برنامج «العراق ما بعد الحرب» / محمد كريشان
نظر إلى الدبابة الأمريكية وهي تعبر الشارع مسرعة وانفجر باكيا… «أنظر إلى بغداد كيف صار حالها.»…، قالها في ما يشبه النحيب وهو يقف عند باب بيته. كان الرسام العراقي الكبير نوري الراوي منهارا تماما وبالكاد تقوى رجلاه على حمل جسده المنهك الهزيل، بدا غائر العينين شاحب الوجه بشعره الأبيض الطويل الأشعث.
خرج متثاقلا يتحدث إلينا بحذر من باب حديقة بيته في حي الحارثية في قلب بغداد ذات صباح من شهر أيار/ مايو 2003 قبل أن يتعرف على عبد الله، الشاب العراقي المصاحب لنا فهو أخو عبد الناصر أحد أصحاب قاعات الفنون المعروفة في شارع أبي نواس الشهير التي يعرض فيها بعض لوحاته. إرتاح إلينا فدخلنا، وعلى عادة العراقيين سارع بمدنا بأكواب الماء بمجرد جلوسنا. شرعنا في الحديث عن أحوال البلاد التي احتلها الأمريكيون قبل أن نتسلل رويدا رويدا للحديث عن الغرض الأساسي من الزيارة.
كنا وقتها نقدم برنامجا يوميا مباشرا من بغداد بعنوان «العراق ما بعد الحرب» يتناول جوانب مختلفة من حياة العراقيين بعد الغزو وكانت حلقتنا يومها عن الفنانين العراقيين وكيف ينظرون إلى ما حل ببلادهم. كنا نريده ضيفا معنا ولم يكن بالإمكان وقتها الظفر بالضيوف إلا بالبحث عن إقاماتهم والذهاب إليهم مباشرة فالاتصالات الهاتفية الأرضية مضروبة بالكامل ولا وجود لشبكة هاتف نقال بالبلد. كان «الثريا»، ذلك الهاتف المرتبط مباشرة بالأقمار الاصطناعية، هو وسيلة الاتصال الوحيدة لدينا ولدى كل الصحافيين الكثر الذين كانوا هناك والسياسيين العراقيين والأجانب لكنها غالية جدا وليست في متناول أي كان.
رأى نوري الراوي هاتف الثريا بين أيدينا، لم يطلب منا شيئا لكنه شرع في الحديث بحسرة عن ابنه المهاجر في كندا… «لا شك أنه سيـُـجن المسكين الآن… هو أصلا لا يعلم إن كنت ووالدته على قيد الحياة أم لا.. كان من المستحيل أن يتحدث إلينا طوال الحرب، أما نحن فلا قدرة لنا على ذلك أيضا لا خلال الحرب ولا الآن»…. لم يصدق عيناه حين قلنا له بأن هاتفنا هو تحت تصرفه. إنتفض كالطفل وذهب مهرولا ليأتي بالرقم. تغيرت ملامحه في لحظات وهو يتحدث إلى ابنه دامعا، تحولت قسمات الكآبة والانكسار إلى تهلل لا حدود له إزداد بعد حديث الإبن مع أمه كذلك. لم يعد المكان يتسع لفرحته بعد هذه المكالمة التي بدت وكأنها أعادته إلى الحياة من جديد. لم يجد ما يمكن له أن يجازينا به على ما اعتبره معروفا لا يقدر بثمن سوى أن أتى بإحدى لوحاته التي اشتهرت برسم مدينته راوة بأشكال مختلفة ليكتب عليها الإهداء التالي» إلى العزيز مع باقة من ورد الجوزي البغدادي. بغداد 15 أيار – مايو 2003».
توفي من وصف بآخر رواد الفن التشكيلي العراقي في 13من نفس الشهر عام 2014 أي بعد 11 عاما بالضبط تقريبا من هذا اللقاء في بيته عن عمر ناهز التسعين عاما، كان أول مدير للمتحف العراقي من عام 1962 إلى 1974 ولهذا نكبر الرجل أكثر من غيره عندما نهب هذا المتحف الغالي على قلبه وسرقت منه عام 2003 المئات من الأعمال الرائدة واللوحات النادرة ومن بينها 15 لوحة من أعماله التي لم يستعد منها سوى واحدة فقط فيما اضطر إلى إعادة رسم أهم لوحاته المفقودة وهي لوحة «موناليزا» العراق.
لم ينس وهو يقدم لي لوحته الغالية أن يعتذر بخجل بأن هذه اللوحة ليست سوى نسخة إذ أنه أخذ كل لوحاته الأصلية إلى مدينة راوة لينقذها مما يمكن أن يحدثه القصف من دمار، فكر في نجدتها قبل أن يفكر في نفسه. أدخل وقتها بريشته بعض اللمسات على هذه النسخة، وبإهدائه وتوقيعه الذي خطه عليها أصبحت بالنسبة لي أثمن من أي لوحة أصلية لم ألتق بصاحبها فما بالك أن يفردني فيها بإهداء خاص.
لم يكن الراحل نوري الراوي وحده بين العراقيين في هذا الكرم وفي هذا الجود بأفضل ما يملك. في تلك الفترة التي قضيناها في بغداد وامتدت لشهرين كاملين وقدمنا فيهما برنامجا يوميا بانتظام في ظروف عمل قاسية للغاية، وقفنا على حالات من الحفاوة والترحيب تفوق الوصف. لن أنسى أبدا ذلك الرجل الذي بالكاد تعرف إلى فريق البرنامج فأصر على دعوتنا على الغداء أو العشاء إلى بيته. حاولنا جاهدين التهرب فعددنا كبير يناهز الخمسة عشر ونحن منهمكون طوال النهار في إعداد البرنامج وفي المساء يوجد حظر للتجوال.
عندما يئس منا، لم ير بدا أن يأتي لنا إلى مقر العمل بطبق ضخم من أكلة «دولمة» العراقية الشهيرة. جاء بها في تاكسي ولم نعلم سوى من غيره بعد ذلك… أن هذا الرجل نفسه كان باع سيارته وكامل أثاث بيته قبل أيام ليعيش هو وعائلته..