هل صدام الحضارات إعلان حرب على الإسلام
لم يحظ كتاب هانتـنغتون “صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي الجديد” حين نُشرَ لأول مرة أواخر القرن الماضي باهتمام واسع، كما قد يظن البعض، إذ لم تطّلع عليه شريحة كبيرة من القراء خارج الإطار الأكاديمي والثـقافي الضيق، فلاقـت أطروحته بعض النقد والتحليل من حفنة من المفكرين والكتاب في الشرق والغرب.
مع مطلع القرن الحالي، وترافـقاً مع الخطاب الديماغوجي الصدامي لجورج دبليو بوش رداً على أحداث 11 أيلول، والتي وصفها الرئيس المذكور ببداية صدام تاريخي جديد بين الخير والشر، بين الغرب والباقين، “من معنا ومن ضدنا”، عادت أطروحة هانتـنغتون مجدداً إلى دائرة الضوء بزخمِ أقوى من السابق. وبدأت تحظى باهتمام متعدد الأطراف، خاصة في الشرق الأوسط. منذ بضع سنوات، ترجمت دار الساقي كتاب هانتـنغتون للغة العربية متيحةً لأكثر من 250 مليون عربي فرصة قراءته. وقبل وصول الكتاب للأسواق العربية كانت عبارة “صدام الحضارات” واسم هانتـنغتون قـد سبقاه إلى المنطقة وصارا على كل لسان. لم تعد تخلو مقالة أو بحث حول السياسة بعد 11 أيلول من تـلميحٍ صريحٍ أو مموّه يندد فيه بالكاتب وبالكتاب.
حتى أنه يمكن القول إنَّ المفكرين والكتاب العرب أجمعوا على نـقـد حاد، بل وعنيف أحياناً، لأطروحة صدام الحضارات لأنها برأيهم أطروحة ضد الإسلام حصراً وتحديداً، لأنَّ كاتب الكتاب، على حد زعمهم، يبشر صراحةً بحربٍ حضارية وسياسية ووجودية ضد العالم الإسلامي. يمكن بسهولة ملاحظة حظوة هذا الإجماع بالتأييد الشعبي في الشارع العربي، فـما أكثر الذين يحيلونك إلى كتاب هانتـنغتون كدليل على البغض والعداء والتعطش الغربي العارم للهيمنة على الإسلام ودحره من الوجود في العالم المعاصر.
بعد أن قـادني هذا الإجماع لدراسة الكتاب -وقـد قرأته بلغته الأصلية، الإنكليزية- وفحص منهجيته بشكلٍ هادئ وغير متحيز وبعيد عن الغرائزية، صرت أتساءل هـل يدعو هانتـنغتون فعلاً الغرب إلى عداء وحرب ضد الإسلام؟ هل أطروحة الصدام الحضاري عظة أصولية تبشر بقرع طبول الحرب على الإسلام؟ وهل من المنصف اتهام الكاتب والكتاب بأنهما صنيعة الأنتـلجنسيا الغربية التي تطمح لتسويق أطروحة تبريرية للسياسة الأميركية تعيدنا لعصر حروبٍ صليبية بائدة، خاصةً بعد أن ضرب الإرهاب أقوى دول الغرب والعالم في عقر دارها؟ قراءتي الشخصية للكتاب ودراستي لمنطلقاته الفلسفية تجعلني أقول إنَّ العداء الغربي المزعوم لا يمكن إرجاعه إلى أطروحة كتاب “صدام الحضارات” تحديداً.
وإن كانت الأوساط الحاكمة الأميركية تردد اليوم عبارات “صدام” و”الغرب والباقين” فهذا لا يدل على أنَّ كتاب هانتـنغتون هو النص المقدس الذي يستلهمون منه عقائدهم. وإذا كانوا يعتقدون أن الكتاب المذكور يدعم طروحاتهم فهم أيضاً مثـل معظم المفكرين العرب، على خطأ. مشكلة طرح الكتاب لا تكمن في نوايا كاتبه ولا في أيّ عداءٍ مزعومٍ للإسلام، بل في القاعدة المنطقية الناظمة التي يؤسس عليها هانتـنغتون نظريته.
هل يدعو هانتـنغتون فعلا الغرب إلى عداء وحرب ضد الإسلام؟ هل أطروحة الصدام الحضاري عظة أصولية تبشر بقرع طبول الحرب على الإسلام؟ وهل من المنصف اتهام الكاتب والكتاب بأنهما صنيعة الأنتلجنسيا الغربية
العالم وحضاراته
يبدأ هانتـنغتون الحديث في كتابه عن عالم اليوم واضعاً إياه في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وبداية عصر العولمة الجارف. فبعد أن كان العالم مقسماً إلى معسكرين رأسمالي وشيوعي، صار اليوم مقسماً إلى “نحن وهم”. يخلص هانتـنغتون من هذا إلى أن علينا، بشكل أساس، أن نتحدث اليوم عن “الغرب والباقين” (Huntington، The Clash of Civilizations، pp. 32-33). يؤسس هانتـنغتون تلك الرؤية على فرضية أساسية تقول إننا “لا نعرف هويتـنا إلا عندما نعرف ما لسنا إياه وغالباً حين نعرف من نعادي” (Huntington، p.21). لما هذه الفرضية وليس سواها؟ لأنَّ ما يشكل العامل الأساسي للتكامل أو للصدام أو للتشرذم في عالم ما بعد الحرب الباردة، برأي هانتـنغتون، هو الهويات الحضارية الموجودة فيه، وما يصنع السياسات الدولية السائدة هو طغيان العامل الحضاري إذ أنها سياسات مؤسسة على مقومات عرقية ومحكومة بعوامل التـقارب الثـقافي بين الشعوب وليس المصالح والمبادئ الأيديولوجية القـديمة، الأمر الذي من شأنه أن يخرج مظاهر الاختلاف والتضاد بين حضارة وأخرى ويضعها على السطح ويسبقها على أي مظهرٍ آخر (نفسه، ص. 28).
لا شك أنَّ العالم يعيش في فوضى كونية، إلا أنَّ سببها ليس صراعات قومية وأيديولوجية، يحاجج هانتـنغتون، بل صدامات بين جماعات دولتيه تـنتمي لحضارات مختلفة (نفسه، ص.36). وبما أنَّ تلك الحضارات مؤسَّسة بجوهرها على معتـقدات دينية، فإن هذا يجعل من الدين من صلب العوامل التي تخلق التـنافر في العالم المعاصر. الحضارة، إذن، هي تـلك الـ”نحن” المبادئية التي نعرِّف بها ذاتـنا في اختلافـنا عن الـ”هم” الخاصة بمن ليسوا مثـلنا (نفسه، ص.43 وما يليها). من هنا فإنه لا مجال لفهم عالم اليوم، برأي هانتـنغتون، إلا من خلال استقراء خريطة حضارات العالم المعاصر في سياق اختلافها عن بعضها وعلى قاعدة وعيها لتضادها مع بعضها البعض على قاعدة أنَّ “الشعوب تعرِّف نفسها (وتعرفها) بالاعتماد على اختلافـها عن الآخرين في سياق معين” (نفسه، ص.67).
يقسم هانتـنغتون العالم في بداية كتابه إلى الحضارات التالية: الصينية، اليابانية، الهندية، الإسلامية، الأرثوذكسية (مركزها روسيا وهي استمرار للإرث البيزنطي)، الغربية، الأميركية اللاتينية وأخيراً الأفـريقية (نفسه، ص.45-48). ويقدم في فصول كتابه اللاحقة قـراءة تاريخية عن كل حضارة وصداماتها وعلاقـاتها التاريخية مع الحضارات الأخرى؛ قبل أن يختم بالتـنبؤ بالتحالفات المحتملة بين الحضارات وتـلك غير المحتملة، مشدداً على أنَّ معطيات نظام التطور التاريخي وحقائق الاستـقراء العلمي تؤكد على أنَّ أبرز صدام قادم هو الصدام بين الإسلام والغرب.
القراءة المتأنية تبين لنا أن هانتـنغتون لا يبشر بالصدام ولا يتعطش إليه شخصياً. إلا أنه يقترح أنَّ الصدام محتوم تاريخياً لأنَّ الطرف الأكثر تضاداً مع الإسلام، والأقـدر بالتالي على دفع الإسلام لمعرفة الذات وتحقيقها في علاقة قوامها تضاد، هي الحضارة الغربية دون سواها. ما يغذي حتمية هذا الصدام، برأي هانتـنغتون، هو عودة الدين للعب دورٍ عضوي في تكوين وتوجيه الحراك الحضاري، لا في حضن الإسلام ولكن في ظهرانين الحضارة الغربية أيضاً. “العودة للمقدس هي رد الناس على رؤية العالم كفضاء أحادي مفرد،” يقول هانتـنغتون (نفسه، ص.68).
وفي عالمٍ تسوده جهودٌ عارمة لعولمة الحضارات، يصبح تأثير حضارة على سواها مؤشراً على قوتها الذاتية (نفسه، ص.91)، وبالتالي مؤشراً على قـوة وتـفوق الخطاب الديني الذي يقف وراء تلك الحضارة ويشكل أحد أهم حواملها التقليدية والإرثية. يصبح الدين مقياس الرِفعَة أو الدنو في الصدام الحضاري.
لا يحصر هانتـنغتون منطق الصدام الأنطولوجي الذي يخلق معرفة قوامها التضاد مع الآخر بحضارة واحدة أو اثـنتين، بل يعتبره ناظماً لبنيان كل الحضارات على حد سواء. إلا أنَّ بروز الصدام في إحدى الحضارات دون الأخرى يعود بتـفسير هانتـنغتون لما تملكه تـلك الأولى من إمكانات سياسية، اقتصادية، عسكرية، تـقنية وبشرية. قراءة ماضي تـلك الحضارات يفتح أمامنا نافذة على مستقبلها ويجعلنا نمسك بزمام منظومة حراكها الداخلية والخارجية فيصبح توقُّـع مآلها المستقبلي ممكناً بمنتهى اليسر. يجعلنا الحراك الحضاري الشمولي، كما يرى هانتـنغتون، نؤكد على وجود ثوابت أساسية مرجعية في هوية كل حضارة وإدراك أن تلك الثوابت هي التي تجعل الصدام أمراً لا مفر منه “الغرور الغربي، التعصب الإسلامي، واليقينية الصينية” (نفسه، ص.183).
تلك هي عناوين المستقبل، إذ ستنشأ كل أنواع الحروب من صدام تـلك الحضارات الثلاث بسبب ثوابتها المذكورة (الغرور والتعصب واليقينية) وسيندر وجود الثـقة والصداقة في العالم (نفسه، ص.207). يـُثبِت الحراك التاريخي لهانتـنغتون أنَّ الصدام بين الإسلام والغرب ليس طارئاً أو ظرفياً خلقته خلافات بين الغرب وتيار إسلامي أصولي محدد. إنه صدام للغرب مع “الإسلام” بحدّ ذاته. الأمر مماثـل من جانب الإسلام، فصدامه ليس مع أطراف معينة في الغرب بل مع “الغرب” بحد ذاته أيضاً (نفسه، ص.217-218). وهو يجزم أنَّ خطاب الصدام موجود في الغرب كما هو موجود في الإسلام. كلاهما يعتقد بالصدام كما يثبت الحراك التاريخي المحتم لكلا الحضارتين. ويخلص هانتـنغتون إلى أنَّ تسليمنا بتـلك المنظومة الأنطولوجية لحركة التاريخ يمكننا من استباق حدوث المستقبل الصدامي المحتم بكل يقين.
الصدام الحضاري والحتمية التاريخانية
يمكن وصف منهجية هانتـنغتون في فهم الحراك الحضاري وأسس تشكُّل الهوية الحضارية بالمنهج السوسيولوجي التاريخاني بامتياز. وباعتقادي أنَّ مشكلة الكتاب هي هذه المنهجية بالذات.
في حديثه عن الأيديولوجيا التاريخانية، يبيّن الفيلسوف المعاصر كارل بوبر أنَّ أهم مشكلة في تلك الفلسفة هو أنها تتعمد أن تـنكر جانب المعرفة المتأتية من مراقـبة التطورات الحدثية الآنية للحاضر بأن تـدفعنا لتبني منهج معرفي شمولي فوقي يعوِّل على قوننة معطيات الماضي وفرض قوالب مؤدلجة على الحاضر مؤسسة على هذا الماضي وتعميمها على المستقبل (كارل بوبر، بؤس الأيديولوجيا، ص.60).
من حيث المبدأ، لا مشكلة في استخلاص ماهية المجتمعات والتعرف عليها من خلال الإطلالة على حراكها التاريخي. حراك التاريخ عنصر أساسي في قـوام المعرفة. إلا أنَّ المشكلة المعرفية في التاريخانية تكمن في تـنميط الحراك التاريخي لدرجة تجعل الباحث التاريخاني يعتـقد بامتلاكه قـدرة مرجعية جامعة مانعة على التـنبؤ بتطورات الحراك على كافة مستوياته الماهوية، بل وقـدرته على نظم قـوانين كلية مؤسسة على نبوءات “واسعة النطاق” وبعيدة المدى “تـقرر مسبقاً مآل الحراك وغاياته” (بوبر، ص.49 وما يليها).
في حديثه عن الصدام الحضاري، يقدم هانتـنغتون الحضارات كأجسام مجتمعية ذات قوانين وأطر عامة نمطية وثابتة يؤسس عليها فهمه لكل حضارة ومستقبل حراكها الداخلي والخارجي المحتوم. كأنه يحاول لعب دور عالم الطبيعيات الذي تنحصر مهمته العلمية بتوصيف الواقع واستقراء الظواهر الطبيعية التي تتكرر بطبيعتها، نائياً بنفسه عن أي تحليل استـنتاجي تقييمي. لا يمكن في الواقع إنكار محاولة هانتـنغتون التوصيف وتجنب التقييم.
ولذلك لا يمكن اتهامه بالتبشير الشخصي بحرب على الآخر. ولذلك لا يشكل كتابه خطاباً ضد حضارة معينة لصالح حضارة أخرى، وهو ليس بالهجوم المبطن على الإسلام أو على سواه. إلا أنني أعتقد أنَّ نهجه التوصيفي لم يلتـزم بقواعد التحليل الموضوعي الداخلية لأنه حاول لعب دور العالم الطبيعي في فضاءٍ معرفي لا ينفع معه هذا الدور لأنه فضاء من طبيعة معرفية وماهوية مختلفة عن عالم الطبيعيات. مناهج البحث العلمي الطبيعي لا تـنطبق على الفضاء المعرفي التاريخي والمجتمعي، فالطبيعيات لها قانون يتصف بنوع من الثبات والنمطية إلى حدٍ ما، في حين النمطية أبعد ما يكون عن الحراك البشري والتاريخي. لذلك، المسألة ليست في مدى كفاءة هانتـنغتون بل في مدى مشروعية استخدامه لمناهج معرفية في غير إطارها الصحيح. يذكّرنا كارل بوبر مصيباً بأنه من غير المجدي تطبيق منهجيات المعرفة السوسيو-تاريخانية بناء على افتراض أنها تـنتج وصفاً استقرائياً يبرر الاعتقاد بنظام شمولي ثابت يفسر حراك الحضارات في كل زمان ومكان.
تحدث هانتنغتن مثلاً عن الإسلام في الشرق ووصف الإنسان المسلم بناء على فهم كلّي افتراضي استقاه من قراءة ثابتة لتاريخ الإسلام. ولكن، ماذا عن الإسلام في الغرب؟ هل تـنطبق عليه نفس المنظومة؟
المعرفة التاريخانية لا يمكن أن تكون وضعية وصفية لأنها تركز على الغايات والمعاني وليس على العلل والمسببات (نفسه، ص.31). كما أنَّ النظرة العمومية التي تـتقصّى مراقـبة الظاهرة من خارجها، من خلال نسق تطوري عام يحكمها، لا تمثـل نظرة علمية إلى جماعة تعيش في التاريخ حيث ديناميكية الحياة تتغير بشكل معقـّد غير نمطي أغلب الأحيان. “الكليات بمعنى مجموع الصفات والعلاقات لا تصلح موضوعاً للدراسة العلمية ولا يمكن أن تكون موضوعاً لأيّ عمل آخر كالتحكم فيها أو إعادة تركيبها” (نفسه، ص.92).
فات هانتـنغتون، برأيي، الانتباه لتـنوع الأطياف الماهوية التي تشكل البشر خارج حدود الإطار الحضاري الجمعي المتوارث في كل حضارة على حدة. فهو تحدث مثلاً عن الإسلام في الشرق ووصف الإنسان المسلم بناء على فهم كلّي افتراضي استقاه من قراءة ثابتة لتاريخ الإسلام. ولكن، ماذا عن الإسلام في الغرب؟ هل تـنطبق عليه نفس المنظومة؟ ملايين من المسلمين ولدوا لعائلات مسلمة تعيش في الغرب ولا تعرف الشرق ولم تر الفضاء الإسلامي الشرقي يوماً. عاشوا في بيوت يدين أهلها بالإسلام، إلا أنهم نموا وترعرعوا في مجتمعات غير مسلمة بل غربية. هم مسلمون غربيون لا ينتمون للفضاء الحضاري الإسلامي الناظم ولا ينتمون أيضاً للفضاء الحضاري الغربي مائة بالمائة.
وماذا عن مسيحيي الشرق؟ أي منظومة حضارية تـنطبق عليهم وأي قـدر محتوم؟ هم ليسوا مسلمين، إلا أنهم يعيشون في المحيط الحضاري الإسلامي الناظم. وهم مسيحيون إلا أنهم لا ينتمون للفضاء المسيحي الناظم الغربي. هم لا يكرهون الغرب لمجرد كونه غرب ولا يكرهون الإسلام لمجرد كونه إسلام وليس مسيحية. قام في القرن الماضي جدل تاريخي طويل حول هوية المسيحيين الشرقيين الحضارية ومازال هذا النقاش مفتوحاً حتى هذه الساعة. كما دار جدل جوهري أوسع ومازال في اللاهوت المسيحي حول ما إذا كانت المسيحية بجوهرها “حضارة” أم مجرد فعل إيمان ديني. وهو جدل مرتبط بدوره بسؤال آخر حول علاقة جماعة المسيح بالعالم والتاريخ أصلاً.
ماذا أيضاً عن الغرب نفسه؟ ألا يخبرنا الواقع أنَّ هناك أكثر من حراك حضاري غربي واحد في أوروبا وأميركا؟ من يعيش في الغرب يدرك أنَّ المسالة الحضارية معقدة أكثر بكثير من أيّ نظرة شمولية نمطية. ففي بريطانيا، مثلاً، هناك جدل عويص حول أزمة الهوية البريطانية بين جيلٍ مازال يجد جذوره الحضارية في العصر الإمبراطوري الفكتوري وجيل معاصر يصعب عليه التجذّر في أي شيء في قـلب انجرافه في تيار شديد الكوزموبوليتانية والنسبية بشكلٍ لا يمكن معه التكهن بما سيؤول إليه حال بريطانيا القادمة، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي مؤخراً. “الغرب” برأي هانتـنغتون هو الاصطلاح الرديف لما كان يسمى “المسيحية الغربية” (هانتـنغتون، ص.47).
ولكن، ينسى هانتـنغتون أنَّ الدين لا يتماهى مع الحضارة دوماً، خاصة في تاريخ المسيحية؛ فتلك الأخيرة لعبت أحياناً دور الناقـد الشديد والمناهض لأحادية الحضارة، وأحياناً لعبت الحضارة بالمقابل دور الناقـد لضيق أفـق المسيحية. من هنا يجب التـنبـُّه إلى حقيقة أنه ليس بالضرورة أن يكون الصدام الحضاري انعكاسا لصدام ديني، خاصةً وأنَّ لكل دين فهمه المختـلف لعلاقة الدين بالحضارة. الكثير من الباحثين الغربيين اليوم سيترددون بقوة قبل أن يتـفقوا مع مماهاة هانتـنغتون للهوية الحضارية الغربية بالهوية الدينية الكاثوليكية والبروتستانتية (نفسه، ص.160). فالغرب اليوم فضاء حضاري علماني لا ديني أكثر منه دينيا بالمعنى الإسلامي أو البوذي أو حتى المسيحي التـقليدي.
بالإضافة لما سبق، إنَّ انطلاق هانتـنغتون من الفرضية القائـلة أنَّ معرفة الذات لا تتم إلا في تضاد مع الآخر المعادي وتعميمه الفوقي لتلك الفرضية على كافة الحضارات وحراكها التاريخي كما بينا في ما سبق هو مشكلة بحد ذاته. تـذكـّرنا تـلك الفرضية بالمنطق الجدلي الديالكتيكي الهيغلي في استطرادته وتوظيفه الماركسيين.
ففلسفة هيغل في كتابيه “فلسفة التاريخ” و” تاريخ الفلسفة”وطرح كارل ماركس في كتابه “رأس المال”يقومان على أساس فكرة المعرفة بالتضاد التي تـفرز خلاصة مستقبلية تـنتج حتماً عن الصدام الحاضر بين عناصر متضاربة ومتعاكسة أنطولوجياً. حوَّل كل من هيغل وبعده ماركس سيرورة المعرفة الجدلية الصدامية إلى نظام تطوري ثابت للتاريخ وإلى قانون عام لحراكك التاريخ نستطيع معرفته بمراقبة أطواره إلا أننا لا يمكن أن نغيره أو نتدخل فيه لمنعه. نقدر فقط أن نساعد في تسريع حصوله المحتوم وفي الإشارة إلى حدوثه الوشيك.
هذا ما يمكن وصفه بـ”يوتوبيا الحراك التاريخي”. إنَّ النهج المعرفي الجدلي أو الديالكتيكي بحد ذاته ليس اختراع هيغل أو ماركس كما هو معروف، فهو قـديم في تاريخ الفكر ويعود إلى سقراط وأفلاطون وإلى عملية تشكيله النظري في نصوص أرسطوطاليس. يرى أفلاطون، مثلاً، أنَّ المعرفة تـنشأ من عملية حوار يشبه مخاض المرأة الذي يحفّـِز الجنين على الخروج من الرحم. المعرفة حوار يبدأ بالتساؤل الذي يحفـِّـز المعرفة ومن تـفاعل الأفـكار المتخالفة نحصل على الحقيقة الثابتة (Plato، Theatetus، p.41). يتبنى أرسطو بدوره نفس المنهج الجدلي، إلا أنه يشدد على ناحية الاختلاف والتضاد مؤكـداً أنَّ الفكرتين المتضادتين لا يمكن أن تكونا حقيقيتين معاً ولا يمكن إيجاد حالة وسطى بديلة عنهما (ِAristotle، Metaphysics، pp.104-108). لأرسطو تعود أيضاً مماهاة العام بالخاص والكلي بالجزئي بشكل عضوي صارم يعـرِّف أرسطو فيه الثاني على أساس الأول. مهمة الفكر برأيه أن يعرِّف الأشياء في كليتها وليس جزئيات منها والمعرفة الكلية معرفة استقرائية (أرسطو، ص.153-156).
في قراءته لهذا الفكر آنف الذكر، يعتقد برتراند راسل أنَّ هذا المزج الأرسطي قـد أدى لنتائج كارثية في الفكر الغربي (B. Russell، History of Western Philosophy، p.209). راسل محق برأيي في هذه النقطة، فهذه المماهاة ألغت احتمال التغيير والمفاجأة في الحراك المعرفي وقادت لافـتراض منظومة معرفية عامة وطغيانية ومرجعية فوقية مطلقة تهمل التـفاصيل والخصوصيات وحراكها المتبدل (أفلاطون، ص.41 وما يليها). إنَّ المعرفة الشمولية لحراك حضاري من خلال فرض نظام تاريخاني كلي فوقي لا يودي بالضرورة لمعرفة وافـية وعميقة لمكونات هذا الكلي المتغيرة.
الكل لا يساوي الأجزاء المكونة له (نفسه، ص.121 وما يليها)، لهذا فإنَّ إدعاء القـدرة على الوصف الكلي أمر غير واقعي، فنحن لا نستطيع في الواقع وصف أيّ شيء بكليته مهما كان صغيراً لأنَّ كل وصف هو وصف انتخابي بالضرورة (بوبر، بؤس الأيديولوجيا، ص.92). الحديث عن حضارة إسلامية أو بوذية أو غربية لا يمكن أن يكون في الواقع إلا وصفاً انتخابياً لا يمكن جعله ناظماً لعلاقـة هذه الحضارة بحضارة أخرى. من هنا نقول إنَّ الحديث عن صدام حضاري ليس بحد ذاته مشكلة. المشكلة الفعلية تكمن في قوننة وأدلجة مسألة تكرار حدوث الصدام ومسألة الإصرار على نمطية عملية الحدوث المتكرر.
لا يرفض هانتـنغتون والتاريخانيون فكرة التغيير من حيث المبدأ، فالمجتمع متغير حتماً كما تعلمنا التجربة الاختبارية وهم لا يستطيعون إنكار هذا. إلا أنهم يصرُّون على رسم طريقٍ محدد بنيوي لهذا الحراك يمر بمراحل “عـّينتها قَـبليـاً ضرورة لا تلين،” على حد تعبير هانتـنغتون (نفسه، ص.65). تلك الضرورة، وفق هانتـنغتون، ما هي إلا ضرورة وحتمية الصدام الديالكتيكي مع الآخر. يبدو هانتـنغتون كالمؤمن بأنَّ جلَّ ما يحق له هو أن يصف الحاضر في هدي الماضي التاريخي لكل حضارة متـنبئاً بالنتيجة المحتمة دون أن يرى مجالاً لتغييرها من قبل أحد.
باعتقادي أنَّ الخوف والامتعاض من نظرية هانتـنغتون في الأوساط الإسلامية والعالمية لا يكمن في وصف هذه النظرية لمصير العالم بحد ذاته بل في تشديدها بشكل مفرط وحاسم على حتمية هذا المصير انطلاقاً من منهج معرفي لا يؤمن بالقـدرة على تغيير الحراك التاريخي بل بالرضوخ لحتمية هذا الحراك وديالكتيكية طبيعته المطلقة. الرفض يكمن في أنَّ هكـذا ذهنية لا تترك مجالاً للرجاء بعالم لا صدام فيه ولا تشجِّع الإنسان على محاولة القيام بعمل فاعل لصنع مستقبل يقوم على التـفاؤل بمصالحة حضارية وعلى التعاضد والإقبال على الآخر واحتضانه والحوار معه بدلاً من الصدام والتـنافس. المنهج التاريخاني لا يمكن أن يطرح احتمالاً تفاؤلياً يفوق احتمال الصدام. فالتـفاؤل يعني المفاجأة وإمكانية نشوء معطيات غير متوقعة، وهذا يتعارض مفهوماً مع الحتمية الإبستمولوجية. من هنا يبدو الخوف من فكرة صدام الحضارات مشروعاً من حيث المبدأ لأنها لا تتيح مجالاً للأمل في العالم. الأمل واجب أخلاقي، كما يذكرنا كارل بوبر.
بسبب هـذا، تعالت أصوات كثيرة في الشرق يوماً، مثل صوت الرئيس الإيراني محمد خاتمي (شتان بينه وبين أداء وممارسات نظام إيران اليوم والذي يبدو كمن تخلى عن خطاب خاتمي وتبنى خطاب هانتـنغتون دون سواه بأن نحا إلى صدام حتى الموت بينه وبين الإسلام السنّي) منادية بحوار الحضارات عوضاً عن الصدام. لعمري أنَّ هانتـنغتون لن يعارض دعوة خاتمي. المشكلة الحقيقة ليست في نوايا هانتـنغتون بل في منهجه المعرفي واحتمال تبنيه من قبل أطراف هـدفها إشعال فتيل الحرب بأيّ ثمن وبأيّ ذريعة (كما حصل في العالم العربي وفي سياق الصراع الشيعي-السني مؤخراً). عندها يتحول طرح هانتـنغتون العلمي البحثي إلى أطروحة سياسية إقصائية تهدف لإلغاء الآخر.
خاتـمة
ما أردت توضيحه في هذه الدراسة هو أنَّ القراءة المتأنية لكتاب “صدام الحضارات” تبين أنَّ الكاتب لا يبشر ولا يسوِّق لحرب شعواء بين الغرب والإسلام. كما أنه لا يطالب الغرب بحصر الصدام الحضاري مع الإسلام، مع أنه يرجِّح حدوث هذا الصدام أكثر من غيره. وبرغم المشاكل المنهجية والإبستمولوجية في نظرية هانتـنغتون الصدامية إلا أنَّ هذا لا يدل بأيّ شكل من الأشكال على عدوانية الكاتب للإسلام والعرب ولا على أنه يكتب برنامجاً سياسياً للحكومة الأميركية تبرر به مشاريعها العدائية.