اعلام عراقيون داؤد الجلبي 1879_1960
داؤد بن محمد سليم بن احمد بن محمد الجلبي. كان ابوه واجداده معروفين بالطب اليوناني العربي وكان جده محمد جلبي واقفاً على علوم اخرى عدا الطب كالفلك والجغرافيا وغير ذلك وله مؤلفات فيها. وعلم ابنه احمد الطب ثم تعلم حفيداه سليم وعبد الله الطب ايضاً وكانت داراهما تغص بالمراجعين من المرضى. ويعد داود الجلبي طبيباً لغوياً مؤرخاً ومحققاً وعالماً في الحيوان والنبات، تخرج في الكلية الطبية العسكرية في اسطنبول عام 1909 طبيباً برتبة (يوز باشي) رئيس. وخدم طبيباً في الجيش العثماني، ونقل قبيل الحرب العالمية الاولى الى (ارض روم) فرفض الالتحاق وخشي ان يغتاله الاتراك كما اغتالوا غيره وذلك لدعوته الاستقلالية للعراق. اسس نادي القلم سنة 1918 واشترك مع ساطع الحصري في تأسيس الجمعية الثقافية العربية ببغداد واشترك في هيأة ادارة الجمعية الطبية بالموصل عام 1924 عين طبيباً في الجيش العراقي عام 1924 وانتخب في السنة ذاتها عضواً في المجلس التأسيسي العراقي وعين عضواً في لجنة تدقيق المعاهدة العراقية البريطانية. وموافقة الوطنية للدفاع عن حقوق العراق مشهورة وهي مفصلة في محاضر جلسات المجلس التأسيسي العراقي. واذكر انه روى مرة احد موافقة الصلبة في تحديد حقوق الملك–فيصل الاول آنذاك-في الدستور وعارض داود الجلبي الحقوق الكثيرة التي اراد المتزلفون للمك منحه اياها. وطلب ان يكون الملك شبيها بملك انكلترا، أي تكون الحقوق الاساسية للشعب، مما اغضب الملك فيصل-وكان الجلبي آنذاك طبيبه الخاص- فأرسل إليه يطلب مقابلته في قصره، وأظهر الملك فيصل الاول استياءه من موقف داود الجلبي ونعى عليه هذا التشدد، فأعتذر الجلبي بالقوانين الحديثة والدساتير الاوربية، ولم يتمكن الملك فيصل من التأثير على داود الجلبي وحمله على تغيير رأيه، فأضمر ذلك في نفسه حتى أنه خشي على نفسه من طبيبه الخاص، فأعفاه من مهمته.
عاد داود الجلبي الى الجيش بعد حل المجلس ورقي الى رتبة زعيم، وعين مديراً للأمور الطبية في الجيش العراقي عام 1930، وشغل مديرية الصحة العامة ما يقرب من سنة بالاعارة من وزارة الدفاع الى وزارة الداخلية. ثم أعيد ثانية الى مديرية الامور الطبية، واحيل على التقاعد عام 1933 بسبب موافقة السياسية المتشددة. وعدم مهادنته للحكام، على الرغم من الصداقة التي كانت تربطه بمعظم السياسيين الكبار، ولم يرضه ان يتلاعبوا بمصير الشعب وتحت حماية القانون.
واذكر انه كان راقدا في المستشفى الملكي عام 1951-وكنت وقتها طالباً في الكلية-بعد اجراء عملية جراحية، ولمحت وانا في غرفته قدوم نوري السعيد وجميل المدفعي لعيادته، واخبرته بذلك، فطلب الي اخبارهم بعدم رغبته في زيارتهما، ونقلت رسالته اليهما، ابتسم نوري السعيد وقال للمدفعي : لم تغيره السنون، وعنفني حين حملت اليه هداياهم من باقات الورد وطلب الي ان أسعى وراءهما واردها اليهما، ولعل هذا الموقف المتشدد من كبار رجال الحكم في العراق جعله بعيداً عن الحياة السياسية على الرغم من أنه كان عضواً في حزب العهد وله مواقف سياسية متميزة في تأسيس الحكم الوطني في العراق، وفي مسألة الموصل بالذات. عاد داود الجلبي الى الموصل يزاول مهنة الطب، وانصرف للقراءة والبحث، وعين عام 1937 عضواً في مجلس الاعيان(الشيوخ)، وبعد انتهاء الدورة البرلمانية عاد الى الموصل لممارسة عمله في الطب، وكان طبيباً متميزاً يشهد له بكفاءة نادرة في هذا المجال. وما زال الشيوخ من اهل الموصل يذكرون فؤائده وخدمته لسكان المدينة، ويتبادلون وصفاته العلاجية التي لم تكلفهم غير القليل القليل من المال.
كان داود الجلبي عالماً بالاضافة الى براعته في الطب واهميته بالنسبة للحياة السياسية في العراق، فانتخب في عدد من الجمعيات الثقافية والمجامع العلمية، فأنتخب ريئساً لجمعية الثقافة العراقية، وعضواً في لجنة تاريخ العراق،وعضواً في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وعضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق وعضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة،وعضواً في المجمع العلمي العراقي.
وهو الى جانب كونه عالماً باللغة العربية يجيد التركية والفرنسية والالمانية والفارسية والسريانية اجادة تامة الى جانب قراءاته في اللغات الانكليزية والعبرية واليونانية واللاتينية والايطالية. كتب داود الجلبي بحوثاً عدة نشرها في الصحف والمجلات العربية، وله ولع خاص في البحث عن المصطلحات الطبية، ووضع فيها مالم يوضع في العربية لحد الآن، ودخلت المصطلحات الطبية التي وضعها في العربية الى كليات الطب في الجامعات العربية، وقد صدر له بالاضافة الى ذلك سبعة كتب: (1)اصلاح حروفه دائر عام 1326هـ وهو باللغة التركية ومطبوع في اسطنبول. (2)مخطوطات الموصل عام 1927، مطبعة الفرات، بغداد. (3)الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية، عام 1935،مطبعة النجم، الموصل. (4)كتاب الطبيخ لمحمد بن الحسن بن الكريم البغدادي، المكتوب في 623هـ، حققه الجلبي ونشره عام 1934،م. ام الربيعين، الموصل. (5)رسالة محمد بن زكريا الرازي، عام 1948، منشورات مجلة الجزيرة. (6)كتاب الفند يداد، نقله عن الفرنسية عام 1952، مطبعة الاتحاد الجديدة، الموصل (7)كلمات فارسية مستعملة في عامية الموصل وفي انحاء العراق، عام 1960، مطبعة العاني، بغداد، وله عشرة كتب مخطوطة لم تطبع بعد :(1) جدول في الفرائض صنفه عام 1345هـ (2)تاريخ اتابكة الموصل (3)تاريخ أربل (4)تاريخ الدولة الارتقية (5)ذيل زبدة الآثارية الجلية من تاريخ البلاد العربية منذ عام 920هـ، أي منذ عهد استيلاء العثمانيين على الاقطار العربية في عهد السلطان سليم الاول (6)زبدة الآثار الجلية-ملخص تاريخ الموصل منذ سنة 649 (7)معجم مصطلحات امراض الجلد (فرنسي-عربي)(8)المفردات الاعجمية المستعملة في الموصل اليونانية واللاتينية والتركية… الخ (9)صفحات من تاريخ الموصل-مترجمة عن الفرنسية للأب لنزا-(10)رحلة اوليفر(مترجم عن الفرنسية) وتوفي داود الجلبي عام 1960 أثر اصابته بنوبة قلبية عن عمر تجاوز الثمانين بسنة.
اهتم داود الجلبي اهتماماً كبيراً بالتراث العربي الاسلامي، وجاء اهتمامه هذا نتيجة اهتمامه بالدين الاسلامي وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكثيراً ما كان يحدث الاسرة عن اعمال الرسول الكريم الجليلة وهو يكن له اسمى آيات الاحترام والاكبار، وكان يشجعنا-ونحن صغار-على قراءة السيرة النبوية الشريفة وسمعته كثيراً وانا يافع-يتحدث بإكبار وتعظيم عن الرسول الكريم وصحبه الميامين.
وسألته مرة عن المخطوطات القيمة التي جمعها فاخبرني بقصص طريفة عن جمعه المخطوطات اذكر منها واحدة خشية الاطالة فقد كان يمر في طريقه من داره-الواقع في محلة المكاوي-الى عيادته الواقعة في شارع نينوى، قرب (السرجخانة) بازقة تمر قرب حيّ الجامع الكبير، وشاهد ذات مرة امرأة توقد (تنورها) بمخطوطات وضعتها في سلسلة كبيرة (طبيقية) أرعبه الموقف وساومها على الثمن واشترى ما معها من مخطوطات (بروبية) واحدة. ووجد فيها نفائس نادرة. هذه حادثة واحدة من عشرات الحوادث التي تبين لنا كيف جمع مخطوطاته النادرة، وهي كما صنفها الدكتور فيصل ويدوب في مكتبة داود الجلبي الوقفية في الطيران-ثم انتقلت الى مكتبة الاوقاف في الموصل، كما يأتي: سبع مخطوطات تتعلق بالقرآن الكريم، ثلاث مخطوطات في الفقه، اربع في العقائد الاسلامية، ثلاث في المواعظ والعبادات، اربع في التصوف، عشر في الاديان والمذاهب، خمس عشرة في العلوم الآلية، خمس في الهيئة والتقويم،اربع في الجغرافيا والرحلات،عشر في التاريخ، خمس في التراجم، اربعون في الادب، واحدة في الفنون الجميلة، ست في المنطق والفلسفة، ثلاث في الحيوان والنبات، اثنتان في الكيمياء، احدى واربعون في الطب، خمس في الصيدلة، اثنتان في التربية، ثلاث عشرة في علوم غير مثبتة، اربع مخطوطات في كتب شتى، وبلغت مجاميعه ثلاثاً وسبعه مجموعة، ويكون العدد الاجمالي للمخطوطات التي حوتها مكتبته الكبيرة-وتعد واحدة من اكبر المكتبات الشخصية في الوطن العربي-اثنتين وسبعين ومائتي مخطوطة، بعضها نادر ويمثل المخطوطة الوحيدة في العالم.
ودفعه حرصه على المخطوطات المبعثرة في مدارس الموصل ومكتباتها الى حصرها وتصنيفها ووضعها في كتاب مهم جداً هو كتاب (مخطوطات الموصل) عام 1927، ويبين الاسباب التي دفعته لتسجيل وتثبيت هذا التراث القيم:ولما رأيت الباحثين عن الكتب العربية يجوبون البراري ويقطعون البحار ويطوفون البلدان متكبدين المشاق وصارفين في سبيل ذلك الدراهم الكثيرة كل ذلك للعثور على كتاب وصلهم اسمه، ولم يقفوا له على أثر او للحصول على اجزاء كتاب مبتوراً وللاطلاع على نسخ الكتاب الواحد لمقابلة بعضها بعضاً وتمحيص الصواب من الخطأ احياء للآداب العربية واظهار لما اندرس من آثار اجدادنا الاكرمين، ولاعداد ما لم يطبع من مؤلفاتهم للطبع والنشر تعيما للفائدة، ولما كانت مدارس الموصل الدينية تحوي الوفاً من الكتب المخطوطة، ولم يؤم الموصل ويطلع على هذه الكتب احد من الباحثين مع ان بينها مالاً نظير له في دور الكتب والمتاحف المشهورة، ومنها ما ندر وجوده وما هو جدير بالاهتمام من اوجه، احببت ان أطلع العالم الادبي على مكنونات هذه الخزائن، فطفت المدارس كلها وتصحفت كتبها واحداً واحداً ضابطاً اسماءها واسماء مؤلفيها ومواضيعها مع ذكر اسم التاريخ وتاريخ النسخة وبيان صفتها من كمال او نقصان وجودة خط اورداءته الى غير ذلك، ووصفت الكتب الهامة منها وصفاً علمياً مع ذكر أبعادها ونوع جلدها وورقها وعدد صحائفها وما في صدورها وآخرها من الكتابات ونقل شيء من اولها اومن ابحاثها الهامة وبيان مواضع ابوابها كل ذلك باطناب وايجاز حسب ما تستحقه، على أني اكتفيت بذكر اسماء الكتب التي لم تكن ذات شأن، وتصحفت المجاميع فطبعت ما حوت كل مجموعة من مختلف الكتب والرسائل، ونظمت فهارس للمكتبات التي لم أجد لها فهارس، وبعد ان فرغت من مدارس الموصل تناولت البحث عن مدارس ملحقاتها من اقضية ونواح وقرى… وراجعت رؤساء الاسر القديمة ومن سمعت بوجود خطية عنده.. فجاء كتابي هذا باحثاً عن مخطوطات الموصل جميعها على التقريب ولم يشذ منه الآ اللهم ما قد يحتمل ان يكون في زوايا بيوت بعض الناس…