العسكر والسياسة: ثنائي مقلق ناصر الرباط رصد عراقيون

أثار تعيين الجنرال جون كيلي رئيساً لموظفي البيت الأبيض في نهاية تموز (يوليو) ٢٠١٧ موجة من الانتقادات في الصحافة الأميركية عن تسارع دخول العسكر عالم السياسة، مما يضع المبادئ الأساسية للنظام الديموقراطي على المحك. فقد ضمت إدارة الرئيس دونالد ترامب عند انطلاقها ثلاثة جنرالات متقاعدين في المناصب الأمنية الحساسة: جيمس ماتيس وزيراً للدفاع، ومايكل فلين مستشاراً للأمن القومي ولكنه اضطر لاحقاً للاستقالة بسبب تخابره مع روسيا، وجون كيلي وزيراً للأمن قبل انتقاله إلى منصبه في البيت الأبيض. وهو بتعيينه الجديد هذا أصبح قريباً جداً من أعلى دوائر السلطة في الولايات المتحدة وبالتالي قادراً على التأثير المباشر في السياسات العامة للدولة. النظام الأميركي الديموقراطي حساس تجاه هذه النقطة، وهو يصر على إسناد كل المناصب المهمة الرئاسية في الإدارة لمدنيين ويمنع تعيين أي عسكري فيها ما لم يكن متقاعداً مضى على تقاعده سبع سنوات على الأقل، مما يضع مسافة بينه وبين المجتمع العسكري المنغلق والمعادي للنقد بطبيعته، إلا إذا اتفق أعضاء الكونغرس على إزالة هذه العقبة. وقد استخدمت إدارة ترامب هذا الاستثناء عند تعيين الجنرال ماتيس وزيراً للدفاع لأنه لم يتقاعد إلا سنة ٢٠١٣، وها هي الآن تثير حفيظة المدافعين عن النظام المدني ثانية بتعيين كيلي رئيساً لموظفي البيت الأبيض.
محقة هي حساسية النظام المدني تجاه تدخل العسكر في السياسة. فالعالم عانى من ذلك لقرون طويلة خضعت فيها غالبية دوله لأنظمة عسكرية، كان البحث عن المجد الحربي فيها رائداً لسياساتها بغض النظر عن الأثمان الهائـلة التي دفعتها الشعوب نتيجة هذه السياسات. ولم تقتصر مضار الأنظمة العسكرية على الحروب ذات الأكلاف البشرية المرتفعة، بل تعدتها لكي تعرقل الأسس الديموقراطية للمجتمع المدني. فالعسكر بتدريبهم القاسي وتراتبيتهم الصارمة متعودون على التنفيذ الكامل لأوامرهم من دون أي نقد أو اعتراض على مبدأ «نفذ ثم اعترض». والنقد والاختلاف والاعتراض واقتراح حلول أخرى مختلفة هي، كما نعرف، ملح الحياة الديموقراطية السليمة وأهم أدوات الشعب في مراقبة حكامه. وهذا ما يخيف النقاد الأميركيين من تنامي ظاهرة العسكرة في السياسة الأميركية على الصعيد الداخلي، بالإضافة طبعاً إلى توجسهم من مغامرات عسكرية جديدة في الخارج.
ونحن في العالم العربي ندرك وجاهة مخاوفهم إذ إننا ابتلينا بأكثر مما يمكننا تحمله من حكم العسكر وعرفنا مآلاته وشاهدنا نتائجه المزرية في هزائم متتالية في الصراع مع إسرائيل وغيرها وتدهور أو تفكك أكثر من بلد عربي خلال السنوات العشر الماضية.
فنظرة استرجاعية لتاريخ العالم العربي المعاصر تبين لنا أن الدول التي قادها حظها العاثر للرضوخ لحكومات عسكرية كما حصل في مصر والعراق وسورية وليبيا والسودان واليمن، هي، من دون استثناء، نفسها التي تعاني أكثر من غيرها من بلدان عالمنا العربي اللاديموقراطي عموماً من انعدام الحريات وتفتت المؤسسات وتغول الأنظمة في قمعها. ولا أظن أن هناك دليلاً أوضح من هذه الدول اليوم على خطر عبث العسكر بالسياسة واستفرادهم بالسلطة بغض النظر عن إنجازاتهم الحربية في خدمة أممهم أو عن مؤهلاتهم الشخصية للحكم (وهي للأسف ضئيلة معرفياً وسياسياً بسبب من تركيبة ثقافتهم وأساليب تعليمهم العسكرية السائدة).
بدأت هذه البلدان العربية حياتها السياسية إثر استقلالها عن الاستعمار في القرن العشرين بداية لا بأس بها. فغالبيتها باستثناء ليبيا واليمن كانت تتمتع بنظام برلماني سمح بتعدد الآراء والأحزاب وإن كانت السيطرة فيه للبورجوازية المدنية الوطنية. وكانت هناك درجة من التسامح والقبول بالرأي الآخر، ولم تكن أساليب البطش المخابراتي التي أصبحت في ما بعد تحت حكم العسكر أداة التحكم الأولى للأنظمة معروفة أو مستساغة. كانت هذه الدول تسلك طريقها إلى أنظمة أكثر تمثيلاً بفضل انتشار التعليم بين الطبقات المهمشة التي بدأت تعي حقوقها السياسية وتطالب بها ابتداءً من الأربعينات. لكن تأسيس إسرائيل وهزيمة الأنظمة العربية أمام جيشها الناشئ ونكبة اللاجئين الفلسطينيين الذين تدفقوا على دول الجوار ضربت النظام الأبوي السياسي العربي في العمق وأعطت القوى الغاضبة والكامنة في المجتمع فرصة للانقضاض على الحكم.
وصل العسكر إلى الحكم عبر انقلابات عسكرية في سورية (١٩٤٩) ومصر (١٩٥٢) والعراق (١٩٥٨) واليمن (١٩٦٢) والسودان وليبيا (١٩٦٩)، ولم يغادروا بإرادتهم في أي من هذه الدول. خلال هذه العقود الطويلة، تضعضعت الحياة السياسية وانهار الاقتصاد وتفتتت اللحمة الوطنية واستشرس النظام في الدفاع عن مصالحه بأن قضى على الحقوق المدنية واستباح حياة وحرية وممتلكات مواطنيه لمصلحة أعوانه وعطل استقلال القضاء وألغى الإعلام المستقل وارتكب من الجرائم ما لا يعد ومن الأخطاء في العلاقات الدولية ما لا يمكن إصلاحه بسهولة. كل ذلك وقادته يتحولون من ضباط إلى قادة وزعماء ملهمين ومتأبدين في مناصبهم لا يتزحزحون عنها سوى بالموت. ولم تستفد البلاد حتى من عسكريتهم في حروبها الخارجية، فهذه الدول العربية كلها لم تربح في أي من الحروب التي خاضتها في نصف القرن الفائت، بل خسر العديد منها حروباً وأراضي وبنى تحتية وآلاف الشباب الذين زج بهم في معارك لم يكن لهم أي أمل بالانتصار فيها (وأنا أشمل في لائحة الهزائم هذه حرب الـ١٩٧٣ التي أدت في ما أدت إليه إلى خروج مصر عن الصف العربي وربما حرب لبنان الأهلية وانهيار القضية الفلسطينية الذي أخذ وقتاً لكي يتبلور، مقابل عودة سيناء إلى مصر منزوعة الإرادة والسلاح وكثيراً من السيادة بما أن مصر بحاجة لأذن من إسرائيل لجلب معدات عسكرية ثقيلة إلى شبه الجزيرة).
كان في ثورات الربيع العربي بعض أمل بالخلاص من هذه الأنظمة العسكرية فردانية الزعامة. ولكن الأمور سارت على غير ما يشتهي محبو الحرية، وعادت العسكريتاريا إلى مصر بأقوى مما كانت، واستشرس النظام السوري في الحفاظ على موقعه مع تدمير وطنه وناسه، وانهارت ليبيا واليمن ليصبحا دولتين فاشلتين مع أكثر من نظام حكم وحرب أهلية، وانقسم السودان وخسر جنوبه وازدادت هيمنة عسكره، وابتلي العراق باحتلاله الأميركي ثم دولته الإسلامية ومحاربي حشوده الشعبية وهو ما زال إلى اليوم على كف عفريت. ولا يبدو المستقبل اليوم أفضل حالاً، فالمجتمع المدني مشتت والعسكر متسلطون والعالم مساير لهم على أمل بالخلاص من خطر التهديد الإسلاموي، والحرية والحقوق المدنية صارت حلماً بعيد المنال.

* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا M.I.T

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *