شوان زنكنة يكتب | علة تحريم ربا الجاهلية

عراقيون | مقالات رأي

يركز مضمونُ البحث في هذا المقال على بيان الوجْهِ الاقتصادي في عِلَّةِ تحريم رِبا الجاهِليّةِ المَذكور في القرآن، بجانب الوجْهِ الشرعيّ، ويهدفُ، بذلك، إلى تحرّي الصواب، والسعيِّ للوصول إلى مَقْصِدِ الشارعِ من تَحريم رِبا الجاهِليّةِ.

وانتهجَ البحثُ منهجًا وصفيًّا استقرائيًّا تأريخيًّا، فوصفَ أجزاءَ الموضوع وصفًا دقيقًا، عبر التأريخ، ثم ركّبَ من هذه الأجزاء الصيغةَ النهائيةَ التي شكّلتْ مفهومَ العِلّة المُحَرِّمَةِ لرِبا الجاهِليّةِ من وجْهَيها الشرعيِّ والاقتصاديِّ، وذلك، من خلال الأدلّةِ الشرعيّةِ المُعتبَرةِ، والمبادئِ الاقتصاديةِ العامّةِ.

وتتجلّى أهميةُ هذه الدراسة في أنّها تُقدِّمُ مَفهومًا مُعاصِرًا، من مَنظُورَيِ الشَّرعِ والاقتصادِ، لكافّة المَراجِع الفقهيّةِ والاقتصاديّةِ، الحكوميةِ، وغيرِ الحكوميةِ، ولكافّة المواطنين.. مفهومًا مُعاصِرًا، يُساعد على إنشاء تَصوُّرٍ جديدٍ بخصوص رِبا الجاهِليّةِ وعِلَلِ تحريمِه.

وخَلَصَ البحثُ إلى أنّ عِلّةَ تحريمِ رِبا الجاهِليّةِ ليستِ الزّيادةَ على الدَّينِ، وإنّما العِلَّةُ هي الإذعانُ، وعدمُ التوازُنِ، الذي يَتحلّى به عقدُ جدوَلةِ الدَّينِ، والكوارثُ الاقتصاديةُ المُترَتِّبةُ على مُمارَسةِ هذا النشاطِ المُحرَّمِ، والآثارُ الاجتماعيةُ الخطيرةُ الناجمةُ عنه.  

تمهيد

تحدّثَ القرآنُ، في بضعِ آياتٍ قِصارٍ، عن “إيلاف قريش” الذي أصبح عَصب الحياة في مكة، وما حولها، بعد أن كانت تعاني من الجوع والخوف، فقد لعب الإيلاف، في المئة عام التي سبقت البعثة، دورا حيويا في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الجزيرة العربية، إذ ساهمَ في رفع مستوى الرفاه في مكة وما حولها، وسارعَ في التحول من البداوة إلى التمدن، وجمعَ القبائل العربية في الحجاز ضمن أحلافٍ متكاتفةٍ لحماية قوافل قريش، والالتفافِ حوله، وقبولِ زعامته.

وقد تزامنَ هذا الوضعُ الجديد في مكّة مع تفاقُم الاضطرابات السياسية والاقتصادية لدى الساسانيين في بلاد فارس، والأحباش في بلاد اليمن، والروم في بلاد الشام، مما أضْفَى على مكّة طابعَ الخصوصية والاستقلال ورِيادة العربِ، بعيدًا عن الضغوط والتأثيرات الخارجية، مما سهّلَ مهمةَ محمد صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، من دون إجهاض، وقد دانَ معظمُ العرب للرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد فتح مكّة، كنتيجةٍ منطقية لطبيعة العلاقات الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والقَبَليّةِ السائدة في ذلك الوقت.

ولأنّ كافّةَ الأنشطة التجارية والمالية كانت تعتمدُ كليًّا على رِحلات القوافل العربية، وبالأخصّ رحلتَي الشتاء والصيف، لذلك وجب بحثُها، ودراستُها، وفق هيكل البحث الآتي:

1- نشأة “إيلاف قريش”، وماهيته

2- طبيعة الأنشطة الاقتصادية بالجزيرة العربية في صدر الإسلام

3- علة تحريم ربا الجاهلية من خلال النصوص والآثار وطبيعة الأنشطة الاقتصادية

إيلاف قريش

بدأتْ قصةُ الإيلافِ أوائلَ القرن السادس الميلادي (سحّاب،1992م، 250)، حينما أصابتْ بَيْتًا مِن بَنِي مَخْزُومٍ فاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَهَمُّوا بِالِاعْتِفارِ1، فَبَلَغَ خَبَرُهم هاشِمَ بنَ عبدِ مَنافٍ؛ فَقامَ هاشِمٌ خَطِيبًا في قُرَيْشٍ وقالَ: أنتُم أهْلُ حَرَمِ اللَّهِ والنّاسُ لَكم تَبَعٌ ويَكادُ هَذا الِاعْتِفارُ يَأْتِي عَلَيْكم. فجَمَعَ كُلَّ أهلِ مكّة على رِحْلَتَيْنِ لِلتِّجاراتِ، رِحْلةِ تِجارةٍ شتويّةٍ، تُجهِّزُها قريشٌ إلى الجنوبِ، الحَبشة وبلادِ حِمْيَر، والأخرى صيفيةٍ، إلى الشمال، البُصرى وبلادِ الشام، وأصبح ما يَربحُه الغَنِيُّ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفَقراءِ مِن عَشِيرَتِهِ.

ولتأمينِ خطوط التجارة، قام هاشمُ وإخوتُه، عبدُ شمسٍ والمطّلبُ ونَوفَلٌ، بعقد أحلافٍ مع ملوك الفرس والروم واليمن والحبشة، كما أنّهم كانُوا يَجْعَلُونَ جُعْلًا لِرُؤَساءِ القَبائِلِ وساداتِ العَشائِرِ، إذ كانوا يُخصّصُون لهم شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ ويَحْمِلُونَ إلَيْهِمْ مَتاعًا ويَسُوقُونَ إلَيْهِمْ إبِلًا مَعَ إبِلِهِمْ لِيَكْفُوهم مَئُونَةَ الأسْفارِ وهم يَكْفُونَ قُرَيْشًا دَفْعَ الأعْداءِ، فاجْتَمَعَ لَهم بِذَلِكَ أمْنُ الطَّرِيقِ كُلِّهِ إلى اليَمَنِ وإلى الشّامِ، فاسْتَغْنى أهْلُ مَكَّةَ بِالتِّجارَةِ، إذْ كانُوا يَجْلِبُونَ السّلَعَ مِن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، فأصبحت مكّةُ، بذلك، مركزًا للتجارة الخارجية، ومَعقِلا لأسواق العرب، ولتجارتِهم الداخليةِ. (ابن عاشور، 1984م، ج30، 558-559)

لقد كانت رحلتا الإيلاف محورَ النشاط الاقتِصاديّ في مكّة، إلى جانب بعض القوافلِ الصغيرة الأخرى، إذ كان لكلِّ قُرشِيٍّ وقُرشيَّةٍ سهمٌ فيهما، سواء بالمَالِ أو بالعَملِ، فقد أشارَ “جواد علي” في كتابه “المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام” إلى ذلك، بما يلي: “ويظهرُ ممّا ذكَره أهلُ الأخبار وأورَدُوه عن قوافل مكّة، أن مال القافلة، لم يكنْ مالَ رجلٍ واحدٍ؛ أو أسرةٍ معيّنةٍ، بل كان يخصُّ تُجّارًا من أسَرٍ مختلفة، وأفرادًا وُجِدَ عندهم المالُ، أو اقتَرضُوه من غيرهم فَرمَوه في رأسِ مالِ القافلة أملاً في ربحٍ كبيرٍ”. (علي،2001م، ج13، 1632)

وتحدث “فكتور سَحَّاب” عن ذلك بإسهاب في كتابه “إيلاف قريش”، فذكر الآتي: “ويبدو أن كثيرًا من التجارة المكيّة كان جماعيًّا، يشترك فيه الأغنياء ومتوسطو الحال وحتى الفقراء، حتى أصبحت هذه التجارة همًّا مشترَكًا يتعاونُ في حمل أعبائِه المالية، وغير المالية كثرةٌ من الناس… فإلى جانب المَصرفيِّ الفاحشِ الغِنى، والمُمَوِّلِ الثَّريِّ اللّذَينِ يُخاطِرانِ بمالِهما على نِطاقٍ واسعٍ، في هذا العمل التجاري المُعقَّد، كان صِغارُ التُّجار وأصحابُ الحوانيت والناسُ غيرُ المَيسورِينَ يُجرّبون حظَّهم أيضًا، ويُسهِمون ببعض ما أمكنَهم من مالٍ، وكان الحِرفيّون من حدّادين ونسّاجين يشتركون أيضا في التجارة… ومَنْ لم يشترك بماله أشتغلَ دليلا للقوافل أو سائقا أو خفيرا يَرُدّ أذى الغزاة، وانخرطت المرأةُ في التجارة أيضا، وقد ذُكِرَ من نساء قريش اللواتي تاجَرْنَ، خديجةُ بنتُ خُويَلد، زوجُ الرّسولِ صلّى الله عليه وسلّم، وأسماءُ بنتُ مُخَرِّبَة الشهيرةُ بالحَنظليّةِ، وهندُ بنتُ عُتبة، زوجُ أبي سفيان”. (سحّاب،1992م، 253-254)

وكانت هذه القوافل تُدِرّ أرباحًا طائلة على مُساهِميها، نفهمُ ذلك، بوضوح، مما قامت به قريش من تجهيز جيشٍ إلى المسلمين، حينما قطعوا الطريق عن قافلة أبي سفيان، فباعوا ما كان فيها بالذّهب، وتَجهّزوا به، وبأرباح ما فيها، وكانوا يُربِحون للدينارِ دينارًا (البلاذري، 1996م، ج1، 312)، أي: استَلفُوا بفائدةٍ مقدارها 100%، بِضَمان بضاعتِهم التي في العِير، وهذا يؤكّد حجمَ الأرباح التي كانت تُدرُّها هذه القوافلُ، لذلك تَدافعَ الناسُ على المُساهمة فيها بِصِيَغٍ وأشكالٍ، عديدةٍ، فمنها ما كان على شكل سُلَفٍ وقُروضٍ بِفوائِدَ عاليةٍ، ومنها ما كان بصيغةِ شراكاتٍ ومُضارَباتٍ (قِراضٍ)، فقد ذكرَ الواقديُّ في كتابه “المَغازي” العِيرَ التي قادَها أبو سفيان، فقال عنها ما يلي: “إنّ أكثر ما فيها من المال لآلِ سعيد بن العاص (أبي أُحَيحَة)، إما مالٌ لهم، أو مالٌ مع قومٍ، قراضٌ على النِّصفِ”. (الواقدي، 1989م، ج1، 27)

ووردَ في كتاب “إيلاف قريش” ذكرُ تَمويلِ القوافل وأرباحِها، كما يلي: “وتذكرُ المصادرُ الإسلامية الأرباحَ الطائلة والمكاسبَ التي كانت تَجنيها التجارةُ المكّيةُ، فكان الصرّافون يَعِدونَ بمكسبٍ يبلغُ 50% من رأس المال، لترغيب التُّجَّارِ في الاقْتِراضِ، ولم يكن في هذا مبالغةٌ في الواقع… فأن المكسبَ قد يبلغ 100%، وقد بلغ في أحيانٍ 200%، على ما جاء في النصوص: لكلِّ دينارٍ ديناران”. (سحّاب،1992م، 255)

لقد كان ارتباطُ العرب بقوافلهم ارتباطًا وثيقًا، من وقت خروجها، حتى أوان وصولها، وكانوا يحتفلون بقدومها، ويسارعون لاستقبالها، ويتسابقون إلى شراء ما فيها، وقد أدّى انصرافُ بعض الصحابة الى السّوق وانشغالُهم بالتّجارة إلى انفِضاضِهم عن الرّسول صلّى اللهُ عليه وسلّم في صلاة الجُمعة، حينما أقبلتْ من الشام عِيرٌ تحملُ طعامًا، فالتَفَتُوا إليها، خشية أن يُسْبَقُوا فتُبَاعَ قبل وصولِهم، حتى لم يبقَ معه، إلّا اثنا عشر رَجلاً، فنزلت الآيةُ: “وإذا رَأَوا تِجارَةً أو لَهْوًا انْفَضُّوا إليَها وتَرَكُوكَ قائِمًا) “الجمعة: 11). (علي،2001م، ج13، 1640)

طبيعة الأنشطة الاقتصادية بالجزيرة العربية في صدر الإسلام

كان أغنياءُ مكّة والمدينة والطّائف، يُموِّلُون التّجارةَ بين الشام واليمن والعراق، إضافةً إلى التّجارة الداخلية، فكان العبّاسُ بنُ عبدِ المطلب، وهو من أغنياء قريش، يُقرِضُ المالَ بِفَضْلٍ يأخذُه من المَدِين، ويضعُه على رأسِ ماله، وكان أغنياءُ الطّائف يُقرِضُونَ المالَ لمَن يحتاجُ إليه من أهل الطّائف، ومن غيرهم، لوجود مالٍ فائضٍ عندَهم. (علي،2001م، ج13، 1640-1642)

وكان تجّارُ العرب يَتبايَعُونَ بالنَّقْدِ وبالدَّيْنِ، سواء في تِجارتِهم الخارجية أو الداخلية، فقد وردَ في كتاب “إيلاف قريش” ما يؤكد طبيعةَ هذا التّعامل، إذ جاء فيه ما يلي: ” وقد أُشتُهِرَ عبدُ الله بن أبي ربيعة، والدُ الشاعر عمر بن أبي ربيعة، بالإتِّجَار بالعِطْرِ اليمنيِّ، وكان يبعثُ إلى أمّه (أسماء بنت مُخَرِّبَة) في مكّة من هذا العِطرِ، وكانت تَبيعُه نقدًا أو دَيْنًا، فإذا باعتْ دَيْنًا، كتبتْ مقدارَ الدَّينِ في كتابٍ”. (سحّاب،1992م، 252)

وكانت الدُّيون تَتراكمُ عند عدم القُدرة على السَّدادِ، وكان الدَّائِنُ يُضيفُ زيادةً مَعلومَةً على الدَّين لقاءَ التّأجِيلِ، فقد ذكرَ الواحديُّ في كتابه “أسباب النزول” هذه الحقيقة، بوضوحِ، فيما يلي: (نزلتْ هذه الآيةُ في العبّاسِ بن عبد المطلب وعثمانِ بن عفان، وكانا قد أسْلَفا في التّمر، فلما حضَر الجُداد قال صاحبُ التّمر: لا يَبقى لي ما يَكفي عِيالي إذا أخذْتُما حظَّكما كلَّه، فهل لكما أن تأخُذا النّصفَ وأضِفْ لكما؟ ففعلا، فلما حلَّ الأجلُ طلبَا الزيادةَ، فبلغَ ذلك النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله فنهاهما، فنزلت فيهما الآية 278 من نفس السورة: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”.) الواحدي، 1992م، 93)

هذا النص، يشير بصراحة إلى أنّ الرّسولَ صلّى اللهُ عليه وسلّم قد أجازَ الزيادةَ الأولى الناتجة عن عقد السَّلَمِ، وحرّمَ الزيادةَ الثانيةَ الناتِجة عن تأجيلِ المُتبقّي من دَينِ السَّلَمِ، واعتبرَه “رِبًا”، ونزلتْ الآيةُ في تحريمه وأمرتْ بتركِه من قبل المُؤمِنينَ.

ونزلتْ هذه الآيةُ، أيضا، فيما تبقّى من تراكُمات الرِّبا، وجدولةِ الدُّيونِ بين بني عَمرو، من الطّائف، وبني المُغيرة، من مكّة، وفي سبب نزولها، ذكرَ ابنُ جرير الطبريُّ في تفسيره “جامع البيان” ما يلي: (قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ، اسْتُعْمِلَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبَى بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمُ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عَتَّابٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ” (البقرة: ٢٧٩) إِلَى: “وَلَا تُظْلَمُونَ” (البقرة: ٢٧٩)، فَكَتَبَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ: (إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: “اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا” (البقرة: ٢٧٨)). (الطبري،2001م، ج5، 49)

ولمّا كانت التّجارةُ، ومنذ نشْأتِها، في حاجةٍ إلى التَّمْوِيلِ، لذلك، مَوّلَ العربُ في صَدْرِ الإسلام تجارتَهم، بالدُّيون النّقدِيَّةِ (القُروض)، والبُيوعِ الآجِلةِ، والسَّلَمِ، التي شكّلت البُنى الأساسية لكافة عمليات البُيوع في ذلك العَهد، كما هو واضحٌ من النُّصوصِ السالفةِ الذّكرِ، والتي تَمخَّضت عنها المعاملاتُ الرِّبويّةُ التي ذكرَها القرآنُ، وسمّاهُ الرّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم “رِبا الجاهِليّة”، نتيجة الإعسار في تسديد الدُّيون، وتأجيلِها إلى آجالٍ جديدةٍ لقاءَ زياداتٍ مُتَّفَقٍ عليها.

وقد عبّرَ القرآنُ، في سورة البقرة، عن تلك المُدايَناتِ بـ (البَيعِ)، فحينما شبَّهَ آكِلوا الرِّبا الَبيعَ بالرِّبا، إنمّا كانوا يُعبِّرون عمّا كانوا يُمارِسونَه من دُيونٍ نَقديَّةٍ وسِلَعِيَّةٍ، ومُبايَعاتٍ آجِلةٍ، وما صاحبَها من رِبًا ناشئٍ عن جدوَلتِها، بزيادةٍ معلومَةٍ، بسبب الإعْسارِ، وأجابَهم الشارِعُ بنفس الأسلوب، مُجيزًا ما مارَسوهُ من مُدايَناتٍ ومُبايَعاتٍ آجِلةٍ، ومُحرِّمًا ما نتجَ عنها من تأجيلٍ بسبب الإعْسارِ، فأحَلَّ البيعَ، وهو ما كان العرب يُمارِسونه من المُدايَناتِ (النقدِيّة والسِّلَعيّة)، وحرّمَ الرِّبا، وهو ما نتجَ عن تأجِيلِها لقاءَ زيادةٍ، بسبب التعثُّرِ في السَّدادِ.

وإزاءَ هذا النصّ الصريح في جَواز المُدايناتِ بزيادةٍ، لم يَردْ نصٌّ مُعتبَرٌ من كتابٍ أو سنّةٍ، يُحرِّمُ ما مارَسه العربُ من هذه المُدايناتِ، نقدًا كان، أو سِلعةً، أو مَنفعةً، عِلمًا أنّ هذه المُداينات كانت مَصحوبةً بزيادةٍ يَتَّفقُ عليها طرفَا العقدِ، وأنها كانت كثيرةً جدًّا ويوميّةً، حتى أنها أضْحَتْ جُزءًا من الحياة اليومية العامّة للناس، بل أنّ الرّسولَ صلّى اللهُ عليه وسلّم، نفسَه، رهنَ درعَه عند يهوديٍّ في دَينِ طَعام2. (البخاري، 2012م، ج3، 227)، في حين وردتْ نصوصٌ كثيرةٌ في تَحريم مُعامَلاتٍ ومُبايَعاتٍ وبُيوعٍ آجِلةٍ، كالسَّلَمِ في السِّنِ (أعني: بيعُ الحيوانِ قبل ولادَتِهِ)، والمُزابَنةِ (أعني: بيعُ التّمر الجافِّ بالرّطَبِ على الشّجرِ)، ورِبا النّسيئَةِ والفَضْلِ في بُيوعِ الأموالِ الرِّبويّةِ، وبيعِ ما لم يُقبَضْ، وغيرِها، ممّا هي أقلُّ انتشارًا ورَواجًا من مُدايناتِ التَّمويلِ بكثير.

ويَجدُرُ بالذّكر هنا، الإشارةُ إلى حقيقةٍ واقعةٍ، تمَّ تَجاوزُها، أو تَشويهُها، وهي أنّ المَقصودَ من الخطاب في السّياق القرآني، بخصوص الرِّبا، في سورتي آل عمران، والبقرة، هو “المُؤمِنونَ”، وليس اليهودَ، أو الكفّارَ، كما ذكرتْه كتبُ التفسير، وغيرُها.. المُؤمنون الذينَ يُمارِسون التجارةَ في السّوق، ويَمتهِنونَها، ويَفهَمونَ فُنونَها، ويَعرفونَ أنواعَ النّقود وإدارتَها، فقد كان العديدُ من كِبار الصّحابة تُجّارًا، يُمارِسونَ التّمويلَ ويَحصلونَ عليها، وعلى رأسِهم يأتي العبّاسُ بنُ عبدِ المطلب الذي وضعَ رِباه الرّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم في خطبة الوَداع، قبل وفاته بحوالي ثلاثة أشهر، وقد وردَ في كتاب “إيلاف قريش”، ما يُؤكّد هذا المعنى، كما يلي: “وتَدلُّ لغةُ القرآن الكريم على أنّ الخطابَ لم يكن مُوجَّهًا إلى جَهلةٍ هائِمينَ في صحراءٍ، بل إلى جماعةٍ عالِمةٍ بفُنونِ التّجارةِ وإدارةِ المَالِ”. (سحاب،1992م، 257)

لقد نزلَ تحريمُ رِبَا الجاهِليّةِ على المُؤمنينَ من الصّحابة، العامِلينَ في الأسواق، والعالِمينَ بفُنونِها، قبل غيرهم، كما هو واضحٌ من الخِطاب، وهو تَشريعٌ “مَقصودٌ” للمُسلمينَ، قائِمٌ إلى يوم القيامة، نَظَّمَ الشارِعُ به طبيعةَ التّعامُلِ مع النَّقْدِ، ووضعَ نَظريَّتَهُ، التي تَتجَلّى في رِحابِ آياتِ الرِّبا في سورتَي آلِ عمران والبقرةِ.

علة تحريم ربا الجاهلية من خلال النصوص والآثار وطبيعة الأنشطة الاقتصادية

تدلّ الآثارُ والرواياتُ على أن العربَ، في صَدْرِ الإسلام، كانوا يُوظِّفونَ نُقودَهم، بشكلٍ عامٍّ، في عملياتٍ تَنمَويّةٍ، من خلال الاستيراد والتصدير والترانزيت والتجارة الداخلية، بجانب الأنشطة الزراعية والصناعية، التي كانت تُغطّي حاجةَ السوق، وتُلبّي احتياجات التصدير، وكانوا يَجنون من هذه العمليات أرباحَا طائلةً، فعملياتُ إقراضِ النشاط التجاري، والشَّراكاتُ والمُضارَباتُ التجاريّةُ، وعقودُ السَّلَمِ، والبُيوعُ الآجِلةُ، والمُزارَعاتُ، وإحياءُ الأرضِ المَوَاتِ، وغيرُها، كانت تُمثّل الأشكالَ السائِدةَ لِتَوظِيفِ النّقدِ في التّنمية في عَصر صَدر الإسلام، إلّا أنّ رغبةَ العربِ في الاستِحواذِ على أكبر قَدْرٍ من المال، دفعَتْهم إلى تَوظيفِ نُقودِهم في أنشطةٍ لا تَمُتُّ للتّنمية بصِلةٍ، ولا ترفعُ حجمَ الإنتاجِ، ولا تُضيفُ إليه قيمةً مُضافَةً، فتَعرّضَ المجتمعُ العربيُّ إلى خللٍ في عدالة التوزيع، وتداوُلٍ للنقودِ بين الأغنياءِ، وغلاءٍ في الأسعار.

فمِنْ أجلِ جَنْي أرباحٍ وفيرة وسريعة، مارسَ العربُ جملةً من الأنشطة الاقتصادية اللّاتَنمويّة، وَظَّفُوا فيها نُقودَهم، ونَشطوا فيها، جنبًا إلى جنبٍ، مع مُمارَساتِهم التَّنمَويّة، فَعُقودُ البُيوعِ الصّوريّة، وعُقودُ الغَرَرِ والغَبْنِ، وتَلقِّي الرُّكْبانِ، تُعتبَرُ من أشكال هذه الأنشطة التي حرّمَها الشارعُ، إلّا أنّ أشدَّ نشاطٍ لا تَنمويٍّ أضرَّ بالاقتصاد، في ذلك الحين، وحرَّمَهُ الشارِعُ تحريمًا قاطِعًا، هو عمليةُ جَدوَلةِ الدَّيْنِ، الذي ذكرَه القرآن، وسمّاه الرّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم بـ “رِبا الجاهِليّة”.

فحينما يقوم الدَّائنُ بإضافةِ زيادةٍ على دَيْنٍ سابقٍ مُستَحَقٍّ بالذّمة لقاءَ تأجيلِ أمَدِ الدَّينِ، فهو بذلك يُوظِّفُ مقدارَ دينِه لِيَجْنِيَ زيادةَ نَقديّةً غيرَ ناتجةٍ عن عمليةٍ تَنمَويّةٍ إنتاجيّةٍ، وإنما هي ناتجة عن إطالة فترة بقاء الدَّين في ذِمّة المَدينِ، لذلك، فإنّ هذه الزيادةَ لم تأتِ، أو تَتولّدْ من قيمةٍ مُضافةٍ إلى مُنتَجٍ، أو سِلعَةٍ، أو مَنفعةٍ، أو نَشاطٍ تجاريٍّ.. هذا، إلى جانب أنّ هذه الزيادةَ النّقديةَ ستُثْقِلُ كاهِلَ المَدينِ، فهو لا يتمكّنُ من دفعِ أصل دَينه، فكيف بأصلِ الدَّينِ وزيادتِه، وقد أدّى هذا التصرّفُ، في بعض الأحيان، إلى عُبوديّةِ المَدينِ في عهد الرسالة، ويُؤدّي، اليومَ، إلى إفلاس المَدينِ، وخروجِه من السّوق، بل وتَحَوُّلِه إلى عَالةٍ على التّنميةِ الوطنيّةِ.

فالبيعُ المذكورُ في سورة البقرة، والذي أحَلَّهُ اللهُ، يُعَبِّرُ عن كافّة الأنشطة الاقتصادية التي كان العرب يُمارِسونها في صدر الإسلام، كالإقْراضِ، والمُدايَناتِ، والبُيوعِ الآجِلةِ، والسَّلَمِ، والقِراضِ، والشَّراكاتِ، والتي تُدِرُّ على أصحابها زياداتٍ نَقديّةً، وأرباحًا طائلةً، ناتِجةً عن عملياتٍ تَنمَويّةٍ، ترفعُ حجمَ الناتجِ المحليِّ الإجماليِّ الذي يُحقّقُ التَّوازُنَ مع زيادةِ الكِتْلةِ النّقديّةِ، وتُحقّقُ الاستقرارَ.

والرِّبا المذكورِ في سورة البقرة، والذي حرّمه اللهُ، يُعَبِّرُ عن عمليات جَدوَلةِ الدَّينِ، التي وصفَها الشارِعُ بـ (أضعافًا مُضاعَفةً)، والتي كان العربُ يُمارِسونها مع كلِّ عمليةِ تَعثُّرِ في سَدادٍ الدُّيونِ، ويُعَبِّرُ، كذلك، عن الكِتْلَةِ النّقديّةِ المُضافَةِ على مَبلغ الدَّينِ الذي في الذّمَّة، والمُؤجَّلِ بسبب الإعْسارِ، والتي تُضافُ بسبب الأجَلِ، من دون أن تتَمخَّضَ عن عمليةٍ إنتاجيةٍ تنمويةٍ، أو أن تُضيفَ قيمةً مُضافَةً على سِلعةٍ أو مَنفعَةٍ، وهي، بذلك، ترفعُ حجمَ الكِتلةِ النّقديّةِ مع ثَبات حجمِ الإنتاجِ، وتَتسبّبُ بزيادةِ مُعدّلات التضخّمِ وارتفاعِ أسعارِ السِّلعِ والخَدماتِ، ناهيك عن إفلاس المَدينِ، وخروجِه من السُّوقِ، بل ومن العمليةِ التنمَويةِ برُمَّتِها.

واضحٌ ممّا سبقَ، أنّ رِبا الجاهِليّةِ يَتطلّبُ وجودَ عقدِ مُدايَنةٍ، تَراضَى فيه الطّرفان، وحقَّقَ لهما مكاسبَ مالية، بصيغةٍ مُتوازِنةٍ، ضِمْنَ عمليةٍ تنمَويّةٍ مُستقِرَّةٍ، فيحقّقُ به المَدينُ مصالحَه، ويحصلُ الدَّائِنُ، بسبب تَمويلِه المَدين، على الزيادةِ النّقديةِ التي هي حقُّ توظيفِه للنّقد في العملية التنمَوية، ولا يتحقَّقُ رِبا الجاهِليّةِ إلا بعقدٍ جديدٍ مُشتَقٍّ من عَقد المُدايَنةِ أعلاه، الذي يَتمُّ تأجيلُه بسبب الإعْسار والتعثّر في السّداد، وتُفرَضُ فيه زيادةٌ نقديةٌ لقاء الأجَلِ، من غير تَوظيفٍ لهذا النّقد في العملية التنمَوية، أو في تحقيق قِيمةٍ إنتاجيةٍ مُضافَةٍ، وهذا العقدُ الجديدُ، عقدُ إذعانٍ3 غيرُ مُتَّزِنٍ، يحصلُ فيه الدَّائنُ على زيادةٍ نقديةٍ، فيما يَتعرَّضُ المَدينُ لإثقالِ كاهِلِه، أو يكونُ مهدّدًا بالإفلاس.

إذن، هناك عقدان، عقدٌ تنمَويٌّ متّزنٌ، يُدِرُّ الربحَ للطرفَين، وعقدُ إذعان، لا تنمَويٍّ ولا متَّزنٍ، يكسبُ فيه طرفٌ، ويُثقَلُ فيه كاهلُ الطرفِ الآخرِ.. وتَترافقُ مع هذين العَقدَين زيادتان بسبب الزّمن، وقد أشار إليهما الطبريُّ في تفسيره، بوضوحٍ، كما يلي: “(وذلك أنّ الذين كانوا يأكلون من الرِّبا من أهل الجاهِليّة، كان إذا حَلَّ مالُ أحدِهم على غريمه، يقول الغَريمُ لغَريمِ الحقِّ: “زِدني في الأجَل وأزيدُك في مالِك”. فكان يُقالُ لهما إذا فَعلا ذلك: “هذا رِبًا لا يَحِلُّ “. فإذا قِيل لهما ذلك قالا “سواءٌ علينا زِدنا في أوّل البَيع، أو عند مَحِلِّ المالِ”! فكذَّبهم اللهُ في قِيلِهم فقالَ: “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ”). (الطبري،2001م، ج5، 43)

لقد جانبَ الصوابَ، كُلُّ مَنْ علَّلَ تحريمَ الرِّبا بالزيادة على الدَّينِ، فالزيادةُ على الدَّين تَحصيلُ حاصِلٍ في كلا العَقدَينِ، فلو كانت هي عِلَّةَ التَّحريمِ، لكان يجبُ تَحريمُ العَقدَينِ معًا، وهذا خلافُ النَّصِّ، وخلافُ ما حكمَ فيه الشارِعُ، فقد أحَلَّ اللهُ العقدَ الأوّلَ، وهو عقدُ المُدايَنات، مع وجودِ زياداتٍ بسبب الزّمن فيها، وحرّمَ العقدَ الثّانيَ، وهو عقدُ جَدوَلةِ الدَّينِ، بزيادةٍ نقديّةٍ.

وجانبَ الصوابَ، كذلك، كُلُّ مَنْ ادّعى حُرْمةَ الزيادةِ على الدَّينِ، على اعتبار أنّها بلا عِوَضٍ، فَعِوَضُها الزّمنُ، وللزمنِ قيمةٌ اقتصاديةٌ في العمليات التنموية (الخُنْ، 1989م، ج6، 69)، بلا شكّ، ناهيك عن أنّ حُرمةَ الزيادةِ بلا عِوَضٍ مُتعلِّقةٌ برِبا البُيوعِ، لدى الفُقَهاءِ، ولا عَلاقةَ لها بالدُّيونِ ورِبا الجاهِليّةِ.

أضفْ إلى ذلك، أنّه لم يَرِدْ دليلٌ شرعيٌّ مُعتَبَرٌ، من كتابٍ أو سنّةٍ، في تَحريمِ الزيادةِ على الدَّينِ، ولم يَرِدْ نصٌّ بتعريفِ الرِّبا على أنّه “زيادةٌ على عَقدِ مُدايَنةٍ”، بل لم يَرِدْ تعريفٌ شامِلٌ، يَستوعِبُ كافّةَ أنواعِ وأبوابِ الرِّبا.

حرّمَ الشارِعُ العقدَ الثّانيَ، عقدَ جَدوَلةِ الدَّينِ، لأنَّهُ عقدُ إذْعَانٍ، يَفرِضُ الدَّائنُ فيه على المَدينِ زيادةً نَقديّةً، لم يَقُمِ المَدينُ بِتَوليدِها مِن مَالِ الدَّائنِ، أو مِن تَمويلِه، كي يَستحقَّ الدَّائنُ شيئًا منها، وإنّما يُجبَرُ المَدينُ على دفعِها بسببِ الإعْسار، من مَالٍ آخرَ يَملكُه، أو من نشاطٍ اقتصاديٍّ إضافيٍّ يبذلُه، وبالتالي فهي زيادةٌ لم تَنشأْ من نشاطٍ تنمَويٍّ مُتَّزنٍ، يُحقِّقُ الرِّبحَ للطرفَين، وهي زيادةٌ تُثقِلُ كاهِلَ المَدينِ، وتُثْري الدَّائنَ، وتؤدّي إلى زيادةِ الكِتْلةِ النَّقديّةِ في الأسواقِ، مع عدم نُموِّ الإنتاجِ، وهذا يدفعُ الاقتصادَ إلى السّقوط في بَراثِنِ التضَخُّمِ، وسُوءِ توزيعِ الدَّخْلِ، الذي يُعتَبرُ أكبرَ آفَةٍ تُصيبُ اقتصاداتِ الدُّول، وتُحَطِّمُ شُعوبَها.

وقد حَثَّ الشارعُ الدَّائنَ على إمْهالِ المَدينِ المُعْسِرِ لحين تمكّنه من سَداد دينِه، وتَجَنُّبِ تَلَوُّثِهِ بالرِّبا، وبيَنَ أنّه بذلك سيتصَدَّقُ صدقةً كبيرةً، تَغفرُ له ذُنوبَه، فقد قالَ تعالى: “وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ * وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ * إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 280).

وقد وردتْ في تفسير هذه الآية، رواياتٌ صحيحةٌ، وبطرقٍ عديدةٍ، تؤكّدُ أنّ اللهَ قد غفرَ للدَّائن الذي أمْهلَ المَدينَ، رغمَ عدمِ وجودِ حسنةٍ واحدةٍ في صحيفةِ أعمالِه، فعَنْ حُذَيْفَةَ، أنَّه قالَ: “أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَرْجُوكَ بِهَا. فَقَالَهَا لَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: أَيْ رَبِّ، كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي أَتَجَاوُزُ عَنْهُ، وَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِر، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فَغُفِرَ لَهُ”. فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ابن حنبل، 1999م، ج28، 296)

وعن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كانَ تاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتيانِهِ: تَجاوَزُوا عَنهُ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا. فَتَجاوَزَ اللهُ عَنهُ”. (العسقلاني، 2005م، ج5، 533)

ويَبدو أنّ عِلّةَ تحريمِ الرِّبا، عند الشارِعِ، هي في غاية الأهَمّيةِ، بحيث عفَا عن تاجرٍ، صحيفتُه فارغةٌ من الحَسناتِ، وأدخلَهُ الجنةَ، لِمجرّد أنّه أمْهلَ المَدين، ولم يُمارِسِ الرِّبا.. عِلَّةُ التَّحريمِ هذه مُتعلِّقةٌ بأقْواتِ الناسِ، واستقرارِ أسعارِ الصَّرفِ، وأسعارِ السِّلعِ، وتَعاظُمِ الكِتْلةِ النقديّةِ التي لا تُضَخُّ في العمليةِ التنمَويةِ، وتَوسُّعِ الاقتصادِ النّقديِّ على حساب التَّوَسُّعِ التنمَويِّ الإنتاجيِّ، والخَلَلِ في عَدالةِ توزيعِ الثروةِ، وحِرمانِ المواطنِ من كَرامتِه الإنسانيّةِ.

الخاتمة

خَلَصَ البحثُ إلى النَّتائجِ التّاليةِ:

1- وظّفَ العربُ، في صدر الإسلام، أموالَهم في تمويلِ عملياتٍ تنموية، بالإقراض والمشاركة والقراض، والسَّلَمِ، والبُيوعِ الآجِلَةِ، وجَنَوا منها أرباحًا طائلةً، وهي عقودٌ أحَلَّها الشارِعُ.

2- ووظّفَ العربُ أموالَهم، كذلك، في تمويل عقودٍ غيرِ تنموية، تَعْترِيها الغَرَرُ والغَبْنُ، والإذعانُ، وعدمُ الاِتِّزانِ، كالبُيوعِ الصّوريةِ، وبُيوعِ الغَرَرِ، ورِبا الجاهِليّةِ، وهي عقودٌ حَرَّمَها الشارِعُ.

3- كافّةُ عُقودِ المُدايَناتِ التنمَويةِ التي كان العربُ يُمارِسونَها، وَردتْ في القرآن بلفظِ ” البَيع”، بينما وردتْ جدوَلةُ الدَّينِ بلفظِ “الربا” في القرآن، وهو الذي سمّاه الرّسول صلّى اللهُ عليه وسلّم في حديثٍ له في خطبةِ الوَداع “رِبا الجاهِليّةِ”.

4- الزيادةُ، تحصيلُ حاصِلٍ، في كلا عقدَي رِبا الجاهِليةِ، عقدِ المُدايَنةِ الأولى، وعقدِ جدوَلَتِها، لذا، فإن الزيادةَ على الدَّينِ ليست عِلّةً للتحريمِ، لأنها تَعني تَحريمُ العقدَينِ معًا، وهذا خلافُ النصِّ.

5- حرّمَ اللهُ جلَّ جلالُه رِبا الجاهِليّةِ، لأنَّهُ عقدُ إذْعَانٍ، يَفرِضُ الدَّائنُ فيه على المَدينِ زيادةً نَقديّةً، لم يَقُمِ المَدينُ بِتَوليدِها مِن مَالِ الدَّائنِ، أو مِن تَمويلِه، كي يَستحقَّ الدَّائنُ شيئًا منها، وإنّما يُجبَرُ المَدينُ على دفعِها بسببِ الإعْسار، من مَالٍ آخر يَملكُه، أو من نشاطٍ اقتصاديٍّ إضافيٍّ يبذلُه، وبالتالي فهي زيادةٌ لم تَنشأْ من نشاطٍ تنمَويٍّ مُتَّزنٍ، يُحقِّقُ الرِّبحَ للطرفَين، وهي زيادةٌ تُثقِلُ كاهِلَ المَدينِ، وتُثْري الدَّائنَ، وتؤدّي إلى زيادةِ الكِتْلةِ النَّقديّةِ في الأسواقِ، مع عدم نُموِّ الإنتاجِ، وهذا يدفعُ الاقتصادَ إلى السّقوط في بَراثِنِ التضَخُّمِ، وسُوءِ توزيعِ الدَّخْلِ، الذي يُعتَبرُ أكبرَ آفَةٍ تُصيبُ اقتصاداتِ الدُّول، وتُحَطِّمُ شُعوبَها.

6- رِبا الجاهِليةِ، آفةٌ اجتماعية، يمارِسُه بعضُ المُرابِينَ، وتَدفعُ ضريبَتَه الشُّعوبُ، لذلك، حاربَه اللهُ جلَّ جلالُه، وحذّرَ منه المُؤمِنينَ، وحرَّمَه عليهم، من جهةٍ، وكافئ مَن لم يُمارِسْهُ بالعَفو والمَغفرة عن كافّة الذُّنوبِ، كما أشارتْ إليه الرواياتُ، من جهةٍ أخرى.

ويُوصِي البحثُ بما يلي:

1- قيامُ المجامع والمؤسسات الفقهية بإجراء دراساتٍ وبحوث مستفيضة بخصوص الرِّبا، من خلال نصوص الكتاب والسنة، وطبيعةِ التعامل معه في القرون الثلاثة الأولى.

2- قيامُ الباحثين والمتخصصين بدراسة عِلَلِ تحريم الرِّبا عمومًا، ورِبا الجاهِليّةِ خصوصًا، من وجهَيها الشرعيِّ والاقتصاديِّ المُعاصِر.

3- دعوةُ المؤسساتِ المالية العالمية، وكافّةِ الحكومات إلى تبنّي مَشروعِ “منع رِبا الجاهلية” والتخلّي عن عمليات جدولةِ الدُّيون في كافّة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وذلك، حفاظًا على الاستقرار الاقتصاديّ، والسيطرة على الكتلة النقدية.

4- نشرُ الوعي الاقتصاديّ بالمنظور الشرعيّ لدى المواطنين، ومن خلال النصوص الشرعية المُعتبَرة، والمبادئِ الاقتصادية التي تَطوَّرت مع تَطوُّر العقل البشري، والحاجاتِ الإنسانية.

الهوامش

1- الاعتفار: هو أن يأخذ كبيرُ أهل البيت أهله كلَّهم، الى مكان يُسمّى “الخِباء”، يَبقون فيه حتى يَمُوتوا كلُّهم من الجوع، وهي عادةٌ كانت سائدةً في الجاهلية، أثناء القَحط والجُوع والفَقر الشديدِ.

2- حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.

3- عقد الإذعان: هو عقدٌ يعتمدُ على استخدام نموذَجٍ ثابتٍ، لا يَعتَريهِ أيُّ تغيرٍ، يُعدُّه أحدُ طَرفَيه مُنفردًا، وهو الطرفُ القوىُّ، فليس للطرف الثاني الا الموافقةُ وليس له الحقُّ في طلبِ أيِّ تعديلٍ، كعقود تجهيز الماء والكهرباء بين الحكومة والمواطنين.

المراجع

البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ط1، بيروت: دار التأصيل، 2012م، ج3

البَلاذُرِي، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، ط1، بيروت: دار الفكر، 1996م، ج1

ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1999م، ج28  

الخُنْ، مصطفى، وآخرون، الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي، ط1، دمشق: دار القلم، 1989م، ج6

سحّاب، فكتور، إيلاف قريش، ط1، بيروت: كومبيونشر، 1992م

الطبري، ابن جرير، تفسير الطبري، ط1، القاهرة: دار هجر للطباعة،2001م، ج5

ابن عاشور، محمد الطاهر، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984، ج30               

العسقلاني، أحمد بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، الرياض: دار طيبة، 2005م، ج5

علي، جواد، المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، ط4، بيروت: دار الساقي، 2001م، ج13 

الواحدي، علي بن أحمد، أسباب النزول، ط2، الدمام: دار الإصلاح، 1992م

الواقدي، محمد بن عمر، المغازي، ط3، بيروت: دار الأعلمي، 1989م، ج1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *