النظام العراقي يقول: نعم نعم أمريكا! / هيفاء زنكنة
قال وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ( 22 آذار/مارس)، ان القوات العسكرية الأمريكية ستبقى في العراق بعد هزيمة «الدولة الإسلامية» لسببين الأول هو تجنب عودة المنظمة الإرهابية، والثاني للعمل على «توفير شروط الشفاء التام من طغيان داعش». أمام الكونغرس، في ذات اليوم، أيده وزير الدفاع جيم ماتيس، قائلا انه يتعين على القوات الأمريكية البقاء بعد هزيمة «الدولة الإسلامية» لمنع عودة الجماعة الإرهابية. سبق هذه التصريحات، استدعاء رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أكد على التزام الولايات المتحدة باتفاقية الإطار الاستراتيجي العراقية – الأمريكية. و»استمرار الشراكة الثنائية على المدى البعيد لاستئصال جذور الإرهاب في العراق».
إن ترجمة هذه التصريحات على ارض الواقع تعني، ببساطة، شرعنة الاحتلال الكولونيالي الجديد، مرة أخرى، برضا النظام العراقي، على الرغم مما تتضمنه من مفردات لطيفة على غرار «شراكة، اتفاقية، تعاون». وجاء استدعاء العبادي ليبصم على العودة إلى «بيت الطاعة». صحيح إن قوات الاحتلال الأمريكية لم تغادر العراق، بشكل كلي، تحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، إلا أن أعدادها كانت قليلة، نسبيا، وحاول النظام العراقي ستر وجودها، مثل عورة، بمسميات غير مهينة ولا تلحق الضرر بالسمعة «الديمقراطية» للنظام وأمريكا معا، مثل «استشارة، تدريب، مساعدة». وهي ذات التسميات المستخدمة كغطاء لهيمنة الميليشيات المدعومة إيرانيا، خارج وداخل نطاق النظام.
تشير تصريحات تيلرسون وماتيس إلى ان إدارة ترامب لم تعد ترغب بالتستر على مساعداتها العسكرية أو حتى تغليفها بورق «المساعدات الإنسانية» الصقيل، بل إنها تطالب الدول المستجيرة بها إن تُعلن عن تقبل وجودها العسكري وأن تدفع أجوره وتكاليفه نقدا ونفطا، علنا، لا تحت الطاولة كما كان الحال في العراق، عبر النفط المصدر بدون قياس في الموانئ، وصفقات الفساد المشترك مع السياسيين وإيران التي أفرغت الخزينة العراقية وغطته الإدارة الأمريكية خلال الـ14 عاما الماضية. إنها خطوة تماثل ما طبقه رئيس الوكالة الأمريكية للتنمية السابق «أندرو ناستيوس» على منظمات المجتمع المدني المتلقية للدعم المادي قوله بأن على المنظمات أن تعلن صراحة تأييدها للسياسة الأمريكية وإلا قام بنفسه بتمزيق العقود، وأكد الموقف كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي في إدارة جورج بوش، قائلا بأن منظمات المجتمع المدني ذراع للسياسة الأمريكية!
إذن، لم يعد أمام العبادي، قيادي حزب الدعوة، المثرثر دوما عن سيادة العراق، إلا أن يبتسم باستخذاء المستجدي، مصغيا لمحتل بلاده وهو يكيل له الاهانات. مكرسا بذلك واحدا من الأمثلة النادرة، تاريخيا: أن تقوم حكومة ما باستجداء قوات أجنبية لاحتلالها، ودفع تكاليف احتلالها وقتل مواطنيها، مرتين.
يزيد من مرارة الفعلة النكراء، أن يتم الإعلان عن عودة هيمنة الاحتلال ،أرضا كما هو جوا، بشكل صريح، في ذكرى الغزو، بذريعة محاربة « الدولة الإسلامية»، هذه المرة، وليس إنقاذ العالم من أسلحة الدمار الشامل أو تحرير العراق، كما في المرة الأولى. حيث توٌظف الامبريالية، لكل حقبة زمنية، تبريرها. فما أُستخدم في الغزو الأول تجاوز فترة صلاحيته، خاصة بعد أن أثبتت « منجزات» المحتل ومن استجاروا به، على مدى السنوات، همجيتها، وأن ما ارتكبوه بحق المواطنين، عموما، كان مبنيا على سياسة استهداف وانتقام وتخريب منهجي. وان شعارات التحرير والديمقراطية وحقوق الإنسان لم تعد تنطلي حتى على السُذج. وأن اختلاق العدو، أيا كان أسمه (فلول النظام السابق، القاعدة، داعش، الإرهاب)، ضروري لعدة أسباب، أهمها: وسم مقاومة الاحتلال، الشرعية، الأخلاقية، بوسم الإرهاب، إثارة الفتنة، واستخدام العدو كذريعة لتمديد بقاء المحتل عسكريا بالإضافة إلى المعاهدات الملزمة، وهو ضرورة لحماية النظام الحاكم بالوكالة أو لمساعدته على التخلص من نصف الشعب (على الأقل) الذي لم يحز على رضاه، بأساليب مختلفة تراوح ما بين التهجير والاعتقال والقتل وقصف المدن.
يشكل قصف المدن وقتل المدنيين جراء ذلك، واحدا من أهم ما يميز حقبة الاحتلال، المباشر وغير المباشر، وحكوماته المتعاقبة. فالخوف من المقاومة، سَوغ قصف أهل الفلوجة باليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض، وتهديم 80 بالمئة من مبانيها. تلتها مدن أخرى، آخرها، المجزرة التي تعيشها مدينة الموصل حاليا، جراء قصف «قوات التحالف» المستمر، وتفجيرات تنظيم الدولة، لتصبح آلة الموت بلا حدود، والحياة الإنسانية بلا قيمة. لم يعد للذاكرة ما تختزنه، في مدينة الربيعين، غير صور بطانيات يحملها رجال هاربون من حطام مدينتهم. البطانيات المتربة تحتضن أطفالا ونساء، كانوا، ذات يوم، يحلمون بسفرات ربيع آذار العائلية.
إحصائيا، يقول «المرصد العراقي لحقوق الإنسان» إن عدد القتلى المدنيين في الموصل الذين تم تسجيلهم وتوثيقهم تجاوز 3846 شخصاً منذ بدء المعارك منتصف تشرين الأول/اكتوبر الماضي. ووثق موقع «الحرب الجوية»، المتخصص برصد عدد ضحايا قصف قوات التحالف، إن معدل عدد الضحايا من المدنيين، منذ بدء معركة الموصل، هو ثلاثة في اليوم الواحد.
محليا: في ذات الوقت الذي كان فيه المئات من أهل الموصل يدفنون تحت ركام القصف الأمريكي، ألقى «سماحة حجة الإسلام والمسلمين القائد السيد مقتدى الصدر- اعزه الله» خطاباً أمام تظاهرة حاشدة في ساحة التحرير في بغداد، توقع فيها بعض السذج أن يدعو، وهو الجامع بين كونه «حجة الإسلام والمسلمين» والقائد السياسي معا، ولو إلى التحقيق في الجريمة أو إقامة مجلس عزاء، مساندة لأهالي الضحايا. إلا انه اختار تجاهل القصف الأمريكي والمجزرة التي سببها، ولم يشر إليها ولو من باب تعبئة وتجييش أتباعه لترداد شعاره الحماسي المعتاد «كلا، كلا أمريكا». وتحدث عن خطر يهدد حياته! فهل سيكون شعار تظاهرته المقبلة، درءا للخطر، وبحضور نواب كتلته، ورضا حزب الدعوة «نعم، نعم أمريكا»؟