العراق.. وطابع البريد الباقي / بقلم: رشيد الخيّون
ذاكرة عراقية ثانية حملها فريد خلاصجي يوم غادر العراق بطوابعه فقط.
كأن فريد داوود خلاصجي، بعد رحيله من بغداد شاباً مع والديه (1974)، ينتظر اللحظة التي لم يبق من عراقه فيها سوى طابع البريد، وها هو يمر قرنٌ من الزمان على غزو بغداد الأول (1917-2017)، ففاجأ خلاصجي ذاكرة العراق بمجموعة طوابع بريدية، هي كل ما تبقى من تراث أهله الذين عاشوا على أرض العراق نحو ألفي وخمسمئة عام، ولم يخرجوا إلا بلفائف هذه الطوابع. جمعها في كتاب «بغداد تحت الاحتلال البريطاني: قصة الطوابع البريدية عام 1917». ذاكرة صرنا نفتش عنها في صفحات المذكرات والقواميس، نتأمل صور الطرقات، الناس، الحوانيت، المكتبات، والمدارس.
فمن المعلوم أن الطوابع التي تحمل شعارات الدول وصور زعمائها وأبرز معالمها، والمسكوكات النقدية، من أهم الوثائق، فمازال دينار ودرهم عبد الملك (ت 86هـ) ومَن جاء من بعده (المقريزي، شذور العقود في ذِكر النقود) وثائقَ تفوق مجلدات من الرّوايات والأخبار، وكل كلمة تحُلل بكتاب، ناهيك عمَّا تركته الحضارات القديمة من أدوات فخار ومعدن.
من هنا تأتي عظمة الفاجعة بنهب الوثائق والآثار، وجريمة الاتجار بها، ولولا غور الآثار القديمة في باطن الأرض، ما ظهر لنا خاتم سومري أو بابلي. فلم يبق ترادف الخراب والحروب أثراً لها ببغداد، وكانت عاصمة لإمبراطورية (145-656هـ)، سوى أحجار وحيطان تكاد لا تُرى. ذاب التاريخ في ماء دجلة، الشاهد الوحيد على جدلية العمران والخراب، والموت الكارثي الذي لا ينقطع عن أهلها.
وقفنا أمام طوابع خلاصجي، في معرضه قبل أيام، لا وقفة هواة جمع الطوابع كغيرنا من الزائرين، إنما وقفة أيتام يبحثون عن إرثهم الضائع، فبلادهم مقبلة على الانتحار، بتقسيم يهددها من الجهات الأربع، وأصحاب الثياب السود، وبقية كائنات الموت، يتربصون ببقية الناس فيها، يوقظونهم من وهم الاعتراض بالتظاهر، وساسة لا تنطبق عليهم أوصاف السياسة. كلٌّ منهم يحمل تحت إبطه ملفاً من الخراب، وللخراب حماته، من خارج الحدود، بمسلحين لا تعرف إلى أي عصر ينتمون، لا على ألسنتهم ولا في أفئدتهم ذرة من هذه البلاد، بعد أن غُسلت أدمغتهم في مدارس التوبة والتوابين وورش الإرهاب.
أريتم جيش دولة تطارده مليشيا خارجة عن القانون؟ هذا ما حدث في صبيحة السبت الدَّامي (11/2/2017)، أصحاب الثياب السود يأسرون الجنود والضباط، كي ينفردوا بضحاياهم من الشباب. كان الجواهري (ت 1997)، وسامعوه من الثَّائرين (14 فبراير 1948)، وهو متسلق عمود الكهرباء، مارسوا الدلال قياساً بديمقراطية بغداد اليوم، فقد اعترضوا على معاهدة بورتسموث، والغالب لم يعرف بنودها، ولما فاجأهم الرصاص قال الجواهري في «أخي جعفر» المقتول فيها: «أتعلمُ أَم أنتَ لا تعلمُ/بأَن جراحات الضَّحايا فمُ/فمٌ ليس كالمدعي قولةً/وليس كآخرَ يسترحمُ/يصيحُ على المُدْقعينَ الجياع/أريقوا دماءَكم تطعموا/ويهْتفُ بالنَّفرِ المُهطعين/أهينوا لِئامكم تُكرموا» (الدِّيوان)، وهل هناك أذلُ منا وألأم من أحزابهم وعمائمهم المطرزة بالسياسة ولا سياسة؟
أما اليوم فالشّرطة من نوع آخر، ترتعش منها الحكومة نفسها وتنقضُّ على الجيش نفسه، واختلفت المطالب، لا اعتراض على معاهدة، فالبلد مكبل بمعاهدات، إنما شيب وشباب يسألون عن اختفاء ثروة بلادهم الطائلة، بينما لم يصلهم دقيق وسكر الحصة التموينية، يسألون عن الفرهود في الأموال والعقارات، وعن الغنى الفاحش الذي هبط على قادة الأحزاب والجماعات. كشر القتلة عن أنيابهم من قَبل عندما ظن المفجوعون أن التَّظاهر من أوليات الدِّيمقراطية (فبراير 2011).
أصبحت البلاد مكتباً للجيران، ينفذون منها رغباتهم الدينية الثورية بشباب العراق وأمواله، ووزارة خارجيته غدت دائرة تابعة في العلانية، يسمع وزيرها برصاص تظاهرات البلدان الأقاصي، ولا يسمع أزيز رصاص أصحاب الثياب السود، على عراة ساحة التَّحرير، عند مدخل وزارته! فماذا بقي من الدولة، التي يتشاجرون على مفوضية انتخاباتها، ويتسابقون على الفوز عبر الديمقراطية، وهي أقرب إلى الحمل الكاذب!
ليس أمامنا من حقيقة تاريخ هذه البلاد سوى الطوابع، عهد دولة امتد إلى قرن من الزمان، اختُصر في طابع، كانت قيمته عانة أو أربع عانات (العانة أربعة فلوس)، فالثروة مازالت تُحمل إلى الخارج في خدمة شعار: «أتيناكِ يا حلب، أتياناكِ يا صنعاء، أتيناك يا بيروت»، وفي كلِّ مكان يحارب فيه إسلامهم. لم يبق من الأثر السومري والبابلي والآشوري غير ما دون في ديباجة الدّستور رياءً.
رحل أهل الأَديان الأُصلاء تباعاً بعد أن استيقظوا ذات صباح فوجدوا أنفسهم غرباء، وقد سبقهم قوم خلاصجي إلى المهاجر بحافظة طوابع لا غيرها. كم يكون الوهم عميقاً والحلم كاذباً عندما تشعر أن بلادك، التي شرق فيها العالم وغرب، تستحيل إلى مجرد طابع بريد، أو قطعة نقد يغطيها صدأ النِّسيان.