العراق.. واقع صحي كارثي – نواف شاذل طاقة
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، واثناء اقامتي في الهند للعمل في السفارة العراقية في العاصمة نيودلهي، واجهت مشاكل صحية في المعدة نصحني حينها طبيب هندي كان قد عاد تواً من بريطانيا باجراء فحص طبي حديث لم اكن قد سمعت به من قبل، يدعى فحص الناظور. لكن الطبيب اخبرني ان جهاز الفحص المذكور نادر في نيودلهي ولا يمتلكه سوى طبيب واحد في العاصمة وانه يتقاضى أجراً باهضاً لقاء الفحص.
على الرغم من عدم اطمئناني الى شروط النظافة في المؤسسات الطبية الهندية في حينه، فقد حاولت الحصول على موعد لاجراء الفحص لكني علمت أن الطبيب في اجازة خارج الهند لمدة شهر وان عيادته مغلقة.
صادف ان عدت بعد ذلك الى بغداد في اجازة في العام 1983، وعلمت أن الجهاز المذكور متوفر في مستشفيات العراق الحكومية، وقد تمكنت بالفعل في غضون فترة وجيزة من اجراء فحص الناظور في مدينة الطب ببغداد بأجر زهيد وعلى أيدي أفضل الاطباء العراقيين. يؤلمني اليوم ما اسمعه عن توجه العراقيين للعلاج في الهند وسواها من البلدان التي لا يعرف عنها تقدمها في الخدمات الطبية، في حين يتراجع فيه مستوى الطب في العراق، ويغادر أطباؤنا البلاد بسبب الفساد وانعدام الامن وغياب ابسط مستلزمات العمل، في وقت يعاني فيه الاطباء الذين فضلوا البقاء في البلاد الأمَرّين.
عن مستلزمات العمل الطبي وظروفه، سألت جراحاً أخصائياً في العراق قبل سنوات عن عمله، قال إنه توقف عن إجراء العمليات الجراحية تجنباً لما يمكن ان يتعرض له من إشكالات بما في ذلك ثارات عشائرية تعجز اجهزة الدولة عن ردعها وعن حماية الاطباء. أضاف انه يجري في احيان نادرة عمليات جراحية لأصدقاء ومعارف في مستشفيات خاصة ومن دون أجر. ويتفاقم الحزن حينما يموت الفقراء بصمت في العراق– أغنى دول العالم – في مستشفيات حكومية باتت من بين الاسوأ في العالم بكل اسف.
الى ذلك، تناقلت وسائل الاعلام نبأ اقدام مواطن بصري محدود الدخل على الانتحار بعد أن فقد الأمل في الحصول على الدواء لعلاج داء السرطان الذي ابتلي به في بلد كان يجب ألاّ يذل به الانسان على هذا النحو، وهي حادثة قد ترقى الى مستوى الجريمة لو توفرت العدالة وشروط المحسابة النزيهة.
وسط هذه الحالة الماساوية، ينعم السياسيون بتلقي العلاج في ارقى مستشفيات العالم على نفقة الدولة، ويحظون برعاية كاملة لابسط الأمراض التي يخجل المرء من ذكر تفاصيلها. لا يوجد اَي تبرير للموت والعذاب والإهانة التي يلاقيها المواطن العراقي في مستشفيات بلد يبلغ حجم إيراداته النفطية اكثر من ستة مليارات دولار شهرياً تذهب معظمها الى بطون طبقة سياسية فاسدة لا تمثل سوى اقلية صغيرة جداً من الشعب امام أغلبية مضطهدة لا بد لها من ان ترفع صوتها عالياً وترفض الظلم والذل اذا ارادت ان تعيش حياة حرة كريمة.