بدء التلويح بالعصا الأميركية في وجه الجموح الإيراني
د. ماجد السامرائي
فريق ترامب الرئاسي توصل إلى أن تراخي أوباما أضر بالمصالح الأميركية العليا، ولعل مواصفات الطاقم الرئاسي لترامب تعطي الانطباع بمقدمات للدخول في تحول جدي وكبير في سياسة واشنطن تجاه إيران والعراق والمنطقة.
المواقف الأميركية خلال أسبوعين من حكم الرئيس الجديد دونالد ترامب أثارت الكثير من الدهشة والقلق داخل أميركا وخارجها. الداخل الأميركي له حساباته المتعلقة بخسارة هيلاري كلينتون الديمقراطية، والخارج الأميركي حساباته متعددة بينها الإسلامي والقومي المتعلق بالحقد على جميع الإدارات الأميركية بوصفها ضد الإسلام والعروبة، فتلك الإدارات خصوصا من عهد جورج بوش الأب قد حشدت الجيوش واحتلت العراق وأفغانستان، ونتذكر كيف أن بوش الأب وضع العراق داخل “محور الشر” وفق نظريته المتطرفة وخلفياته اللاهوتية حين قال “ذاهب إلى العراق لمقاتلة يأجوج ومأجوج الراقدين جنب مدينة بابل العراقية واللذين يسعيان لتشكيل جيش إسلامي من المتطرفين لتدمير إسرائيل والغرب”.
بوش اجتاح العراق في ظل تلك الأوهام، وتلبية لرغبة المحافظين الجدد الذين ضللوا الأميركيين والعالم بشعار “أميركا هي القوة العليا على الكوكب ولها السلطة ومن حقها رسم خارطة العالم”، ووفقها كان مشروع احتلال العراق المركز الجيوسياسي الأول في الشرق ومن بعده يبنى هذا الشرق الجديد. لكن ذلك اليمين المتشدد غض الطرف عن إيران، فإيران وأميركا تتماهيان في شعارين لاهوتيين “أميركا الشيطان الأكبر، وإيران محور الشر”.
كشفت الحقائق أن الاحتلال الأميركي للعراق تم بتنسيق مع إيران، حسب التصريحات المنشورة من أحد أعمدة جناح اليمين الأميركي، خليل زادة، الذي سبق له أن زود المجاهدين الأفغان بالسلاح لطرد قوات الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وهو الذي سبق وأن وقّع رسالة إلى بوش الأب يطالبه فيها “بتقوية إيران لمنع العراق من أن يصبح بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية قوة في الشرق الأوسط مما يشكل عقبة أمام سياسة أميركا في المنطقة”.
ولهذا لم يكن من الغريب أن يأتي المحافظون الجدد بقوى الإسلام الشيعي المدعوم أميركيا ليحكموا العراق منذ عام 2003 ومنعهم لأي قوة سياسية عراقية ليبرالية من أن يكون لها دورها المؤثر في قيادة الحكم.
وسهل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما خلال ثماني سنوات من حكمه ذلك المنهج رغم جسامة الكوارث والأزمات داخل العراق، ورغم ما قيل من تراجع لأدوار اليمين المتشدد داخل إدارة أوباما إلا أنه شجع التمدد الإيراني وكافأ طهران بعد الاتفاق النووي.
الصعقة التي أحدثتها قرارات ترامب بمنع دخول مواطني سبع دول إسلامية بصورة مؤقتة لا تعيق سياسته الجديدة تجاه مراكز التوتر في المنطقة، إيران وداعش، وما حولهما. والمثير للدهشة سرعة انفجار المعركة السياسية والدبلوماسية بين طهران وواشنطن، وما تكشفه مواقف البيت الأبيض من أن بعض هذه الملفات موجودة منذ عهد أوباما لكنه لم يحركها مثل ملف العقوبات الاقتصادية ضد شركات وأشخاص في إيران والمناطق الحليفة لها. الحملات التصعيدية هي محاولات جس النبض بين الجانبين.
طهران تعتقد أنها لا بد أن تعرف وضعها ومكانتها الجديدة لدى إدارة ترامب، ومدى صحة دعواته الانتخابية للتخلي عن الاتفاق النووي الإيراني أو تحجيمه، وهي قلقة على ما حققته من نفوذ شامل في العراق، وجزئي في سوريا ولبنان وتراجع في اليمن. لأن هذه المكاسب الإستراتيجية تحققت بعد الاجتياح العسكري الأميركي للعراق عام 2003 مباشرة، الذي تم بتنسيق ما بين إدارة بوش الابن وحكومة طهران.
في عهد أوباما تراجع دور المحافظين الجدد بسبب ما جنته أميركا من هزيمة في العراق، واضطرار أوباما لسحب الجيش الأميركي عام 2011 رغم بقاء الاتفاقية الأمنية، واحتلال داعش لثلث أراضي العراق عام 2014 والذي كشف ضخامة الفساد المالي والإداري خاصة في الملايين التي أنفقت على تدريب القوات المسلحة العراقية على أساليب مقاومة الإرهاب وحرب الشوارع، وليس جيشا لحماية أسوار الوطن. وقد طالب الرئيس ترامب بمحاسبة واسترجاع الأموال المنهوبة من قبل الجنود الأميركان في العراق.
سياسة أوباما تجاه كل من إيران والعراق ظلت في إطار الحفاظ على الواقع الجديد؛ هيمنة إيرانية كاملة على العراق ومنحها إمكانيات النفوذ في المنطقة، وغض الطرف عن سياسات الحكم في بغداد بالتمييز الطائفي والفساد المالي والإداري وإشاعة الحقد والثأر.
ورغم أن شعارات الرئيس ترامب الموجهة نحو إيران ذات نبرة عالية، فإن ذلك لا يتطابق مع دعوته الرئيسية “أميركا أولا” التي تستوجب الانكفاء إلى الداخل الأميركي والتعاطي مع المحيط الخارجي وفق مفهوم “الصفقة”، وهذا يعني أن ارتكاز حجم انخراط أميركا في قضايا العالم، والشرق الأوسط تحديدا، يرتبط بمقدار ما تحققه من منافع اقتصادية للولايات المتحدة، لكن ترامب اكتشف بعد اطلاعه على الملفات الخارجية الساخنة أن جهده الاستثنائي في محاربة داعش يدفعه إلى الدخول بالملف الإيراني وهو ملف معقد لا يرتبط بالنووي مثلما كان يعتقد، وإنما بالانتقال السريع لإيران من دولة تقليدية تسعى للمحافظة على حقوق شعوبها، إلى قوة إقليمية وعالمية تنافس الكبار في مصالحهم، ومنطقة نفوذها في العراق والخليج.
فريق ترامب الرئاسي توصل إلى أن تراخي أوباما قد أضر بالمصالح الأميركية العليا، ولعل مواصفات الطاقم الرئاسي لترامب تعطي الانطباع بمقدمات للدخول في تحول جدي وكبير في سياسة واشنطن تجاه إيران والعراق والمنطقة.
فغالبية هذا الطاقم من الصقور أبرزهم وزير الدفاع جيمس مايتس، ومستشار الأمن القومي مايكل فلين، ومدير المخابرات مايك بومبيو وهؤلاء الثلاثة لهم مواقف معروفة ضد التشدد الإسلامي وضد إيران، أما وزير الخارجية فهو رجل الأعمال ريكس تيلرسون وصديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قام الفريق بفحص لسياسات إيران، إضافة إلى ما تركته المخاوف الخليجية من تلك السياسة التي وضعت أمام الرئيس الجديد ملفات تعيد إلى الذاكرة مناخات الحرب العراقية الإيرانية ولكن اليوم من دون العراق السابق، فقد تغيرت الخرائط وأصبح النظام في بغداد مواليا لطهران، بل هو رأس الحربة بوجه أميركا إن حاولت المساس بالمصالح الإيرانية، وهذا هو مصدر القوة التي تتحدث بها الدبلوماسية الإيرانية رغم الوجود العسكري الأميركي المكثف في العراق.
قامت إيران باستعراض لقوتها العسكرية في محاولة لجس النبض الأميركي. نشاطات عسكرية في باب المندب، تجارب بالستية، كان الرد الأميركي سريعا وبنبرة حازمة من قبل مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين مع تعقيبات من قبل ترامب ذاته الذي هدد إيران بألّا تلعب بالنار حيث ربط الوجود الإيراني بالعراق كجزء من سياستها المرفوضة من واشنطن؛ “لقد توسعت إيران كثيرا في العراق، مع أننا أنفقنا 3 ترليون دولار هناك”، ويأتي الاستهزاء بترامب سريعا من الرئيس حسن روحاني وعلي أكبر ولايتي وزير الخارجية الإيرانية الأسبق.
الاستعراضات الإيرانية تسعى في الباطن إلى تهدئة واشنطن، خصوصاً في ما يتعلق بنفوذها الواسع في العراق وهو التهديد الأكبر، لكن الوضع العراقي معقد بسبب النفوذ الإيراني وما حصل من تفكك في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، واحتمالات تقسيم هذا البلد طائفياً.
احتياطات إيران تتطلب زيادة دعمها لذراعها العسكرية أي الميليشيات التابعة لها، عن طريق اللعب بخرائط منطقة نينوى طائفياً ولوجستياً لكي تتقدم القوات الشعبوية نحو الرقة السورية بعد حسم معركة الموصل.
أما الأحزاب الحاكمة ببغداد فهي في غاية القلق على مصيرها، واحتمالات ضياع مركزية الحكم، ومحاولات إعادة الإنتاج السياسي للبيت الشيعي لن تقدم حلا أمام إدارة ترامب بعد أن فشلت أمام شعب العراق، فماذا سيقول سياسيو بغداد لترامب: هل إن عمليات السرقة والنهب تمت على أيدي داعشيين أو سراق من المريخ؟ أم سيقولون إنهم إسلاميون معتدلون، ولا علاقة لهم بإيران وبسياساتها بالعراق والمنطقة؟ التصريحات الأخيرة لوزير خارجية حكومة بغداد ابراهيم الجعفري ذهبت إلى منحى آخر حين قال “دولة عظمى تتحدث بلغة رعاة البقر وإيران وقفت معنا بشكل مشرّف”.