شيراك حياً وميتاً
انعام كجه جي
صحافيّة وروائيّة عراقيّة.
بعد فوزه برئاسة فرنسا، حرص إيمانويل ماكرون على تفقد الرئيس الأسبق جاك شيراك. ذهب إليه مع زوجته، في زيارة بدت عائلية أكثر مما هي بروتوكولية. ولم يكن الرجلان قد تعارفا من قبل. فحين كان شيراك يقود حزباً كبيراً، كان ماكرون تلميذاً بالسروال القصير. وكما يحدث في الزيارات العائلية، تآلفت الزوجتان سريعاً، وتبادلتا حديثاً خفيفاً. أبدت بريجيت، ساكنة «الإليزيه» الجديدة، رغبتها في الحصول على كلب. وأعطتها برناديت، سيدة القصر السابقة، عنوان ملجأ للحيوانات المهجورة.
في تلك الزيارة، أهدى شيراك إلى ماكرون صورة للجنرال ديغول مؤطرة ببرواز نحاسي. إنها من مقتنياته الخاصة العزيزة عليه، رافقته في كل مناصبه السابقة،
واحتلت مكانها على مكتبه: عمدة لباريس، ورئيساً للوزراء ثم للجمهورية، وأخيراً في مكتبه بعد مغادرته الرئاسة. قال له إنه تلقى الصورة من الرئيس بومبيدو.
وكأنه يريد بتلك الهدية أن يؤكد استمرارية النهج الذي يقود البلاد. إن الجنرال ديغول يرتدي في الصورة الزي المدني، دلالة انتهاء الحرب، واستقرار الجمهورية، والتخلي عن الكولونيالية. لماذا لم يقدم شيراك الصورة لخليفته ساركوزي؟
بادرت زوجة ماكرون ودعت زوجة شيراك لغداء في «الإليزيه». إن لبرناديت شيراك علاقة مشهودة مع القصر، وهي تعرف كل مساربه، وقد أشرفت بنفسها على إعادة تأثيثه. لذلك كانت سعيدة وهي تلبي الدعوة وتعود إلى المنزل الذي أحبته.
يومها، فوجئ حارس الباب الخلفي لمقر الرئاسة بسيارة صغيرة تقف أمامه، وتترجل منها سيدة متقدمة في السن وبيدها باقة من الأزهار، حرصت على أن تحملها بنفسها، ولم تبعث بها مع مرسال. وعند انتهاء الغداء، أخذت بريجيت ماكرون ضيفتها إلى قاعة المكتبة. كانت هناك مفاجأة في انتظار برناديت شيراك؛ لقد دعيت كل عاملات القصر السابقات اللواتي عملن معها لاثني عشر عاماً، فترتي ولاية زوجها. كانت هناك منسقة الأزهار، ومساعدة الطباخ، والمسؤولة عن الغسيل والكي، ومصففة الشعر.
تلقى ماكرون، في أثناء حضوره قمة المناخ في نيويورك، أخباراً عن تردي صحة شيراك. وصباح الخميس، رنّ هاتفه الخاص، وبان على الشاشة اسم كلود شيراك، ابنة الرئيس الأسبق. وفي اللحظة، هجس بالخبر. ألغى برنامجه المقرر، وتفرغ لكتابة خطاب النعي وترتيب الجنازة. سيكون هناك ضيوف كبار من كل القارات. جلس إلى مكتبه لتسجيل كلمته التي بثها التلفزيون. كان قد تداول مع مستشاره الإعلامي، وحتماً مع زوجته.
ففي مواقف مثل هذه، لا بد من انتقاء الكلمات بما يليق ولا يحتمل التأويل. قال: «رحل رئيس الدولة الذي أحببناه بقدر ما أحبنا». وكان مكتب ماكرون وهو يلقي الكلمة خالياً إلا من صورة ديغول، الهدية التي تلقاها من شيراك.
شاهد المتابعون صفوف الفرنسيين تمتد أمام «الإليزيه» لكتابة كلمات في سجل النعي. يسأل الصحافي سيدة جاءت مع طفلتها عن سبب حضورها، فتقول: «لأن شيراك عارض الحرب على العراق». ويسأل عاملاً أفريقياً، فيقول إنه كان حارساً في متحف «برانلي» الذي أسسه شيراك، وقد صافحه الرئيس عند الافتتاح، وطبطب على ظهره.
يتوقف كثير من المعلقين عند صفة أساسية من مناقب الراحل: كان مقبلاً على الحياة بكل أطايبها. يعشق الأطباق التقليدية، ولا يرفض قدحاً. وهو كان مُدخناً شرهاً، وقد اضطر مصممو الصحف إلى حذف السيجارة من صوره الكثيرة. القانون يقول إن التدخين يضر بالصحة. لكنهم لم يحذفوا قنينة البيرة المكسيكية من يده.
سيذكرون أيضاً أنه الرئيس الذي كان عمدة لباريس، ولم يملك بيتاً فيها. خرج من القصر إلى شقة تعود لصديقه اللبناني رفيق الحريري، ومات في منزل استضافه فيه صديق آخر. كانت رغبته أن يُصلّى عليه في كاتدرائية نوتردام. واحترقت الكنيسة، ولم تتحقق الأمنية