعبئة في غياب الدولة التي هي أثمن ما تحصل عليه إيران من أهل السنة.
خيار وحيد
“في الأيام القادمة ستتعدد صعد المعركة ولن تبقى عسكرية فقط وستدور فصولها على منصات المحافل الدولية حيث تفاهمات القوى الكبرى. ستكون الصعد على صلة بالهندسة الاجتماعية المستقبلية لمدن الشرق وصراع القوى الإقليمية والنزوح الجماعي إلى الغرب”
في الموصل اليوم إشكالية تعبئة، وأبناؤها هم الأقل عددا بين الأطراف التي تتأهب للانقضاض على مدينتهم. المدينة التي كانت العمود الفقري للجيش العراقي الوطني السابق لا تنقصها الكفاءات العسكرية، وغياب السقف هو عنوان مشهد أزمة التعبئة، وهو وحده الفيصل في نجاة الموصل وليس شيئا آخر من الماضي صوابا كان أم خطأ. الفصيل الموصلي الذي لديه الآصرة الأوثق مع تركيا في هذه اللحظة الحاسمة هو من يحظى بالفرصة التعبوية الأفضل من خلال جيشها، وبالخيارات الأفضل لإيصال رؤية المجتمع من فوق منصاتها الدولية.
“حرس نينوى” الذي تدعمه وتسلحه تركيا وعلى علاقة تنسيقية متقدمة معها هو آلية تختزل مسافة حرجة على مسار إيجاد سقف التعبئة، ويمثل جهدا تعبويا في تأسيس قوة ضاربة من شتات الكفاءات العسكرية الموصلية تحت سقف الجيش التركي. إعلان “حرس نينوى” التعبئة العامة واستقبال أبناء الموصل هو خيار التعبئة الوحيد والأخير لأهل الموصل أمام الحريق المذهبي، وهو قرار للأهالي الذين وصلهم حر ألسنة النيران، ومن يرفض هذا الخيار تحت أي مبرر كان ودون بديل عملي فهو بالنتيجة مشارك في المحرقة.
في الأيام القادمة ستتعدد صعد المعركة ولن تبقى عسكرية فقط وستدور فصولها على منصات المحافل الدولية حيث تفاهمات القوى الكبرى. ستكون الصعد على صلة بالهندسة الاجتماعية المستقبلية لمدن الشرق وصراع القوى الإقليمية والنزوح الجماعي إلى الغرب. ستكون تركيا بحاجة ماسة ـ بجانب المدفع والدبابة ـ الى أعتدة جديدة لخوض المعارك القادمة بما يثبت أهلية قيادتها الإقليمية وكسب السلم بعد الحرب.
العرب السنة وتركيا بحاجة ماسة إلى نصر على الأرض العربية، العرب يريدون النجاة من حرب الإبادة الفارسية الشيعية، وتركيا تريد ـ إضافة إلى تأمين محيطها ـ تقديم أنموذجها المدني للمنطقة مقابل أنموذج خرائب إيران. تركيا فعلت ذلك في جرابلس التي عادت إليها الحياة في أسابيع لكنها بحاجة إلى حاضرة كبيرة (الموصل أو حلب) يتجلى فيها نظامها الاجتماعي والعمراني والخدمي وهو نظام المنطقة قبل انهيار دولها، حينها يصبح سقف الدولة السني العربي التركي مطلب شعوب المنطقة بكافة مكوناتها وتكون تركيا والعرب السنة هم الطرف المنتصر في معركة بناء وهدم الدولة، هو انتصار تشالديران، ليست في ساحة الحرب هذه المرة وإنما في ساحة البناء. انتصار بنكهة القرن 21.