تبادل الأكاذيب بين الادارة الأمريكية والنظام العراقي هيفاء زنكنة
اعلنت القيادة العسكرية الأمريكية، يوم الاحد، عن مصرع جندي أمريكي قرب مدينة الموصل. وتناقلت وكالات الانباء الخبر، بعد اضافة جملة «ولم يذكر البيان أي تفاصيل أخرى». وهي مسألة تستحق الانتباه لأن مقتل أي جندي أمريكي، عادة، نشر تفاصيل أسمه ووحدته وتفاصيل حياته منذ الولادة حتى الموت، لتبقى ذكراه، خلافا لمواطني البلدان المحتلة المتعمد نسيانهم إلى حد الالغاء، راسخة في اذهان الجميع. فما الذي أستدعى التغيير او على الأقل تأجيل اصدار التفاصيل؟
هناك أولا مسألة التوقيت. حيث الادارة الأمريكية مشغولة بذكرى مرور 100 يوم على تنصيب دونالد ترامب رئيسا، وما أثاره الرجل حتى الآن، كاستعراضي من الدرجة الاولى، يستدعي التعامي عن سقوط العسكر الأمريكي في البلدان التي تم بيعها، إعلاميا، إلى العالم، كمحطات بارزة في طريق الهناء الديمقراطي. العراق السعيد هو أحد هذه البلدان. النقطة الثانية، هي ثنائية انسحاب ـ إعادة قوات الاحتلال. فاذا كان الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما قد عمل على اجلاء القوات من الباب، عام 2011، وابقاء «مستشارين ومدربين وقوات خاصة»، واعادة اعداد منها، تدريجيا، من الشباك، فان اعادتها إلى العراق، حاليا، لاتزال مستمرة، بشكل جرعات. حيث تقوم وزارة الدفاع (البنتاغون)، بالاعلان، بين الحين والآخر، عن ارسال 200 جنديا مرة، وارسال 400 او 600 مرة أخرى، كلما رأت الوضع يخرج من بين يدي الادارة، حتى وصل عدد قوات الاحتلال، بترحيب حار من النظام العراقي وساسته الذين جلبوا طاعون الاحتلال أساسا عام 2003، أعلى نسبة لهم منذ عام 2011.
عند مراجعة الزيادات المعلنة، يلاحظ ان هناك غموضا يحيط بالعدد الحقيقي لقوات الاحتلال الأمريكي المتواجدة على الأرض في العراق. فالبنتاغون، حسب الموقع العسكري الأمريكي «آرمي دوت كوم»، لا يعلن، عادة، عن كل القوات المرسلة بحجة ان أرسالها مؤقت وليس دائما، وما هو مؤقت لا يتوجب الاعلان عنه. وكما هو معروف، يخضع مصطلح «مؤقت» للاستخدام وفق الاستراتيجية العسكرية لانجاز مهمة ما وليس حسب المدة الزمنية. هكذا اصبح تواجد قوات الاحتلال الأمريكي بغطاء التحالف الدولي، منذ سنوات، مثلا، مؤقتا، بحجة مساعدة العراق في محاربة الإرهاب (كنا نظن ان العراق يساعد أمريكا في محاربة الإرهاب!!) وتدريب القوات العراقية.
يشمل ذلك القوات الموجودة في قواعد عسكرية مثل قاعدة عين الاسد، في محافظة الانبار، غرب العراق، والقوات الخاصة، والمرتزقة، بالاضافة إلى 1500 جندي من المزمع وضعهم على الحدود العراقية الكويتية. مما سيرفع عدد قوات الاحتلال إلى 10 آلاف، من مختلف الوحدات بضمنها المارينز، حسب صحيفة « ميليتري تايمز» المتخصصة بالشأن العسكري الأمريكي. وكانت الصحيفة قد أكدت مشاركة 100 من القوات الخاصة الأمريكية في القتال، على الارض، مع القوات العراقية، في معركة الموصل، وهم يرتدون الزي الاسود، تماشيا مع زي قوات النخبة العراقية.
هذه الأرقام لا تشمل المتعاقدين الذين تخفى أرقام المقاتلين منهم بين سجلات الحراس، والسواق، والميكانيكيين، والطواقم الطبية في الميدان و القواعد، ومجهزي الطعام والعتاد والعدد المتزايد من طواقم الطائرات المسيرة والروبوتات. هذا اضافة لحراس السفارات والقنصليات وملاكاتهم التموينية والميكانيكية المحسوبين على ملاك وزارة الخارجية، وعددهم يعادل عدد الديبلوماسيين. لذلك تتراوح تقديرات عديد الوجود العسكري الأمريكي في العراق بين الـ20 إلى الـ 30 الفا.
ومن المفهوم أن ارقام الفرق الخاصة، مثل ما يسمى بالـ«ديلتا» والـ«نيفي سيلس»، واماكن وجودها تبقى سرية حسب القانون وطبيعة العمل، لكن من المشروع التكهن ان نسبة عالية منهم، وقد وصل عددهم تحت ولاية اوباما إلى الـ 70 الفا، هو في العراق وسوريا بدون إعلان.
قد يظن البعض ان هذه المعلومات التفصيلية، على اختلاف الارقام، تؤكد للجميع بما لا يقبل الشك، ان القوات الأمريكية موجودة لا بشكل مستشارين ومدربين، فقط، بل انها تشارك في القتال الفعلي جوا وأرضا، وما مصرع عدد منهم، واعلان وزارة الدفاع الأمريكية عن مقتل أربعة جنود بين عامي 2015 و2016، غير دليل أضافي على الحقيقة. إلا ان هذه الحقيقة، تبدو غير كافية لرئيس الوزراء حيدر العبادي كلما وقف في حضرة الكاميرا، اسبوعيا، ليتفوه بأكاذيب تفوق من خلالها على سلفه الذي بات موضع اهزوجة « كذاب نوري المالكي كذاب».
ففي 19 آذار/ مارس 2017، اي بعد أعوام من تواجد القوات الأمريكية على الارض، استمع العراقيون إلى العبادي قائلا: «القوات التي تقاتل داعش على الأرض هي قوات عراقية فقط». ويبدو انه استمرأ الكذب، فأضاف: أن «هناك بعض الحاقدين يقومون بالترويج كذبا لوجود جنود اجانب يقاتلون على الاراضي العراقية». وكان قبل ذلك قد تغلب حتى الادارة الأمريكية في فبركاتها الدعائية، حين استقبل وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، في 20 فبراير/ شباط، وأكد له مبتسما «ان لاوجود للقوات الاجنبية على ارض العراق»، وكأن الجنود الأمريكان من أبناء عمومته ودينه ومذهبه.
واذا كانت وزارة الدفاع الأمريكية تكذب او لا توفر بشكل روتيني معلومات حول قدرات او قوات او مواقع او تحركات القوات داخل او خارج العراق «من اجل الحفاظ على المفاجأة التكتيكية وضمان الأمن التشغيلي وحماية القوة» وفقا لما ذكره المتحدث باسم البنتاغون لصحيفة «لوس أنجليس تايمز»، فما هو سبب هطول أكاذيب العبادي المفضوحة إلى حد الابتذال على الشعب العراقي الذي يدعي تمثيله؟
هل هي الاستهانة بعقول الناس وافتراض الغباء المطلق أم انه بات، وهو ليس الوحيد بين ساسة النظام، يصدق نفسه و«كلامه المثقوب» كما يقول نزار قباني. وما كنا سنضيع الوقت بمتابعة أكاذيب الادارة الأمريكية وساسة «العراق الجديد» لولا انها تكلف الشعوب حياة أبنائها بالمئات، يوميا، وتقودها من كارثة إلى أخرى، لتصبح مسؤوليتنا رصد انعكاسات الأكاذيب على الشعوب وتوثيقها، لئلا نسقط في أحبولة تسويق الشعارات والرطانة الشعبوية، بحجة مكافحة الإرهاب، بلا تمحيص.