صعود الأيديولوجيات وهبوطها في العالم العربي / ماجد كيالي
ثورات الربيع العربي أنهت أو مهدت لأفول العصر الأيديولوجي، بعد أن تبين انغلاق الأيديولوجيات وفواتها ومواربتها، وتحولها إلى مجرد أديان أو هويات أخرى.
بقيت المنافسات أو الصراعات الأيديولوجية في العالم العربي، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، مثار اهتمام كثيرين، بيد أن مشكلتها، أولا، أنها قلّ ما قاربت الواقع السياسي، أو المعطيات المنبثقة عنه، بمعنى أنها بقيت مجرد مجادلات نظرية، يقف كل طرف فيها، إزاء الآخر، متمترسا وراء ما يعتقد أنه الحقيقة، وأنه عدته الأيديولوجية. هذا يشمل تيارات العلمانيين والمتدينين واليساريين والليبراليين والقوميين والوطنيين والديمقراطيين، على التمايزات داخل كل تيار منهم، كأن هذه التيارات أضحت بمثابة أديان أرضية أو اتخذت سمات هوياتية؛ هذا أولا.
ثانيا، هذه النقاشات ظلت أمرا يخصّ النخب المثقفة أو التي تتخيل نفسها كذلك، أي أنه ينحصر في إطارها، في واقع بدت فيه قطاعات واسعة من المجتمع غير معنية بهكذا نقاشات، لأسباب مختلفة، منها، مثلا، انتشار الأمية، وتدنّي الاهتمام بالثقافة العامة بين المتعلمين، وغياب تقاليد المشاركة السياسية، ووجود أولويات أكثر إلحاحا تتعلق بالمعيشة، وتدبر متطلبات الحياة، وهذا ما غفل عنه في الأغلب المتجادلون الذين خيّل لكل طرف منهم أنه ينطق بالحقيقة، وأنه يتحدث باسم الشعب أو على الأقل باسم أغلبية الشعب.
ثالثا، اللافت للانتباه إلى أن كل طرف من الأطراف المذكورة لم يقم بتفحّص بديهياته، بناء على التجربة التاريخية ومعطيات الواقع، ولم يلاحظ التناقضات التي تكتنف اليقينيات التي يعتقد بها، بل ويلجأ إلى التغطية عليها أو حتى تبريرها، ظنا منه أن أي تنازل من قبله، أو أي مراجعة نقدية لأفكاره قد تودي بالعمارة النظرية التي بنى عليها هويته أو كيانيته.
هكذا، تأسست الفكرة اليسارية، مثلا، على تشكّل المجتمعات من طبقات، وأن الوضع الطبقي يحدد الوعي الاجتماعي، كما تأسست على تقدمية الطبقة العاملة، وأكثريتها، وضرورة توفير العدالة الاجتماعية للجميع، والمساواة في الملكية، وفي العوائد الإنتاجية. لكن مشكلة اليسار، في بلداننا، أنه لم يلاحظ أن هذه الفكرة هي ابنة المجتمعات الصناعية، في حين أن مجتمعاتنا ظلت تفتقر للصناعة، وللتقسيمات الطبقية التي تنشأ عنها، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالمرحلة التي شهدت قبل قرن، ولادة الأحزاب الشيوعية؟ طبعا ليس الغرض هنا التقليل من قيمة أو نبل أو ضرورة العدالة الاجتماعية، وإنما التنويه إلى أن الأيديولوجيا التي تأسست عليها تلك الأحزاب لم تكن منبثقة من رحم الواقع الاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية.
ومعلوم أن مساهمة الناتج الإجمالي للصناعة التحويلية في العالم العربي تبلغ 8.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن قيمة مساهمة الصناعة الاستخراجية تبلغ 40 بالمئة، أي أن الاقتصاد العربي يتأسس أصلا على صناعة النفط أو الريع النفطي. الأهم من ذلك، والأكثر دلالة، أن نسبة العاملين في الصناعة (الاستخراجية والتحويلية) في العالم العربي تبلغ حوالي 17 بالمئة من حجم القوة العاملة، بينما نسبة العاملين في قطاع الخدمات تبلغ 60 بالمئة. وطبعا فإن هذا الكلام لا ينفي التمايزات الطبقية في العالم العربي، ولكنها دعوة لتبيّن كنهها وحجمها ودلالاتها، ومن ضمن ذلك معنى الحديث عن الطبقة العاملة وحزبها وطليعيتها، وتصور نمط الوعي الذي تنتجه اصطفافات طبقية من هذا النوع.
فكرة العلمانية، بدورها تواجه مشكلات من نوع آخر، فهي هنا تقف في مواجهة المقدس، ما يفسر التعثّر الذي تواجهه، لا سيما مع وجود تيارات دينية تتعاطى معها باعتبارها نوعا من الإلحاد والقطيعة مع الدين. والمشكلة أن بعض العلمانيين يؤكدون هذا الانطباع، بسبب معاداتهم على طول الخط للتيارات الدينية، ولحق الأحزاب الإسلامية في العمل، أسوة بغيرها من الأحزاب اليسارية أو القومية. وما يفاقم من الوضع أن بعض العلمانيين المتطرفين، وبدعوى فوبيا الإسلام، باتوا في معسكر النظم الاستبدادية، الأمر الذي يسهم في إثارة الشبهات من حول فكرة العلمانية.
وبالمحصلة فإن كل تيار من هذين التيارين المتقابلين يبدو على طرفي نقيض في حين أن الواقع يحتمل، كما بيّنت التجربة التركية والتونسية والمغربية، إمكانية تفهم كل طرف للآخر، فلا العلمانية إلحاد، ولا التيارات الإسلامية كلها من نسيج واحد، لا سيما وأن تجربة العلمانية في أوروبا ليست واحدة، وقد انطوت على التعايش بين المتدينين والعلمانيين، على أساس مبدأ الحرية والمساواة.
وتبدو فكرة الليبرالية الأكثر مثارا للاستهداف، بالقياس مع العلمانية واليسارية، مرة لكونها بمثابة تغرّب، ودعوة للتغريب الثقافي، ومرة أخرى بوصفها دعوة للرأسمالية “المتوحشة”. والمشكلة أن هاتين الفكرتين تقصران عن فهم المقاصد الأساسية لليبرالية، التي تتأسس على الحرية والمواطنة المتساوية والفردية، أي استقلالية الفرد. وأن مناقشة الليبرالية في عالمنا العربي تبدو نظرية تماما، خاصة أنه ليس لليبرالية عندنا لا نظم ولا أحزاب ولا تمثلات سياسية، بقدر ما هي موجودة كأفكار يجري التعبير عنها من قبل مثقفين وسياسيين وأدباء.
معلوم أن الليبرالية استعصت على الهضم في عالمنا العربي، لأنها بالأساس تقوم على مبدأ الحرية، أي على أهم شيء تحتاجه مجتمعاتنا، وهذا ما يفسر، ربما، سبب تعثرها أو سبب إثارة الشبهات من حولها وتشويهها. هكذا، وجهت الليبرالية من قبل اليساريين بدعوى أنها ضد العدالة الاجتماعية، في حين أن ثمة تمايزات داخل الليبرالية بين من يعتقد بدور أكبر للدولة لضبط التوازنات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، وتقديم أوسع خدمات للمجتمع، وبين من يعتقد أن الليبرالية بلا حدود، ولا ينبغي للدولة أن تتدخل في كبح رأس المال.
والمعنى، كان يمكن لليسار أن يتلاقى مع الليبرالية في فكرة الحرية، لأن هذه أهم ما ينقص اليسار، الذي يبدو اليوم أحد أهم معاقل الدفاع عن النظم الاستبدادية، لا سيما أن نقص الحرية هو أحد أهم أسباب انهيار التجربة السوفييتية، وأفول الفكر اليساري. أيضا، وبينما تقوم الفكرة اليسارية على تصنيف المجتمعات على أساس طبقي، والقوميون يصنفونها على أساس قومي، وثمة تصنيف على أساس الطائفة أو الدين، فإن الليبرالية تصنف الناس كأفراد، وتؤكد على قيمة الفرد واستقلاليته وحريته ومساواته مع الآخرين، بغض النظر عن أي تمايزات بسبب الوضع الطبقي أو القومي أو الديني أو الجنس، من منطلق أن الحرية تمثل معطى فرديا، وأنه يتعذر القول بحرية جماعية من دون حرية الأفراد.
ولا تواجه الليبرالية الصد من جهة اليساريين والقوميين والعلمانيين، فقط، وإنما أيضا من جهة بعض الديمقراطيين الذين يختصرون تلك الديمقراطية في الانتخابات وحكم الأكثرية، في حين تركز الليبرالية على صيانة حقوق المواطنين، المختلفين لأي سبب، حتى لو كانوا أقلية (انتخابية)، وحمايتهم من تسلط الأكثرية، باعتبار أن ثمة حقوقا عليا دستورية، تساوي بين الناس بغض النظر عن موقفهم من النظام السياسي. الليبرالية أيضا تتعارض مع الديمقراطية التوافقية، لأن هذه لا تتعاطى مع مواطنين أحرار ومتساوين، وإنما مع طوائف وإثنيات، الأمر الذي يلغي الفرد، ومبدأ الحرية، ولا يلغي الاستبداد، وإنما يعيد إنتاجه، بطرق مختلفة.
الجيد أو الإيجابي في هذه المجادلات أنها فتحت كل الأسئلة، وأنها بعد ثورات الربيع العربي، خرجت من النخب إلى دائرة التداول العام، لا سيما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي أدخلت قطاعات واسعة من البشر إلى دائرة القول، والمجادلات النظرية، والمشاركة السياسية، أكثر بكثير مما فعلته الأحزاب التاريخية على تنوعاتها. لكن ما يجب الانتباه إليه، أيضا، أن هذه الثورات أنهت أو مهدت لأفول العصر الأيديولوجي، بعد أن تبيّن انغلاق الأيديولوجيات وفواتها ومواربتها، وتحولها إلى مجرد أديان أو هويات أخرى.
كاتب سياسي فلسطيني
ماجد كيالي