شوان زنكنة يكتب | أزمةُ الإثنين الأسود الاقتصاديةُ
عراقيون/مقالات رأي
صَحا العالمُ، صبيحة الإثنين 5/8/2024، على وَقْعِ أزمةٍ اقتصاديةٍ طالتِ الأسواقَ والبورصات العالمية، وامتدّتْ لِتطالَ العُمْلاتِ المشفَّرةَ والنفطَ، وغيرها من الأدوات الاستثمارية التي تتكالبُ عليها المضارباتُ النقديّةُ.
وبدأتِ الأزمةُ بالظُّهور من اليابان، ثم انتشرَ لهيبُها في كافة أرجاء العالم، وتعود أسبابُ هذه الأزمة إلى ثلاثة عواملَ أساسية، يمكن تلخيصُها كالآتي:
1- الرّكودُ الاقتصاديُّ الذي تعاني منه أمريكا منذ سنين، في ظلّ معدلِ تضخّمٍ مرتفعٍ، والذي يسعى البنكُ الفدرالي إلى كِبحِ جِماحِه، وإعادته إلى المعدل المنشود (2%)، دون جدوى.. هذا التضخّم دفعَ الفدراليَّ الأمريكيَّ إلى رفع أسعار الفائدة حتى بلغتْ 5.5%، مما تسبّب في تراجعِ النموّ، ودخولِ الاقتصاد في حالةِ ركودٍ تضخُّميٍّ مُزمِنَةٍ.
وقد أخطأ الفدراليُّ الأمريكيُّ في معالجة الأزمة الاقتصادية، وذلك، بالسيطرة على الطلب، وامتصاصِ الكتلة النقدية فقط، من خلال اتّخاذِ سياسةٍ نقديةٍ قائمةٍ على رفع سعر الفائدة، من غير أنْ تُصاحبَها سياسةٌ ماليةٌ قائمةٌ على رفع وتيرة الإنتاج، وتوظيفِ الكتلة النقدية فيه، فارتفع مؤشّر الدولار، وازدادَ الطلبُ عليه، وتزامنَ هذا الطلبُ مع ارتفاع أسعار الفائدة، ممّا فتح البابَ على مصراعيه لممارسة عمليات (Carry Trade)، أو (تجارة الفائدة)، وهي عمليةُ اقتراضٍ لعُمْلةِ بلدٍ بسعرِ فائدةٍ مُنخفضٍ، وشراءِ الدولار بها، ثم توظيفها في أذونات الخزانة الأمريكية، مُرتفعةِ الفوائد، أو في الأسواق والبورصات الأمريكية، أو في البنوك الأمريكية، فساهمتْ هذه العمليات في انعاش الجانب المالي في الاقتصاد الأمريكي، دون الجانب الإنتاجي التنموي، فأخفى هذا الإنعاشُ هشاشةَ الاقتصاد الأمريكي، ومؤسساتِه الماليةِ، وتعرّى هذا الاقتصادُ مع أول إجراءٍ يابانيٍّ الأربعاء الماضي حينما رفع البنكُ المركزي الياباني سعرَ الفائدة من 0.1% إلى 0.25%.
2- كان سعر الفائدة في اليابان بحدود 0.1%، وكانت المؤسساتُ المالية اليابانية تمارسُ تجارةَ الفائدة في أمريكا، منذ أنْ بدأ البنك المركزي الفدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة، وقد بلغتْ توظيفاتُ هذه المؤسسات حوالي 20 تريليون دولار، إذ كانت هذه المؤسسات المالية تقوم بالاقتراض من البنوك المحلية بالين الياباني وتصرفها إلى دولارات أمريكية، وتُوظّفُ هذه الدولارات في عقود الرافعة، والعقود الآجلة والمستقبلية، في الأسواق والبورصات الأمريكية، كما أنها كانت قد وظّفتْ أموالَها في الأذونات والسندات الأمريكية، إلى جانب إيداعها في البنوك الأمريكية، هذا بالإضافة إلى قيام هذه المؤسسات اليابانية بالاقتراض من البنوك اليابانية، وتوظيفِ أموالها في الأسواق والبورصات اليابانية، وحينما رفعَ البنكُ المركزي الياباني سعرَ الفائدة إلى 0.25%، في وقتٍ أظهرتْ فيه المؤشِّراتُ الاقتصادية الأمريكية، بياناتٍ سلبيةً من كافة النواحي، مُشيرةً إلى دخول البلاد في حالة رُكودٍ تَضخُّميٍّ، دبَّ الرّعبُ في صفوف المؤسسات المالية اليابانية، فقامت بتصفية أدواتها الاستثمارية، وتحويلها إلى الين الياباني، لتسديد ديونها، فأُصيبَتِ الأسواقُ والبورصات العالمية بالشلَلِ، وانحدرت مؤشراتُها، وبالأخص، البورصات اليابانية، والأمريكية، والأوروبية، وازداد الطلبُ على الين الياباني، فارتفع سعرُه قياسا بأسعار العُمْلات الأخرى، وخُصوصًا الدولار، وانخفض مؤشّرُ الدولار، وتراجعَتْ أسعارُ العقود النفطية الآجلة، وقد أثَّرَ هذا الوضع على سعر الذهب أيضًا، فانخفض سعرُه قليلا، في حين كان من المفروض أنْ يَجنيَ الذهبُ أرباحًا من هذه الأزمة، إلا أنه تعرّض للبيع أيضًا، وذلك لتغطيةِ سَداد الدُّيون.
3- الوضعُ الجيوسياسي المتأزِّمُ في العالم، والحَذرُ من توسُّع نِطاق الصراع والتوتُّرات، ساهمَ في إرعابِ المؤسسات المالية، ودفعَها إلى تعزيز وضعها المالي وتصفيةِ أدواتها الاستثمارية، وتسويةِ ديونها، والاحتفاظِ بالكتلة النقدية لديها، وانتظارِ انقشاع الغُيوم السوداء.
والسؤال الوجيه هنا هو: هل ستؤدّي هذه الأزمةُ إلى أزمة أكبر، كما حدث في السابق؟ وهل هناك علاجٌ لها؟
أكادُ أُجزمُ أن هذه الأزمة ستستمرّ، دون أنْ تَتأزَّمَ، وعلاجُها، سيأتي من وجهين:
الوجه الأول: سيكون من خلال انتظار المُضارِبين في البورصات وصولَ الأسعار إلى القَعْرِ، ثم سيُعاوِدونَ الشراءَ، مما سيدفعُ الأسعارَ إلى الصعود، رُويدا، رُويدا، حتى تعودَ الأسواقُ إلى وضعِها السابق.
الوجه الثاني: من المُتوقَّعِ أنْ يبدأَ البنكُ الفدرالي الأمريكي بخَفضِ سعرِ الفائدة في أيلول القادم، فإذا قامَ الفدراليُّ بإجراء خفضٍ طارئٍ في آب الحالي، مع بيانٍ رسميٍّ من رئيسه، يُطمئِنُ فيه الأسواقَ، فإنني أعتقدُ أنّ هذا الإجراءَ سيساعد على تخطِّي هذه الأزمة، التي يجب إخمادُها، أو تخفيفُها، في هذا الوضع الجيوسياسي الحَرِجِ.
ستنعكسُ آثارُ هذه الأزمة على الاقتصاد الجُزئيِّ أكثرَ من انعكاسِها على الاقتصاد الكُلّيِّ، إذ ستتعرّض الشركاتُ الكبرى، بالأخص، إلى خسائر فادحة، إلى جانب مُعظم الشركات المسجَّلة في الأسواق والبورصات الكبرى، كما أنّ التذَبْذُبَ في سعر صرف العُمْلات العالمية سيضربُ اقتصاداتِ الدول، إلى جانب الشركات والأفراد.
وتشيرُ هذه الأزمةُ إلى حقيقةٍ اقتصاديّةٍ هامّةٍ، ومُؤلِمةٍ، وهي أنّ المُضارَباتِ في الأسواق والبورصات العالمية، وتوظيفَ كتلةٍ نقديةٍ هائلةٍ فيها، ستضُرُّ باقتصادات العالم، وستجرُّها إلى تَوسُّعٍ نَقديٍّ في ظلِّ رُكودٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ، ونُموٍّ بطيءٍ في الإنتاج، مما سيدفعُ بالتضخّم إلى أن يصبح هيكليًّا، ومُزمِنًا، ومُستعصِيًا على المُعالَجة، ولن أكونَ مُجانِبًا للصواب، لو اعتَبرتُ المُضارباتِ في الأسواق والبورصات العالمية سببًا أساسيًّا للتضخّم، والتَّوَسُّعِ الاقتصاديِّ النّقْديِّ، والأزماتِ الماليةِ العالميةِ.
وكنتُ قد كتبتُ مقالا بعنوان “العالم على أبواب الركود التضخمي”، وذلك بتأريخ 13/5/2022، ذكرتُ فيه تَوقُّعِي بدخولِ أمريكا في حالةِ رُكودٍ تَضخُّميٍّ يُؤثِّرُ على الأسواق العالمية واقتصادات الدول، ثم أعقبْتُه بمقالٍ آخر، بعنوان “هل أصبحت تركيا وجهة (Carry Trade) المُفضَّلة”، وذلك بتأريخ 18/12/2023، ذكرتُ فيه أنّ أسعارَ الفائدة المُرتفِعَةَ في تركيا جَذبتِ الرأسمالَ الأجنبيَّ للاستثمار فيها، وبَيَّنتُ فيه أضرارَ هذه التجارة على الاقتصاد التركي، وأفتيتُ بحُرْمَتِها في المنظور الشرعي.
كما وكنتُ قد كتبتُ مقالا بعنوان “التدفقات النقدية في البورصات العالمية، من منظوري التنمية الاقتصادية والمعيار الشرعي”، وذلك بتأريخ 18/1/2024، ذكرتُ فيه التوظيفَ الضَّخْمَ للكتلة النقدية في البورصات العالمية وأضرارَه الاقتصاديةَ، والمَوقفَ الشرعيَّ المُحَرِّمَ لهذا التَّوظيفِ، فيما كنتُ قد أصدرتُ فَتوىً، قبلَ ذلك، بخصوص تَحريم المُضارَبات في الأسواق والبورصات، وذلك بتأريخ 20/9/2023.
وآملُ من مقالي هذا، أنْ يكونَ مِنبرًا، يُحذِّرُ الحكوماتِ العالميةَ، والمُؤسَّساتِ الماليةَ العالميةَ، من مَغبَّة الاستمرارِ في عمليات التَّوظيفِ النقديِّ الهائلِ في الأسواق والبورصات، ونتائجِها التي ستَخلقُ الأزماتِ، ويُطالبُها، في نفس الوقت، باتّخاذِ القراراتِ، وإصدارِ النُّظُمِ والتعليماتِ التي تُنظّمُ عملياتِ “تجارة الفوائد”، وأنشطةَ الأسواق والبورصات، بشكلٍ تمنعُ كافةَ أشكالِ المُضارَباتِ، بحيث يقتصرُ عملُها على التّجارة الحرَّة العادِلة، التي تأسستْ الأسواق والبورصات من أجلها.
كما، وآملُ أنْ يكونَ مقالي هذا، دافعًا إلى حَثِّ المَجامِع الفقهيةِ، ودُورِ الفَتوى، وكافّةِ الفُقهاء والعُلماء والخُبراء والمُختَصِّين، على إصدار الفَتوى بتحريمِ التَّوظيفِ النقديِّ في هذه الأسواق والبورصات، بِهدَفِ المُضارَبةِ، وجَنْيِ الأرباحِ، خارجَ العمليةِ التّنمَويَّةِ، وبالدعوة إلى الاقتصارِ على الأنشطة التجارية التنمَويّة فيها، إضافةً إلى قيام الفقهاء والمختصِّين ومؤسّساتِهم ومَراجِعِهم الدِّينيةِ، بِتَوعِيةِ الناس وتًوجِيهِهم، وبيانِ الصّحيحِ من المُعامَلاتِ المَاليَّةِ لهم، وعلى ضوء الكتاب والسنّة.
ألا هل بَلَّغْتُ، اللّهُمَّ فاشْهَدْ