عن هلال المدن المنكوبة … وعن «داعش» العائد قوياً / حازم الامين
قريباً ستنضم مدينة الرقة السورية إلى رفيقاتها في بادية الشام، ضمن مسلسل المدن المنكوبة بالدمار، بعد سنوات من نكبة «داعش».
ثمة زلزال أصاب مدناً بعينها. بدءاً من الرمادي التي تبلغ نسبة الدمار فيها أكثر من 60 في المئة، ومروراً بتكريت ثم الموصل، ووصولاً إلى حلب. وبين الرمادي والموصل هناك الفلوجة الأقل دماراً، لكن الصدع الأهلي فيها يفوق الصدع في شقيقاتها، وهناك بعقوبة المثلومة بفصام مذهبي سيغذي مزيداً من الحروب. ومثلما لا يبدأ هلال النكبة من الرمادي، لا ينتهي عند حلب، ذاك أن حمص ليست من المدن الناجية، وبينهما حماه، مدينة المذبحة التي ما زالت تُغذي خيال الضحية بصورها.
هل يمكن أن يُبنى مستقبل على قاعدة أن زلزالاً ضرب هذه المدن، وعلينا أن نستأنف حياتنا في أعقابه؟ هل يمكن أن يُسجل نصر على «داعش» في ظل التعامي عما حدث؟
التقديرات الأولية تقول إن عدد سكان المدن المنكوبة يفوق العشرين مليوناً. هؤلاء خسروا أماكن عيشهم كلياً أو جزئياً. وغالبيتهم تقيم في مخيمات على تخوم مدنها. مخيمات هائلة وممتدة في منبسطات صحراوية، فيما المدن هالكة ولن يباشَر إعمارها في المدى المنظور. ورأى أصحاب نظرية الدمار أن الحل في أن يذوي «داعش» في الصحراء، وأن مخيمات النازحين ستكون حاجزاً بينها وبين السلطة المتشكلة على أنقاض هذه المدن.
هذه وصفة نموذجية لمد «داعش» بمزيد من الحياة ومن أسباب الوجود والتفشي. النتائج بدأت تظهر سريعاً. البؤس لن يلد إلا بؤساً، والتنظيم الإرهابي بدأ نقل نفوذه الذي خسره في المدن إلى الصحراء، وبدأ أيضاً يلحس أطراف المخيمات، ولعل أولها مخيم الركبان على الحدود مع الأردن، فاستهدف الجيش الأردني بعمليتين انتحاريتين هناك، وأقفلت المملكة حدودها مع المخيم.
دفع «داعش» إلى الصحراء بعد تدمير المدن هو وجهة الحرب الوحيدة على التنظيم، والحل الذي قُدم لسكان المدن المنكوبة هو مخيمات لجوء مرتجلة وهائلة. لا أحد يفكر في نتائج الخارطة الجديدة. ووحده «داعش» لن يكون مهزوماً في هذا الانتصار الأعمى على المدن. وحده من يملك بدائل واحتمالات، وسنكون بعد ذلك أمام صيغ حروب جديدة.
هناك هلال من المدن الكبرى المنكوبة، وبينها مدن صغرى أيضاً. بين الموصل وحلب هناك الرقة وهناك أيضاً تلعفر وتفصل بينهما صحراء هائلة لطالما كانت ملاذاً للعابرين إلى دوامة «الجهاد» من سورية إلى العراق قبل عقد من الزمن، ومن العراق إلى سورية في السنوات القليلة المنصرمة وصولاً إلى اليوم. وفي هذا الطريق المعبد إلى «الجهاد» أنشأ «داعش» وقبله «القاعدة» مضاجع جنوده وهيأ لهم فرصاً لنوم مديد.
يصح ذلك أيضاً على الصحراء التي تفصل مدينة الرمادي العراقية عن مخيم الركبان للاجئين السوريين على الحدود مع الأردن، ولنا أن نتخيل أي كيمياء يمكن أن تتشكل من هذا الحرمان وهذه الضغينة.
المشهد المنتظر لا يمكن أن تخطئه مخيلة. مدن هائلة منكوبة، تحيط بها مخيمات نازحين بائسة، تتصل بصحراء يقيم فيها «داعش»، وسلطة مذهبية وغاشمة متشكلة من عناصر هذا الخراب.
في العراق، لا تقترح الحرب على التنظيم الإرهابي سوى النصر العسكري في المدن، وفي سورية يبدو أن انتصار بشار الأسد على الناس وعلى المدن وشيك ومدموغ بقبول دولي. والنتيجة طبعاً هذه المدن الخربة، وملايين من النازحين الذين جل ما يعني العالم من قضيتهم تلك الأسوار التي تمنع وصولهم إليه، فيما لا أحد مكترث بإنشاء أسوار بينهم وبين «داعش». وهذا الوهم المتحصل عن اعتقاد بإمكان إقامة الأسوار لم يُضعفه، على ما يبدو، نجاح التنظيم الارهابي في مد جسوره إلى عمق دول بعيدة. والعالم يُكرر أخطاء تلو أخطاء في حروبه المزعومة على إرهاب غير مزعوم.
حين يسمع المرء مثلاً قصة مدينة تلعفر مع «داعش» ودور الصحراء و «الجهاد» المتبادل بين سورية والعراق، في تسرب التنظيم إلى المدينة وإلى أهلها، يُدرك أن شيئاً من هذا يتكرر اليوم، وأن أحداً لم يستفد من الدرس، لا بل يعتقد أن ما يجري مطلوب وأن السيناريو مرسوم. فتلعفر كانت تحت سلطة الحكومة العراقية في سنوات «الجهاد» الأولى بين 2005 و2012، وكذلك كانت المدن السورية المرسلة لـ «المجاهدين» تحت أنظار سلطتها في ذلك الوقت. تلعفر كانت المحطة العراقية الأولى لهؤلاء، وفي مساجد المدينة ومضافات «المجاهدين» فيها تشكل داعش عندما اختلطت في المدينة أمزجة عشائر تركمانية عُرّبت قسرياً، مع طموحات ضباط سابقين في الجيش العراقي، واستقبل هذا الخليط العجائبي «مجاهدين» قادمين من كل العالم عبر سورية.
اليوم ثمة عنصران جديدان على هذا الخليط الانفجاري، هما المدن المدمرة ومخيمات النازحين البائسة. النتائج ستكون سريعة الظهور ولن تنتظر استقرار السلطة للمنتصر الجائر. ثمة فرصة كبيرة لـ «داعش» لم يسبق أن أعطي مثلها. في السابق، اقتصرت الفرصة التي أعطيت له على امتناع نوري المالكي عن عقد تسوية سياسية في العراق، ورفض بشار الأسد الاستجابة لمطالب السوريين وقتله لهم. لم تكن المدن مدمرة في حينه، ولم تمتد مخيمات النازحين لتلحس وجه «داعش» في الصحراء. الوقائع اليوم أمتن، والامتناع عن استجابة مطالب الناس تحول انتصاراً عليهم ومحقاً لمدنهم. ونجح كل من بشار الأسد ونوري المالكي في إزالة المسافة بين المدن والتنظيم، فقد هُزم الناس في سياق هزيمة داعش، ولا شيء اليوم في هذه المخيمات سوى انتظار مزيد من البؤس ومن الجوع ومن انعدام شروط الحياة.
ثمة كائن مسخ قريب من هذه المخيمات، وحده من يملك طموحاً ومشاريع لسكانها. بدأ الاقتراب قبل أن يُغادر المدن التي هُزم فيها. ما يجري في الركبان ليس المؤشر الوحيد على ذلك. ففي مخيمات الموصل وقائع مشابهة، وأهل الرمادي لن ينتظروا طويلاً بديلاً عن مدينتهم المدمرة. الصحراء بطن ولادة للكثير من الأسرار، ولن يطول نوم التنظيم طويلاً فيها.