اسم الضحية الأولى في معركة الموصل / بقلم: هيفاء زنكنة
سيلاحظ من يتابع قناة « العراقية» الرسمية، منذ انطلاق معركة الموصل، ان الإعلان الذي يحتل المركز الثاني في كثرة البث، وبعد الاستعراض المكثف لـ «بطولات» و «انتصارات» الجيش وميليشيا الحشد، هو المخصص للثناء على «تحالف الإعلام الوطني»، وكيف انه ليس إعلاماً أو صحافياً بل مهمته «العمل، بكل الطرق الممكنة، لإسناد الجهد الحربي في مواجهة الفكر المتطرف والعنف المنظم ووحشية الإرهابيين». مما يثير التساؤل حول طبيعة عمل الصحافي ومن من الصحافيين يجرؤ، في أجواء الترويع والتهديد هذه على ذكر حقيقة مجريات الاحداث وسير المعارك واعداد الضحايا ؟ كيف سيتمكن الصحافي، المستقل، من المحافظة على حياته، إذا ما قدم خبرا مغايرا للتصريحات العسكرية والسياسية الرسمية الجاهزة، وفسر موقفه بأنه لا يساند الجهد الحربي؟ ثم كيف يطالب الصحافي، في بلد يدعي الديمقراطية وحرية الرأي، بألا يكون صحافيا ؟ أليس هذا سمة الحكومات القمعية؟ أم ان هناك تعريفا جديدا للصحافي وعمله لا يعرف كنهه غير ساسة «العراق الجديد»؟
يأتي زخم بث إعلانات ما يسمى بالتحالف الإعلامي، الذي يضم هيئة إعلام ميليشيا الحشد الشعبي، مع إصدار قرارات خاصة بالعمل الصحافي بدأ العمل بها، مؤخرا، بذريعة المحافظة على المعلومات الأمنية. من بين ما تم تنفيذه: منع الصحافيين، غير المنضمين إلى التحالف الإعلامي، المسيطر عليه رسميا، أما من تغطية أحداث معركة الموصل، أو الإبعاد الكلي وإغلاق المكاتب، بالإضافة إلى حالات الاغتيال المتزايدة التي تواظب الجهات الرسمية، على إدانتها، خطابيا، لكنها قلما تتخذ الإجراءات للتحقيق فيها أو معاقبة مرتكبيها، مما يرسخ القناعة الشعبية بأن مرتكبي الاغتيالات هم ذات الأحزاب وميليشياتها.
وثق المرصد العراقي للحريات الصحافية (وهو من داعمي التحالف الإعلامي) ثالث جريمة اغتيال للصحافيين في إقليم كردستان لوحده، خلال شهر، معبرا عن «خيبة الأمل من عجز السلطات العراقية في بغداد وكذلك الكردية من السيطرة على جرائم قتل الصحافيين المتصاعدة… بينما فقد العديد من الزملاء في معارك تحرير الموصل».
وأشار تقرير، أصدرته «لجنة حماية الصحافيين الدولية»، إلى تصدر العراق، قائمة الدول التي يفلت فيها قتلة الصحافيين من العقاب. ويؤكد التقرير إن المنظمات الإرهابية ليست المسؤولة الوحيدة عن قتل الصحافيين بل هناك «مسؤولون حكوميون وعصابات منظمة تقوم بقتل الصحافيين أيضاً انتقاماً منهم على عملهم، ودون أن يواجهوا العدالة».
تعيدنا التساؤلات حول التحقيق في الجرائم ضد المواطنين، عموما، والصحافيين خاصة لأهمية دورهم في كشف الحقائق، ومسؤولية من في محاسبة المجرمين، إلى السياسة التي اتبعها الاحتلال وواصلته الحكومات العراقية فيما بعد بصدد الضحايا، وجوهرها التعمية وتزييف الوقائع، خاصة حين يتعلق الأمر بأرقام الضحايا من العراقيين.
فمن يراجع قائمة ضحايا الحرب على العراق، منذ احتلاله عام 2003 وحتى اليوم، سيجد أن الموت زائر مقيم، له آلهته وعباده، ويحل أينما يشاء ومتى يشاء. فهذه المساواة في الموت، بعيدة عن الخلفية الدينية أو القومية أو المذهبية للمواطن، بخلاف ولع الإعلام الغربي بالتركيز على الأقليات، وكأن الموت بعيد عن بقية المواطنين، وهو جانب ثابت من موقف إعلامي رسمي عام يهدف إلى التفتيت المجتمعي ويخلص إلى «خصوصية» الأقليات وعزلهم وإلغاء حق المواطنة كمفهوم يحتضن الجميع. هذه المساواة في الموت هي التي نجح المحتل وحكامه المحليين، بتحقيقها بامتياز لا ينكر. وكانت قيادة الاحتلال الأمريكي قد تبنت، منذ الأيام الأولى، سياسة عدم توثيق أعداد الضحايا من العراقيين، حرصا على ابقاء صورة الجندي الأمريكي باعتباره محررا وليس غازيا. واستمرت سياسة الحكومات العراقية إعلاميا بنفس هذا الخط، بل واحتجت رسميا على الأمم المتحدة والمنظمات العالمية التي تجرؤ على توثيق الضحايا والانتهاكات. وهي ماضية بذلك التعتيم على الرغم من كثرة المنافذ الإعلامية بأنواعها، وعلى الرغم من الجو المتفائل الذي أحاطوه بانطلاقتها الأولية التي سرعان ما تهشمت على أرضية الواقع المُسير من قبل جهتين تتداخل مصالحهما، غالبا، إلى حد يصبح من الصعب فهم مجرياتها وما ستقود إليه.
الأولى هي جهة الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني ـ الداعشي، التي أضعها، رغم وجود بعض الفروق بينها، في سلة واحدة، لأنها كلها، غير معنية بحياة المواطن العراقي ومصلحة الوطن. ولسنا من السذاجة بحيث نتوقع ذلك. فهي ليست منظمات خيرية وأجهزة إعلامها الرسمية مكرسة لسياستها. الجهة الثانية هي الحكومة العراقية التي يتلخص واجبها بتمثيل الشعب وخدمته لا التعامل معه كعبء يجب التخلص منه بأية طريقة كانت. وواجب أجهزة الإعلام ان تكون مستقلة، في أوقات النزاعات والحروب خاصة، وان تنقل إلى الناس الأخبار والآراء والحقائق، كما هي، وليس بعد طبخها وتزويرها لصالح هذه الجهة أو تلك، بحجج طالما تم تسويقها تاريخيا ويعاد تدويرها، حاليا، لتسلط على رقاب الناس كالمقصلة، وضحاياها، من المدنيين، في تزايد مستمر.
المفارقة في موقف جهة الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني ـ الداعشي هو ادعاء كل طرف فيه حرصه على السلام والوئام بين العراقيين، وإدانة التطرف، خلافا للبقية. ولعل أفضل مثال هو تصريحات الولايات المتحدة الأمريكية عبر سفارتها/ ترسانتها، بالمنطقة الخضراء، ببغداد: «إننا نضم أصواتنا إلى جانب العراقيين والعالم كله في إدانة التطرف بجميع أشكاله».
وهل هناك ما هو أكثر إرهابا من قتل ما يزيد على المليون عراقي وتخريب البلاد وتهيئة الأرضية لنشر نوعيات جديدة من الإرهاب؟
أن أجواء الترويع المحيطة بعمل الصحافيين وتقييد حرية حركتهم، والتعبير عن آرائهم، وملاحقتهم بالإضافة إلى التصفية الجسدية، أحيانا، وإفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، يزيد من اللجوء إلى القتل كأداة سهلة ومضمونة لكتم الأصوات المستقلة. مما يؤدي، بالنتيجة، إلى « تحديد المعلومات المتوفرة للجمهور»، كما يشير تقرير لجنة حماية الصحافيين، لابقائه جاهلا بما يشكل حياته وبناء مستقبله.
وهذا هو بالضبط ما يهدف إليه «تحالف الإعلام الوطني» الذي أشرفت السفارة الأمريكية على ولادته ليكون أداة إعلامية عن «انتصارات حاسمة وسريعة»، بينما لا يحظى ضحاياها، من المدنيين المقاتلين معا، لكثرتهم، بالدفن اللائق.