الانتخابات في العراق: قواعد اللعبة التي لن تتغير / يحيى الكبيسي
لقد كانت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إحدى منتجات حقبة الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد عمد الأمريكيون إلى نقل نموذج الهيئات المستقلة إلى العراق، عبر إنشاء مجموعة من الهيئات المستقلة عن السلطة المباشرة للسلطتين التنفيذية والتشريعية، فقد أنشأها المدير التنفيذي لسلطة الائتلاف المؤقتة في العراق بول بريمر بموجب الامر رقم «92» الصادر في 31 أيار/مايو 2004، أي قبل شهر واحد من انتهاء مهمته وتسليم السلطة المفترضة لحكومة انتقالية في 30 حزيران/ يونيو 2004! وكان يفترض بها ان تكون «إدارة حكومية مستقلة، تحكم ذاتها، غير حزبية، محايدة ومهنية» لإدارة الانتخابات في العراق. وهي معايير لا تتسق مع ذهنية الفعل السياسي العراقي! فقد كان واضحا من البداية أن فكرة «الاستقلالية» و«الحياد» و«المهنية» لا مكان لهما في هذه الذهنية؛ هكذا تم اعتماد نظام التمثيل الاثني والديني والمذهبي في بنية المفوضية منذ اللحظة الاولى، وكان التسييس حاضرا في عملها، فالمفوضية الاولى التي أشرف الأمريكيون أنفسهم على تشكيلها، والتي أشرفت على الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول/ اكتوبر 2005، لا تزال الشبهات تلاحقها حول نتائج الاستفتاء في محافظة نينوى! حيث نص قانون إدارة الدولة للمرحلة المؤقتة على أن يكون الاستفتاء على الدستور ناجحا عند موافقة أكثرية الناخبين عليه، واذا لم يرفضه ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات.
وقد صوتت محافظتا الأنبار وصلاح الدين بأغلبية الثلثين ضد الدستور، وبالتالي كانت نتيجة محافظة نينوى حاسمة في مسألة تمرير الدستور، وقد سادت شكوك حول النتائج بسبب تأجيل اعلانها لأكثر من مرة في هذه المحافظة، وكانت النتيجة الرفض بنسبة 55.08٪، أي بأقل من الثلثين اللازمة! فقد كان هناك قرار أمريكي مسبق بأن يتم تمرير الدستور تبعا للتوقيتات المعلنة، وكانت الامم المتحدة متواطئة بشكل علني مع هذا المطلب الأمريكي، فضلا عن وجود رغبة محلية شيعية/ كردية على تمرير الدستور بحكم كونهما الطرفين اللذين صاغاه معا. اما في انتخابات مجلس النواب التي جرت في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2005 فإن المفوضية نفسها قدمت أرقاما غير صحيحة عن نسبة المشاركة، حيث أعلن مدير الدائرة الانتخابية عادل اللامي في حينها أرقاما غير صحيحة عن نسب التصويت لأغراض سياسية بحت، وما زالت تقارير المفوضية حول نسب التصويت في محافظة الانبار في هذه الانتخابات دليلا صارخا على هذا التسييس! فالتقرير النهائي للبعثة الدولية للانتخابات العراقية يشير إلى أن نسبة المشاركة في انتخابات مجلس النواب لعام 2005 في محافظة الانبار بلغت 86.4٪ بمشاركة 585429 ناخب من الناخبين المسجلين، في وقت كانت فيه المحافظة بكاملها تقريبا خاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة، وكان الجميع وقتها يعرف تماما ان نسب المشاركة في هذه الانتخابات كانت متدنية جدا! وفي حين لم يزد عدد المشاركين في انتخابات عام 2010 في محافظة الانبار عن 461878 ناخب، أي نسبة المشاركة لم تزد عن 62٪ تبعا لأرقام المفوضية نفسها! ومع ذلك فان المفوضية نفسها، فضلا عن الأمم المتحدة، والأمريكيين، تحدثت عن نسب مشاركة «سنية» مرتفعة في محافظة الانبار في هذه الانتخابات!
وحين تشكلت المفوضية في العامين 2007 و2012، عمد مجلس النواب إلى اعتماد المحاصصة الحزبية بشكل واضح، فضلا عن الالتزام بالمحاصصة الأثنية والمذهبية! وينص قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم 11 لسنة 2007 على أن اعضاء المفوضية التسعة إنما يتم اختيارهم من خلال «لجنة» في مجلس النواب! فعلى الرغم من الإجراءات الشكلية المتعلقة بالإعلان عن تلقي ترشيحات المواطنين، والمقابلات، إلا ان الجميع يعلم تماما أن المفوضية إنما تشكلت عبر «اتفاقات» سياسية! هكذا احتكرت جبهة التوافق التمثيل «السني» في المفوضية بين عامي 2007 و2012 عبر ترشيح عضو في الحزب الإسلامي وعضو آخر من الاخوان المسلمين، ليحتكر لاحقا الطرف الأقوى سنيا (الدكتور رافع العيساوي) هذا التمثيل في العام 2012 عبر ترشيح شخصين مقربين منه! واعتمادا على علاقات القوى السنية الحالية، سيكون للحزب الإسلامي بالضرورة «تمثيل» في المفوضية القادمة اعتمادا على وجود الدكتور سليم الجبوري في رئاسة مجلس النواب، فيما سيتصارع «السنة» الآخرون على المقعد الثاني! والطريف هنا ان الصدريين أنفسهم، المعترضين على «المفوضية» كانوا دائما جزءا من هذه «الاتفاقات»، وكان لهم تمثيلهم داخل المفوضية في الدورتين السابقتين! على ان ثمة اتفاقا على ان المفوضية الحالية هي الاكثر تسييسا، فضلا عن هيمنة رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي على مفاصلها الأساسية.
أما فيما يتعلق بقانون الانتخابات، سواء الخاص بانتخابات مجالس المحافظات، او الخاص بانتخابات مجلس النواب، فان علاقات القوة نفسها التي تفرض شروطها في اختيار المفوضية، ستفرض شروطها أيضا فيما يتعلق بقانون الانتخابات، تحديدا في عدد المرشحين، وعدد المقاعد وتوزيعها. فمراجعة مسودة مشروع قانون انتخاب مجلس النواب، الذي يفترض ان يحكم انتخابات العام 2018، تكشف عن محاولة لخفض عدد المرشحين للانتخابات في القوائم الانتخابية ليكون مساويا لعدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية، أي ان لا يزيد عدد المرشحين لكل حزب او تنظيم سياسي في بغداد مثلا عن 68 مرشحا، في حين كان عدد المرشحين في اعوام 2010 و2014 ضعف عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية، ولا أعتقد ان هذا المقترح سيمر في مجلس النواب، لأن العدد الكبير للأحزاب والتنظيمات السياسية في العراق، والتحالفات المحتملة كل ذلك، سيفرض شروطه، وبالتالي سيكون هناك إصرار على أن يكون المرشحون في القوائم الانتخابية ضعف عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية.
كما تكشف هذه المسودة عن محاولة للإبقاء على عدد مقاعد مجلس النواب عند الرقم 328 مقعدا، مخالفة بذلك الدستور العراقي الذي قرر في المادة 49/ اولا أن يكون هناك مقعد لكل 100 ألف نسمة، وهي المادة التي تم اعتمادها لزيادة أعضاء مجلس النواب من 275 في العام 2005 إلى 325 في العام 2010، ثم تم التحايل عليها في العام 2014، عبر اتفاق سياسي ارضاء للكرد برفع العدد من 325 إلى 328! من دون ان تقدم هذه المسودة مسوغا قانونيا مقبولا لتجميد عدد الأعضاء لحين اجراء التعداد السكاني! في حين كانت احصاءات وزارة التجارة هي المعيار المعتمد في انتخابات 2005 و2010! ولكن الامر لم يخل من «تغيير» ذي أهداف سياسية/ طائفية! فقد تم خفض عدد المقاعد العامة في محافظة بغداد من 69 مقعدا، إلى 68 مقعدا، وتخصيص المقعد ككوتا للكرد الفيليين! ومن الواضح أن ثمة اتفاقا سياسيا على تجميد عدد أعضاء مجلس النواب، ولكن سيكون هناك رفض سني لكوتا الكرد الفيليين بالتأكيد، فهذه الكوتا تعني بالضرورة مقعدا شيعيا اضافيا، هذا فضلا عن انه سيقلل من الفرص المتاحة للسنة للحصول على مقاعد في بغداد (بدل التنافس على 69 مقعدا ستكون المنافسة على 68 مقعدا).
أخيرا، تبدو في الأفق رغبة تغيير قواعد توزيع المقاعد، فالمسودة تقترح أن يتم منح ثلثي أو نصف المقاعد في الدائرة الانتخابية الواحدة إلى المرشحين الحاصلين على اعلى الأصوات بمعزل عن قوائمهم، وهو ما سيواجه معارضة شديدة من الأحزاب والتنظيمات السياسية في مجلس النواب، فضلا عن انه يمكن أن ينتج إشكالا دستوريا وقانونيا! في حين ثمة مقترح في المسودة أن يتم توزيع المقاعد المتبقية على القوائم بطريقة «هوندت»، التي تقسم الأصوات التي حصلت عليها القائمة على (1، 2، 3، 4 الخ)، بدل الطريقة التي تم اعتمادها في العام 2014 «طريقة سان لاغي» المعدلة؛ التي تقسم الأصوات التي حصلت عليها القائمة على (1.6، 3، 5، 7 الخ). فمسألة توزيع المقاعد في النهاية ليست عملية رياضية مجردة، تعكس النتاج النهائي للنظام الانتخابي، والترجمة الحقيقية لخيارات جمهور الناخبين للمقاعد التمثيلية، وإنما هي مسألة سياسية بحت، ولن يسمح الفاعلون السياسيون المهيمنون على مجلس النواب بتغيير الخارطة السياسية القائمة بأي حال من الاحوال، وفي النهاية سيكون هناك قانون يعيد إنتاج هذه القوى مرة اخرى.
٭ كاتب عراقي