عندما عشقت اللغة العربية
عبد الرحمن الآنسي
كنت مرهقًا تلك الليلة بعد سهرةٍ طويلة قضيتها مع أصدقائي خارج السكن الطلابي، وما إن رجعت إلى سكني حتى التقيت مصادفة بمدير السكن حيث حدثني عن احتفالية ستقام غدًا من أجل المرأة، ونظرًا لاحترامه لي -على حد قوله- فسأكون أحد المنظمين للحفل ولابد أن أصحو مبكرًا. لا أعرف كيف زلت لساني أن وعدته بالمجيئ. نمت وأنا ألوم نفسي لأنني وعدته فحتمًا سيكون يوماً تعيسًا. دق الباب صباح ذلك اليوم فاستيقظت وأنا ألعن هذا الحفل الذي حرمني من نومي، وبطريقة إلية ارتديت ملابسي وذهبنا. كنت أقول في نفسي “حتمًا سيكون يومًا تعيسًا، خصوصًا وأنا أهدئ الحضور وأتكلف الاحترام للجميع محاولًا تلبية رغباتهم وطلباتهم”.
قبل أن أدخل الصالة سحبني منظم الحفل إلى جانبه حتى أترجم للضيوف العرب. بين رتابة المدعوين شدتني فتاة عربية ما إن رأيت جمالها الصارخ حتى طار النوم من عيني مسافة أسبوع بالكامل. لقد شدني جسمها الممشوق وبشرتها المخملية وعيناها الساحرتين، وأما ما كان يشدني فيها أكثر فهو ذوقها الراقي في انتقائها لملابسها. كنت أتساءل “هل هناك من هو أجمل منها يا ترى؟” اقتربت مني فقالت: هل تعرف العربية؟ ما زلت نشوانًا من ذلك الجمال، فبقيت تحملق فيّ منتظرةً جوابا. كررت السؤال مرةً أخرى: هل أنت عربي؟ أجبتها وكأنني حينها فقت من غيبوبتي: بالطبع يا آنسة، تفضلي، كيف أستطيع خدمتك؟
اقتربت منها وكأنني اقترب من حورية، ثم وضعت الورقة أمامها على حافة النافذة مدعيًا أنني أتصل بأحدهم ثم ذهبت نحو الصالة بسرعة خوفًا من أعين الحضور. لا أعرف ما تلك الطاقة التي كنت أشعر بها من خلال ابتساماتها وهي تنظر إليّ
سألتني عن مكان الصالة التي ستقام فيها الحفل ورغم أنه كان بمقدوري أن أدلها من مكاني إلا أنني تعذرت للمسؤول بالتركية بأنها تحتاج مساعدتي. اسطحبتها نحو الدور الثالث فالجميلات يستحقن خدمات خمسة نجوم، مشينا دون أن أنبس بكلمة رغم رغبتي في الحديث معها، وبقينا هكذا حتى وصلنا الدور الأول بعد أن كنا في الدور الأرضي. التفتت نحوي وابتسمت ابتسامة ساحرة حجبت معها قاموس كلماتي أن قالت: شكرًا جزيلًا على تعاملكم الراقي. أردت أن أشكرها هي على تواضعها أن جاءت حفلنا رغم امتلاكها كل هذا القدر من الجمال، لكنني اكتفيت أن ابتسمت بهدوء. بضع خطوات مشيناها صامتين وكنت أتمنى أن تطول الطريق حتى يهبني الله القليل من الشجاعة وأتكلم معها في أي شيء. كسرت صمتنا أن سألتني: ماذا سيكون في برنامج اليوم؟ شكرها قلبي على الفرصة الثمينة التي وهبت مشاعري إياها حتى أتكلم أكثر. أخبرتها عن المقدمات المعروفة ثم كلمات المسؤولين والرقص وغيره.
سكتُّ قليلًا وبطريقة فكاهية أضفت “وسألقي الشعر ما دمت حضرت”، التفتت وكأن كلمة “شعر” شد انتباهها فسألتني بفضول: حقًا تستطيع قول الشعر؟ أقول الشعر عندما ألاقي الجميلات أمثالكِ فقط. لا أعرف كيف قلت تلك الجملة لكن لساني زلت بها. كسى وجهها الجميل ابتسامةً خفيفة، لا أعرف إن كانت تسخر بتلك الابتسامة أم ماذا، ثم قالت: ولكنني لا أحب الشعر. شعرت وكانها طردتني بردها؛ فأن يقول لك أحدهم أنه لا يحب شيئًا أنت تعشقه فكأنه حينها يقول لك أنه لا يحبك أنت. احمرَّ وجهي وشعرت وكأنها صفعتني بقوة على خدي. سكتُّ لبرهة بينما هي تلعثمت محاولة تبرير جوابها لكنني تعذرت أن المسؤول في انتظاري وغادرتها مخفيا مشاعري تجاهها. كنت أتمنى ما لو أن الحفل ينتهي تلك اللحظة فأنا لا أريد أن تلتقي أعيننا مرةً أخرى.
اكتمل الحضور ودخلت مع المنسقين رغم أنني تمنيت ما لو أنني لم آتِ من البداية. كانت تجلس قريبًا من ممر الباب وزاد هذا من إزعاجي لأن عملي كان قريبًا منها مما يرغمني إلى النظر إليها. حاولت أن تلفت انتباهي حتى أنظر نحوها لكن كبريائي لم يسمح لي سوى بنظرة واحدة شعرت من خلالها أنها نادمة على جوابها. دخلت الفقرة الغنائية فغاص الجميع في الرقص. كنت أرى كل شيء أمامي مقززًا.. تمايل الفتيات وهن يرقصن ومشاركة بعض الشباب في الرقص محاولين شد انتباه الفتيات بحركات رقص غبية. كنت واقفًا ويداي متشابكتان من خلف ضهري تعبيرًا عن كثرة الملل الذي كنت أشعر به. فجأة حسست بيد ناعمة وضعت قطعة من الورق في كفي وفرَّت نحو الخارج. ما أردت أن أعرف مضمون الورقة في ذلك المكان، فربما يعرف بالأمر أحدهم فيكشف أمري، لذا انزويت حتى شعرت أن لا أحد منتبه إلي وقرأت مندهشًا مما كتبته في الورقة فلقد كتبت.
إن النساءَ إذا أردن تقربًا
ممن يحبن تضادتِ الأقوالُ
فالحبِّ ليس بلعبةٍ مفهومةٍ
حتى يروق لخوضها الأطفالُ
فهمت مقصدها، فلحقتها إلى الخارج. وما إن رأيتها حتى التفتت نحوي مع ابتسامة تحمل فيها معاني الاعتذار واللوم في آنٍ واحد، ثم شاحت بوجهها عني وكأنها تنتظر مني ردًا. التقطت ورقة وبدأت أكتب:
يا ربة الوجه الجميل ترفقي
ما هكذا يتبارز الأبطالُ
فلقد عجبت لمن يواجه أعزلا
وسلاحه عينٌ وحسن جمالُ
اقتربت منها وكأنني اقترب من حورية، ثم وضعت الورقة أمامها على حافة النافذة مدعيًا أنني أتصل بأحدهم ثم ذهبت نحو الصالة بسرعة خوفًا من أعين الحضور. لا أعرف ما تلك الطاقة التي كنت أشعر بها من خلال ابتساماتها وهي تنظر إليّ بعد دخولنا صالة الحضور. لم أحتمل أكثر فخرجت وتركت الحفل بكامله. رأيتها هي الأخرى وقد خرجت بعدي، اقتربت مني فقالت وهي تبتسم بخجل: يا لك من داهية؟ كيف استطعت أن تشد انتباهي بكل هذه السرعة؟ أجبتها مستغربًا: وما الذي عملته حتى شددت انتباهكِ؟ فقالت: ردة فعلك من جوابي بأني لا أحب الشعر جعلني أشعر بأنك لست إنسانًا عاديًا، فالعاديون من يحاولون إثبات ما يقولونه للآخرين من خلال الكلمات أما من يثبتون للآخرين بمشاعرهم فهم من يكسبون المعارك في الأخير.
حالة من الصمت اعترتنا، شعرت بأنني لا أعرف من اللغة شيء. دام هذا الصمت لدقيقة في حين أن الحضور على وشك أن يخرجوا. قلت أخيرًا: لكنني لم أتكلف أي شيء كما يعمل البقية. ردت بسرعة أن قالت: وهذا ما كان جميلًا فيك وشدني إليك. حاولت أن أخبرها بأنني سُحرت بجمالها من أول مرةٍ رأيتها، لكنني كنت جبانًا.. كانت تنتظرني أخبرها بذلك لكنني لم أستطع. نطقت أخيرًا أن قالت: إذًا لنقل إلى اللقاء يا عزيزي.. ربما تجمعنا اللغة العربية يومًا. إنكم لا تعرفون أنني عشقت من بعدها اللغة العربية، حتى أنني بدأت أتعلم مرادفاتها وتضادها وكأنني أتعلم لغة أجنبية.. كنت أتعلمها كل يوم وكأنها درس من دروسي الجامعية لعلها تسعفني بكلمات عند لقيانا في المرة القادمة.. انتظرت سنوات وسنوات ولكننا لم نلتقِ بعدها البتة