مرتزقة في خدمة خرائط واشنطن في الشرق الأوسط / بقلم: محمد قواص
تسخّر الولايات المتحدة قوى غير أميركية لتقوم بمهام كتلك التي تعهد للمرتزقة مقابل مبالغ مالية وقليل من المكياج الاعلامي والسياسي.
انتُخب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة لولايتين منذ عام 2008 وهو ما برح يعد ويبشّر بالعمل على سحب بلاده من النزاعات الخارجية وعدم السماح بتورطِّها بنزاعات جديدة. بالمقابل انتخب الأميركيون الشهر الماضي رئيسا لبلادهم وهو يتذمر من تكاليف الجهد العسكري في الخارج ويجد الكثير منه دفاعاً مجانياً عن الآخرين ويدعو إلى جعل مصالح الولايات المتحدة الداخلية أولوية على أي سياسة خارجية، لا سيما عسكرية، لا لزوم لها.
تغيّرت الولايات المتحدة ولم يعد خطاب العظمة الأميركية على طريقة الأفلام الهولييودية يغري الناخب الأميركي. تعرّض الرئيس أوباما لانتقادات كثيرة، جلّها أميركي داخلي، ضد سياسته الانطوائية والتي شهدت أبلغ تجلياتها في سوريا. ومع ذلك استطاع أوباما مواجهة جبهة عريضة من المنتقدين في البنتاغون ووزارة الخارجية والسي آي إيه والكونغرس، وبقي متمسكاً بعقيدته مستنداً على رأي عام واسع مرحب بخيار عدم إرسال الـ “بويز” إلى الخارج. أدرك المرشح دونالد ترامب أمر ذلك وذهب مذهبه فلم يصدر منه أي رؤى تعيد الولايات المتحدة إلى المسالك التي عرفتها الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الإبن وفق عقيدة المحافظين الجدد.
لكن مصالح الولايات المتحدة في العالم لا يمكن أن تسمح بانسحاب عسكري أميركي من نزاعات الخارج وفق ما توحي به سياسة الرئيس الحالي ودعوات الرئيس المنتخب، لذلك فإن كل ما تمّ في السنوات الثماني الماضية أفصح عن استمرار هذا التدخل، لكنه أخذ أشكالا مختلفة عن تلك التي عرفها العالم في أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. ولا شك أن الإدارة الأميركية المقبلة بقيادة دونالد ترامب تتجه إلى مواصلة الأنشطة العسكرية الأميركية في الخارج وفق التكتيكات التي اعتمدت في مواجهة تنظيم داعش في العراق وسوريا.
الباحثون الأميركيون المقربون من وزارة الدفاع الأميركية يؤكدون عن دور مقبل أكثر نشاطاً للقوات الأميركية في الشرق الأوسط، لكن هذا التدخل سيأخذ على المستوى البشري أشكال استشارية وتدريبية ومخابراتية إضافة إلى التغطية الجوية والبحرية الضرورية لتغطية أي عمليات عسكرية عن بعد. إلا أن أي جهد بري عملياتي سيبقى مستنداً على القوى المحلية، سواء كانت جيوشاً نظامية أو تشكيلات ميليشياوية شبه عسكرية، على نحو يجعل من الاستثمار البشري الأميركي في حده الأدنى، ويحوّل المخاطر والخسائر إلى الحلفاء المحليين.
لكن هذه المقاربة الأميركية تنقل العمل العسكري حساب الأرباح فقط إلى حساب الخسائر فقط. بمعنى آخر تقوم الاستراتيجية الاميركية الخبيثة على نقل حساب الخسائر من الدفاتر الأميركية إلى دفاتر محلية أخرى تقوى على تحمّل الخسائر. بكلمة أوضح تسخّر الولايات المتحدة قوى غير أميركية لتقوم بمهام كتلك التي تعهد للمرتزقة مقابل مبالغ مالية.
المال لا يغيب عن ذلك المقابل المعمول به في العراق وسوريا، لكن ذلك ليس العامل الأساسي لتحفيز القوى المحلية للانخراط ضمن الخطط الأميركية، بل أن غايات سياسية تختلط فيها المنافع بالطموحات بالمصالح قد تشكل المادة الأساسية لتسيير هذه القوى. وعليه فإذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، فإن واشنطن مستعدة لتحقيق أهداف مع من يتوفر بغض النظر عما تحدثه تحالفات واشنطن مع قوى الميدان من فوضى سياسية واجتماعية تهدد استقرار البلد المعني كما استقرار الإقليم الذي ينمتي إليه.
عملت واشنطن على تسطيح المشكلة السياسية في العراق خدمة لأجندتها في الانتهاء من معركة الموصل قبل انتهاء ولاية أوباما وبدء ولاية ترامب. وقد تركّزت جهود واشنطن وحركة موفديها إلى بغداد على الحفاظ على صمود حكومة حيدر العبادي رغم الازمات التي تعرضت لها خدمة لمعركة الموصل. كما أنها ضغطت باتجاه تبريد التوتر بين بغداد وإقليم كردستان خدمة لنفس المعركة. كما أنها قاربت مسألة مشاركة قوات الحشد الشعبي في المعركة بمعايير رخوة تغض الطرف عن سلوكيات طائفية تمارسها الميليشيات والتي تقف أساسا وراء تعاظم ظاهرة التطرّف التي تأخذ وجه أبي مصعب الزرقاوي تارة ووجه أبي بكر البغدادي تارة أخرى.
على أن الماكيافيلية تظهر فجّة في الميدان السوري من حيث محاولة واشنطن رسم خريطة تحالفات متناقضة متقاطعة معقّدة على طريق المعركة ضد تنظيم داعش في معقله في الرقة شرق البلاد. تسعى الولايات المتحدة لدغدغة المشاعر الانفصالية الكردية من خلال اعتماد قوات الحماية الكردية عصباً أساسيا لمعركتها السورية. يعترف مسؤولون أميركيون لأطراف في المعارضة السورية أنهم يعتمدون على العنصر الكردي، لا سيما داخل تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، لأن الولايات المتحدة لم تجد شركاء من المقاتلين السوريين العرب يقبولون بالسير معها ضد “داعش” دون المضي بعد ذلك ضد النظام.
لكن واشنطن التي تدعم فصيلاً كردياً تعتبره تركيا ارهابيا تابعاً لحزب العمال الكردستاني في تركيا، تواصل التعايش مع تحالفها الأطلسي مع أنقرة وتستمر في منح تركيا التغطية الدولية لعملية “درع الفرات” في الداخل السوري. في نفس الوقت تعلن واشنطن دعمها للجيش السوري الحر الذي تصطدم قواته بالقوات الكردية المدعومة أميركياً، فيما تجاهر تلك القوى الكردية بمشاركتها بمعركة حلب وتكشف الأحداث عن تنسيق كامل مع دمشق في هذا المضمار.
إضافة لذلك العبث الأميركي في سوريا في مقاربتها للأزمة في البلاد منذ عام 2011، يعلن وزير الدفاع الأميركي قبل أيام، وفي معرض تنشيط معركة الرقة استكمالا لتلك في الموصل في العراق، عن إرسال 200 جندي ليلتحقوا بـ 300 جندي متواجدين في هذا البلد. بمعنى آخر فأن جل الجهد الأميركي من أجل معركة تريدها واشنطن هدفاً وتوقيتا هو 500 جندي فقط، بما لا يقارن بحجم يصل في العراق إلى حوالي 8 آلاف جندي أميركي، بما يطرح أسئلة حول مدى جدية الولايات المتحدة في التعامل مع معركة الرقة، خصوصاً أن الجيش السوري التابع لدمشق غير مشارك في هذه المعركة كما حال الجيش العراقي في الموصل، كما أن معركة الرقة يعوزها اجماع سياسي سوري هو مفقود إذا ما قورن نسبيا باجماع الطبقة السياسية العراقية، ناهيك عن أن خريطة التحالفات الأميركية في سوريا توفر وصفة لصدام داخلي بين الأكراد والعرب كما بين الاكراد والاتراك.
وللمراقب أن يستنتج أن لطهران وأنقرة وموسكو ودمشق أجندات وأهداف واضحة داخل الميدان السوري، وللمراقب أن يلاحظ مدى اتساق السلوك العسكري لهذه الاطراف الأربعة مع الخطاب السياسي الذي يطلقونه في الدفاع عن حراكهم السوري. لكن الخبراء في العالم يجهدون للاهتداء على ما تريده واشنطن في مقاربتها السورية. فبغض النظر عن عنوان داعش الذي ترفعه وموسكو لتبرير تدخلهما، فإن الولايات المتحدة التي تعلن عداءها للنظام السوري عملت في دعمها للمعارضة على عدم تعريض هذا النظام لأي خطر، بل والتدخل بشراسة لمنع المعارضة وراعييها الاقليميين من تحقيق أي انجاز قد يقود إلى لسقوط هذا النظام، كما أن دعم واشنطن العلني والفعال للميليشيات الكردية، هو تأكيد على دعمها العسكري للفصيل الوحيد الذي ليس في أجندته اسقاط لنظام دمشق. وقد يتساءل المراقبون عما إذا كانت واشنطن حريصة على أمن النظام وسلامته، وأنه إذا كان الأمر كذلك، طالما أن البديل هو الجهاديين وفق التبريرات الرائجة، فلماذا لا تجاهر واشنطن، على منوال روسيا، بدعمها الكامل لنظام الأسد مع ما يتطلبه ذلك من إبلاغ القوى الاقليمية الداعمة للمعارضة بهذا الخيار، الذي يبدو أنه خيار دونالد ترامب الذي كشف عنه حين كان مرشحاً للانتخابات التي أتت به رئيساً.