شوان زنكنة يكتب |ماذا خلَّفت الانتخابات المحلية التركية
تمهيد
أجرت تركيا انتخاباتها المحلية لاختيار رؤساء بلديات المدن، وأعضاء مجالسها، مع مخاتير المحلات والحارات بتأريخ 31/3/2024، بعد حوالي سنة، تقريبا، من إجرائها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في 14/5/2023.
شارك في هذه الانتخابات العديدُ من الأحزاب التركية، للمنافسة على مناصب رؤساء البلديات، ولتشكيل الكتل الحزبية داخل مجالس البلديات (تتشكّل هذه الكتل بعد عبور الحزب حاجز 10% من مجموع الأصوات في المنطقة الانتخابية)، وقد بلغ عدد الناخبين في هذه الانتخابات 61.430,934 ناخبا، صوّتوا في 206,806 صندوقا، وشارك منهم في التصويت ما مجموعه 48,256,117 ناخبا، وقد بلغت الأصوات الصحيحة 46,046,101 صوتا، بنسبة مشاركة مقدارها 78,11%، وهي نسبة مشاركة منخفضة قياسا بالانتخابات المحلية التي جرت في 31/3/2019، والتي انتهت بنسبة مشاركة مقدارها 84,67%.
تمخّضت هذه الانتخابات عن نتائج عديدة، ستترك بصمتها على مستقبل تركيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من تعلّق هذه الانتخابات بالإدارة المحلية، وليست الإدارة العامة، وذلك لأنها سجّلت، وبوضوح، نقطةَ تَحوُّلٍ هامة واستراتيجية في ميول المواطنين السياسية، ولا بُدَّ من تحديد أهم هذه النتائج وتحليل مضامينها، وفهم معانيها، واستشراف مآلاتها.
أولا: نتائج الانتخابات
من خلال ما تمّ نشره من النتائج الأولية، غير الرسمية، بعد فتح كافة الصناديق في عموم تركيا، يمكن إدراج أهم نتائج هذه الانتخابات، وتلخيصها بما يلي:
أ- نسب الأصوات التي حصل عليها كل حزب في المجالس المحلية بعموم تركيا
الأحزاب انتخابات 31/3/2024 انتخابات 31/3/2019
* حزب الشعب الجمهوري 37.76% 30.12%
* حزب العدالة والتنمية 35.48% 44.33%
* حزب الرفاه من جديد 6.19% 0%
* حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 5.7% 4.24%
* حزب الحركة القومية 4.99% 7.31%
* حزب الجيد 3.77% 7.5%
* حزب السعادة 1.09% 2.7%
* حزب الديمقراطية والتقدم 0.33% 0%
* حزب المستقبل 0.07% 0%
* حزب الهدى 0.55% 0%
* حزب الاتحاد الكبير 0.44% 0.44%
* حزب الظفر 1.74% 0%
هذه هي أهم الأحزاب السياسية التي كانت لها تأثير على الساحة السياسية التركية في الفترة بين الانتخابات البلدية لعام 2019م و2024م.
ب- توزيع رئاسات البلديات على الأحزاب، حسب الأصوات التي حصلت عليها
الأحزاب انتخابات 31/3/2024 انتخابات 31/3/2019
* حزب الشعب الجمهوري 35 21
* حزب العدالة والتنمية 24 39
* حزب الرفاه من جديد 2 0
* حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 10 8
* حزب الحركة القومية 8 11
* حزب الجيد 1 0
* حزب الاتحاد الكبير 1 0
ج- نتائج التصويت في أهم المدن التركية
إسطنبول/ انتخابات 31/3/2024
الأحزاب رئاسة البلدية المجلس البلدي
* حزب الشعب الجمهوري 51.14% 45.68%
* حزب العدالة والتنمية 39.59% 38.24%
* حزب الرفاه من جديد 2.61% 3.76%
* حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 2.12% 1.74%
* حزب الجيد 0.63% 1.49%
* حزب السعادة 0.56% 0.97%
* حزب الديمقراطية والتقدم 0.13% 0.33%
* حزب المستقبل 0% 0.12%
* حزب الظفر 2.12% 3.61%
إسطنبول/ انتخابات 31/3/2019
الأحزاب رئاسة البلدية المجلس البلدي
* حزب الشعب الجمهوري 48.77% 38.53%
* حزب العدالة والتنمية 48.61% 45.61%
* حزب السعادة 1.21% 2.63%
حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 0% 4,02%
حزب الجيد 0% 3.47%
أنقرة/ انتخابات 31/3/2024
الأحزاب رئاسة البلدية المجلس البلدي
* حزب الشعب الجمهوري 60.38% 49.37%
* حزب العدالة والتنمية 31.69% 28.12%
* حزب الرفاه من جديد 3.13% 4.79%
* حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 0.80% 0.97%
* حزب الجيد 0.91% 2.89%
* حزب السعادة 0.45% 0.76%
* حزب الديمقراطية والتقدم 0.15% 0.40%
* حزب المستقبل 0% 0.01%
* حزب الظفر 1.51% 3.77%
* حزب الحركة القومية 0% 4.73%
أنقرة/ انتخابات 31/3/2019
الأحزاب رئاسة البلدية المجلس البلدي
* حزب الشعب الجمهوري 50.93% 37.87%
* حزب العدالة والتنمية 47.14% 41.02%
* حزب المساواة الشعبية والديمقراطية 0% 1.12%
* حزب الجيد 0% 7.23%
* حزب السعادة 1.05% 2.03%
* حزب الديمقراطية والتقدم 0% 0%
* حزب المستقبل 0% 0%
* حزب الظفر 0% 0%
* حزب الحركة القومية 0% 7.13%
د- نتائج التصويت في المدن التي تعرضت للزلزال
تعرضت 11 مدينة في جنوب شرق تركيا إلى هزة أرضية شديدة بتأريخ 6/2/2023، وهي: أدنه، أديامان، غازي عنتاب، ديار بكر، ألازغ، هاتاي، كيليس، ملاطيا، قهرمان مراش، عثمانية، شانلي أورفا.
حصل حزب العدالة والتنمية في هذه المنطقة على 34% من الأصوات، وفاز مرشحوه في 5 مدن (غازي عنتاب، ألازغ، هاتاي، ملاطيا، قهرمان مراش)، وحصل حزب الشعب الجمهوري على 24% من الأصوات، وفاز مرشحوه في 3 مدن (أدنه، كيليس، أديامان)، بينما فاز مرشح حزب الرفاه من جديد في مدينة شانلي أورفا، وفاز مرشح حزب الحركة القومية في مدينة عثمانية، وفاز مرشح حزب المساواة الشعبية والديمقراطية الكردي في مدينة ديار بكر.
ثانيا: تحليل نتائج الانتخابات
التحليل السليم لكل حدث يستوجب النظرَ في أصل الحدث وذاته، وإعمالَ العقلِ في الآليات والعوامل التي أنشأت الحدث وأثّرت فيه، والابتعاد عن التخمينات والتبريرات والتحليلات النظرية الظاهرية الساذجة، لذلك، سأركّز في تحليلي هذا على الحدث نفسه، وعلى العوامل والدوافع الحقيقية التي أوجدته، من خلال عرض الأسباب من وجهيها الداخلي والخارجي.
أ- الأسباب الداخلية (الذاتية)
ويبدأ التحليل بالسؤال التالي:
ما هي أسباب فقْدِ حزب العدالة والتنمية لأصواته؟ وأين ذهبت هذه الأصوات؟
وللإجابة على هذا السؤال، يجب أن نحدّد طبيعة قواعد حزب العدالة ومؤيديه، وميولهم الأيديولوجية، وآلية العلاقات التي توجّهُ وتُسيّرُ الحزب.
تتشكّل قواعدُ، ومؤيّدو حزب العدالة والتنمية (إثنيا، وإيديولوجيا) من ثلاثة تيارات: التيار الإسلامي، والتيار القومي التركي، والتيار الكردي الإسلامي.
تعرّضت هذه التيارات الثلاثة داخل الحزب إلى الانكماش بعد تعرّض الحكومة للانقلاب العسكري عام 2016م، لأسباب عدة، يأتي توغّلُ التيار القومي التركي إلى كافة أركان الدولة والحزب، وعلى حساب التيارين الإسلامي والكردي، في مقدمتها، ولتتبع هذا الانكماش، لا بُدَّ من دراسة حالة كلِّ تيارٍ على حِدة، وكما يلي:
1- التيار الإسلامي:
يعود أصلُ التيار الإسلامي داخل حزب العدالة والتنمية إلى التيار الإسلامي الراديكالي (الثوري) الذي كان منتشرا في الثمانينات من القرن الماضي في تركيا، وقد تعرّض هذا التيار للمراجعات الفكرية في بداية التسعينات من القرن الماضي، وبدأ بالانفتاح الاجتماعي، واتخذ خط الاعتدال، وتوغّل داخل حزب الرفاه، الذي اكتسح الانتخابات البلدية عام 1994م، حيث فاز فيها أردوغان كرئيس لبلدية إسطنبول، ثم انفصل التيار الراديكالي المنفتح بقيادة أردوغان عن تيار نجم الدين أربكان، إثر خلاف حزبي وفكري، ليتشكّل حزب العدالة والتنمية، عام 2001م، ومنذ ذلك التأريخ، ولغاية أحداث الانقلاب العسكري عام 2016م، شكّل هذا التيار العمودَ الفقري للحزب، إلا أنّ توغُّلَ التيار القومي التركي داخل الحزب، وبعد الانقلاب العسكري بالأخصّ، وتجاوزَ حجمه لأكثر من ثلث قواعد الحزب، ولّد صراعا داخل الحزب، وبالتوازي مع الصراع داخل أركان الدولة، بين التيارين الإسلامي والقومي التركي.
دفع هذا الصراعُ، الكثيرين من الإسلاميين إلى المخاصمة والانزواء، وبدأ التآكل داخل الحزب من هذه الزاوية، ثم جاء الخلاف بين أردوغان وبعض قيادات الحزب، أمثال، عبد اللطيف شنر، وأحمد داود أوغلو، وعلي بابا جان، وعبد الله غول، وغيرهم، ليُزيدَ الشرخَ داخل الحزب، أما التآكل الكبير داخل الحزب، فقد ظهر جليا، وتفاقم خلال هذه الفترة بشكل ملحوظ، من خلال تعاظم الهوة بين الطبقة الراديكالية الفقيرة، والطبقة القيادية والإدارية، التي اغتنت وحصلت على مغانم السلطة، وتنكرت للطبقة العامة السحيقة، وهو ما شخّصه أردوغان بعد الانتخابات، وسمّاه “الكِبْر”.
عادَ التيارُ الراديكالي إلى موقفه السلبي من حزب العدالة، كما كان موقفه من حزب الرفاه في الثمانينات، وعبّر عن نفسه، وعن موقفه الساخط من الحزب، في هذه الانتخابات من خلال تصويته لصالح حزب الرفاه من جديد الذي تبنّى شعارات راديكالية، معارِضة لتصرفات حكومة اردوغان، فتجمّع تحت راية هذا الحزب الصوتُ الإسلامي لكل الأحزاب التي تخاطب التيارَ الإسلامي في تركيا، كحزب السعادة، وحزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم، وهو ما مكّن حزب الرفاه من جديد من الحصول على 6.1% من الأصوات في هذه الانتخابات المحلية، وتسبّب بخسارة حزب العدالة والتنمية لأصواته هذه.
2- التيار الكردي:
اِعتاد حزب العدالة والتنمية، منذ تأسيسه، على مناصفته لأصوات الكرد في تركيا مع التيار الكردي القومي اليساري، ولكن، وبعد توقف مباحثات السلام، عام 2015م، وتنفيذ الانقلاب العسكري وتوغل التيار القومي اليميني داخل أركان الدولة، بدأ التيار الكردي الإسلامي، الذي كان يُعدّ القاعدة الكردية الأساسية لحزب العدالة والتنمية، بالانزواء، والابتعاد عن الحزب، رويدا رويدا، وتأتي العملياتُ العسكرية التركية في شمال سوريا، وإقليم كردستان العراق، وإعفاءُ العديد من رؤساء البلديات في المدن الشرقية من مناصبهم، وتعيينُ موظفين حكوميين بدلهم، وزجُّ بعض القيادات الكردية في السجون، وإهمالُ الشريحة الكردية الكادحة، ومطالبِها الاجتماعية، ووقوعُ التيار الإسلامي الكردي بين مطرقة الحكومة، وسَندان التيار القومي اليساري الكردي، كلُّ ذلك كان السبب الأساسي لتآكل أصوات حزب العدالة والتنمية في الشرق والجنوب الشرقي، ذات الأكثرية الكردية، إلى النصف تقريبا.
3- التيار القومي اليميني التركي:
ينتشر التيار القومي التركي في كل أرجاء تركيا، وفي داخل كافة الأحزاب، اليمينية واليسارية، وقد تركّز التيار اليميني القومي، تأريخيا، داخل حزب الحركة القومية، والذي انفصل عنه حزب الاتحاد الكبير، وحزب الجيد، وحزب الظفر، ويُعدّ حوالي ثلث قواعد حزب العدالة والتنمية من هذا التيار.
انتكس هذا التيار في السنين الأخيرة، وتشتت أصواته بين عدة أحزاب، فقد تراجع التأييد الشعبي لحزب الجيد كثيرا، بسبب مواقفه السياسية المتذبذبة، وتراجع التأييد الشعبي لحزب الحركة القومية بشكل كبير بسبب اتهام بعض قياداته بقتل “سنان آتش”، القيادي القومي السابق في الحزب بسبب خلافات حزبية، ناهيك عن توسع الهوة بين قيادة الحزب وقواعده. وبالرغم من تزايد شعبية حزب الظفر الذي استقطب جزءً من قواعد حزب الجيد، وحزب الحركة القومية، إلا أنه لم يستطع إثبات وجوده في هذه الانتخابات باعتبارها انتخابات محلية لا يتمكن الحزب فيها من منافسة الأحزاب الأخرى للفوز بمنصب رئيسِ بلديةِ أيّةِ مدينة.
وقد تجلّى تراجعُ التيار القومي التركي في الانتخابات البلدية في مدينتي إسطنبول وأنقرة بشكل واضح، فقد تلاشت أصوات جزب الجيد بشكل كبير لصالح مرشح المعارضة في أنقرة، باعتبارِ خَلْفِيَّتِهِ اليمينية القومية، كما ذهب معظم أصوات حزب الحركة القومي، وحزب الظفر، وأصوات القوميين داخل حزب العدالة والتنمية، إلى مرشح المعارضة في أنقرة، ولنفس السبب، هذا بالإضافة إلى توجّه معظم الصوت الكردي في أنقرة إلى مرشح المعرضة، الأمر الذي جعل الفارق بين مرشح حزب العدالة والتنمية ومرشح المعارضة حوالي 30%.
أما في إسطنبول، فإن استقطابَ حزب الرفاه من جديد للصوت الإسلامي الراديكالي، والمنفصِل عن حزب العدالة والتنمية، وتصويتَه لصالح مرشَّح المعارضة، وتوجّهَ قسم كبير من الصوت الكردي إلى مرشَّح المعارضة، بالإضافة إلى الأصوات القومية المنفصلة عن أحزابها، التي صوَّتت لصالح مرشَّح المعارضة، كلُّ ذلك، جعل مرشَّح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، يفوز بفارق كبير، وبشكل غير مُتوَقَّع.
واضحٌ مما سبق، أن آليات التعامل داخل الأحزاب السياسية الفاعلة، وطبيعة العلاقة بين قياداتها وقواعدها، والتوجّهات الإثنية والأيديولوجية، هي التي تحكّمت في حركة الأصوات وتوجّهاتها نحو مرشَّحي الأحزاب في كافة المدن التركية، وبالأخص مدينتَي إسطنبول وأنقرة.
أما عَزْوُ تراجعِ أصوات حزب العدالة والتنمية إلى أسباب أخرى غير التي تمَّ بيانُها آنفا، فهو تعسّفٌ وسذاجةٌ في التحليل، وتصوُّرٌ نظريٌّ قائِمٌ على التخمين الذي لا يمتّ للواقع بصلة، ولا يمسُّ أصل الحدث.
فلسيت المشاكل الاقتصادية سببا لتراجع أصوات الحزب الحاكم وشريكه حزب الحركة القومية، البتة، لما تمّ بيانه أعلاه، وللأسباب الإضافية التالية:
1- الانتخابات الحالية هي انتخابات بلدية، لا علاقة لها بالحكومة وسياساتها، وهي غير قادرة على تغيير الحكومة، أو تغيير سياساتها الاقتصادية.
2- جرت، العام المنصرم، انتخابات رئاسية، وبرلمانية، فاز فيها أردوغان بفترة رئاسية مدتها خمس سنوات، وفاز حزبه مع حزب شريكه، بأكثرية المقاعد البرلمانية، في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية متأزمة، ولم يَقُمِ المواطنُ بنقل مشاكله الاقتصادية إلى صناديق الاقتراع، في وقت كان يُمكنه فيه تغيير الحكومة، وتغيير نظام الحكم أيضا، فكيف يمكن تصوّر أنْ يكون للاقتصاد دور في مواقف المواطنين في انتخابات محلية لا علاقة لها بالحكومة وسياساتها.
3- فاز حزب العدالة والتنمية، وشريكه حزب الحركة القومية، بأكثر من 40% من أصوات الشعب التركي في هذه الانتخابات، وكلُّ هذه الأصوات لمواطنين يعانون من مشاكل اقتصادية، فإذا كانت الأزمة الاقتصادية سببا لتآكل التأييد الشعبي للحزب الحاكم، فلماذا إذن صوّت هؤلاء للحكومة ولحزبها.
4- حصل حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات على 35.48%، بينما كان قد حصل في الانتخابات البلدية عام 2019م على 44.33%، وهذا يعني تراجعا بحوالي 9%، وقد تمّ بيان اتجاهات هذه الأصوات آنفا، إذ استقطب حزب الرفاه من جديد القسم الأكبر من هذه الأصوات، وهي الأصوات الإسلامية، بينما أخذ الصوت الكردي قسما من هذا التراجع، في حين كان من نصيب التيار القومي داخل حزب العدالة والتنمية، جزءٌ محدود أيضا، وليس هناك مؤشر يدلّ على كون الاقتصاد سببا لهذه التوجهات، والميول السياسية.
5- لم يصوّت المواطنون الذين صوّتوا لصالح مرشَّحي المعارضة لأسباب اقتصادية، بل لأسباب متعلقة بعوامل داخلية للأحزاب الأخرى، فالمواطنون يدركون أن هذه الانتخابات غير قادرة على تحسين وضعهم المعاشي، ناهيك عن أن استطلاعات الرأي أظهرت أن حوالي 85% من المواطنين يعتقدون أن حزب الشعب الجمهوري غير قادر على معالجة المشاكل الاقتصادية في حال فوزه في الانتخابات العامة.
6- مجيء حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول في منطقة الزلزال (11 مدينة، حوالي 15 مليون نسمة)، بنسبة أصوات مقدارها 34%، يؤكد أن العامل الاقتصادي لم يكن الموجِّه الرئيسي للأصوات في هذه الانتخابات، والتراجع الذي تعرّض له الحزب في هذه المنطقة، إنما كان مرَدُّه تشتّتَ الصوتِ الإسلامي واليمين القومي، والخطأَ في طبيعة إدارة الحملة الانتخابية من قبل اتفاق الجمهور، وقوةَ مرشحي حزب الشعب الجمهوري، في مدن أديامان وكيليس، وأدنه.
واهمٌ مَن يعتقد أن المواطنين لقّنوا الحزب الحاكم درسا، لتصحيح مساره، فالمواطنون الذين صوتوا لصالح حزب الشعب الجمهوري، وتسبَّبوا بزيادة ملموسة في نسبة الأصوات التي حصل عليها، هم من شرائح مختلفة، وغير متجانسة، ويستحيل أن تجتمع لتلقين الدروس، ناهيك عن تناقض توجهاتها، وتعدّد أسباب تشكيلها.
وأما عَزْوُ تراجعِ أصوات حزب العدالة والتنمية إلى موقف أردوغان وحكومته من أحداث غزة، فهو وهم أقبح من وهم عَزْوِ التراجع لأسباب اقتصادية، إذ لم يشغل هذا الحدث الرأي العام التركي إلا بقدر محدود جدا، وفي بيئة ضيقة، ولكن تمَّ استغلال التجارة مع إسرائيل من قبل المعارضة، وشريحةٍ من الراديكاليين، وقيادةِ حزب الحركة القومية، لإحراج الحكومة، بل ولإدارة دفّة الصراع الخَفي داخل “اتفاق الجمهور”، بين التيار الإسلامي الموالي “لأردوغان”، والتيار القومي الموالي “لدولت باهجلي”، وعلى الرغم من أن معظم هذه السلع والخدمات تذهب إلى غزة والضفة الغربية، إلا أن الإشاعات ضد الحكومة بهذا الخصوص صوّرت هذه التجارة وكأنها دعم تركي لإسرائيل.. ومعلوم أن دوافع المعارضة، والتيارين الراديكالي الإسلامي، والقومي اليميني، والتيار الكردي اليساري في التصويت في هذه الانتخابات، كانت متعلقة بخصوصية توجهاتها الذاتية التي لا علاقة لها بحدث طارئ كالوضع في غزة، أو التجارة مع إسرائيل، لذلك لم تظهر هذه الأحداث في صناديق الاقتراع بشكل بارز.
وأما عَزْوُ تراجعِ أصوات حزب العدالة والتنمية إلى الموقف من المهاجرين والأجانب في تركيا، فهذا وهم آخر فيه إجحافٌ وتجنٍّ كبير، لأن الحكومة التركية هي التي استقبلتهم، ولا زالت ترعاهم، ووضعت خططا لتنظيم تواجدهم وإقاماتهم، التي استغلّها البعض لاتهام الحكومة بأنها تنوي إخراجهم، ونسي هؤلاء المروِّجون لهذه الشائعات أن المعارضة هي التي ستُرحِّلهم، في أقرب فرصة، إن تمكّنت من ذلك.
لقد حدث غوغاء وفوضى في الأفكار والمواقف والتصورات لدى البعض بخصوص غزة والمهاجرين، استغلّها البعض لإحراج الحكومة، والبعض الآخر لإدارة دفة الصراع معها، وضاع البسطاء من الناس في هذه المعمعة، لذلك لم يظهر هذا الفوضى في الصناديق إلا في نطاق محدود لا قيمة له.
ب- الأسباب الخارجية (خارج البنية الحزبية)
وهي أسباب تتعلق باستراتيجية الحملة الانتخابية، وكفاءة العاملين، وقرارات أردوغان بخصوص الانتخابات، ويمكن تلخيصها كالآتي:
1- لم يتفق حزب العدالة والتنمية مع شريكه في الحكم، حزب الحركة القومية، على مرشَّح مشترك بينهما، ودعمه في أربع مدن، هي: كيليس، وكوتاهيا، وأماسيا، ويوزغات، باعتبارها مدن قومية محافظة، واليسار فيها ضعيف، وقد كلفهما هذا الخطأ الاستراتيجي كثيرا، إذ فاز فيها، جميعا، حزب الشعب الجمهوري، على الرغم من أن أصوات الحزبين مجتمعة كانت حوالي 60%.
2- اختيار المرشَّحين لرئاسة البلديات لم يكن موفَّقا، على العموم، وخاصة في أنقرة وإسطنبول، إذ كانا، في نظر المواطنين، أصغر من أن يشغلا هذين المنصبين.
3- لم تتمكن قيادة الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية من سَوْقِ وإدارة أعمال وأنشطة الحملة الانتخابية بشكل كفوء، ولم تتمكّن، كذلك، من دفعِ أكبر عدد ممكن من المؤيدين للحزب إلى صناديق الاقتراع، فتخلّف عدد كبير منهم عن التصويت.
4- عدمُ الاتفاق مع حزب الرفاه من جديد، بسب الاختلاف على توزيع البلديات فيما بينهما، ورفضُ مطالبه بهذا الخصوص، مما أفقدَه ما لا يقل عن 6% من الأصوات.
5- كانت هناك دعوات ونداءات كردية، ومساعي للتفاهم مع التيار الكردي اليساري، إلا أن أردوغان لم يُعِرْ لها اهتماما، وهو ما تسبّب بتآكل أصوات حزبه لدى الشريحة الكردية في الانتخابات.
6- ضعف التواصل بين القيادة والقاعدة، وبينهما وبين المواطنين، وغلبة الشعور بالكِبْرِ والتعالي لدى الكثيرين من المسؤولين، وقد ترك هذا التعامل إحباطا لدى المواطنين، بل ونفورا واعراضا ظهرت آثاره في صناديق الاقتراع.
ويجدر الإشارة، في هذا التحليل، إلى أن الزيادة في نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري، والبالغة حوالي 7.5%، قياسا بالانتخابات المحلية لعام 2019م، تركت لدى قيادة وقواعد الحزب أثرا معنويا كبيرا، بعد سلسلة الهزائم الانتخابية التي مني الحزب بها طيلة 20 عاما الماضية، إلا أنها سوف لن تضيف زخما كبيرا للحزب في الانتخابات القادمة، لأن هذه الزيادة في الأصوات إنما هي أصواتُ أمانةٍ، اتّجهت نحو الحزب من الساخطين على أحزابهم، ولم تأتِ من أنشطة الحزب ومنجزاته، ولا من الروح المعنوية للقيادة الجديدة، التي لم تضف شيئا جديدا، بسبب حداثة تسنّمها قيادة الحزب، لذلك، فإن هذه الزيادة المتذبذبة معرَّضة للفقدان في أول انتخابات قادمة، ما لم تقدم قيادة الحزب الجديدة، ما يثبت جدارتها لحيازة هذه الزيادة، وقدرتها على تنميتها وتطويرها.
ثالثا: وقت المحاسبة وفاتورتها
حلَّ وقت الحساب، كما قال أردوغان ليلة الإعلان عن نتائج الانتخابات، وستَتمّ مراجعاتٌ عميقة، ومتعدّدةُ الأطراف، وستشمَل كافة مفاصل الحزب، والحكومة، واتفاق الجمهور، وغيرها.
ستتغيّر إدارةُ الحزب، وستتشكّل حكومة جديدة، وستتمّ مراجعةُ الاتفاق مع حزب الحركة القومية، وستَعلو أصوات المطالبة بمباحثات السلام، ولن يمرّ كلّ ذلك بسلاسة ويُسر، بل هو مخاضٌ عسيرٌ، وتفاقمٌ في الصراعات الحزبية الداخلية، وتسارعٌ في وتيرة الصراع الكامن بين التيار الإسلامي والتيار القومي اليميني داخل الحزب والحكومة، قد يؤدي إلى انقلاب عسكري يتعرّض له أردوغان وحكومته، من قبل التيار القومي اليميني، وبالأخصّ، إذا قرّر أردوغان، أو اضطرّ إلى اتخاذ قرار تقديم موعد الانتخابات الرئاسية.
وقد نشهد، في هذه الفترة، تبادل الاتهامات وإلقاء اللائمات بين العديد من الجهات، وقد نشهد الكثير من المظاهرات والاعتصامات، بحجج واهية، أو حقيقية، تستهدف الحزب والحكومة، وقد نشهد، كذلك، بعضا من الأعمال الإرهابية.
أشكّ في أن يتمكن أردوغان من تشخيص الأسباب الحقيقية لتآكل أصوات حزبه، في ظلّ تبادل الاتهامات واللائمات داخل الحزب وخارجه، وفي ظل تمكّن التيار القومي من مفاصل الدولة العميقة، وقدرته على إدارة دفة الصراع، وتحريكه الشارع، وتأليبه للرأي العام، وممارسته لأنشطة فوضوية، إلا أنه، من المؤكد، أن يجتهد أردوغان للسيطرة على الوضع، والاستمرار حتى نهاية دورته هذه، بأقل قدر من الخسائر.
ستلقي نتائجُ هذه الانتخابات وملابساتُها بظلالها على الوضع الاقتصادي، حتما، إذ سيسعى أردوغان إلى استغلال فترة حكمه المتبقية في تحسين الواقع الاقتصادي، والاستمرار في سياسته الاقتصادية الانفتاحية هذه، وستمر تركيا بمرحلة انكماش اقتصادي خلال السنتين القادمتين، قبل أن تتمكن من معالجة الخلل المفصلي في هياكل البنية الاقتصادية، وتحسين الواقع المعاشي للمواطن.
تراكمُ التشوُّهاتِ في المؤشرات الاقتصادية منذ أيلول 2021م، ، وترحيلُها إلى ما بعد الانتخابات، أثقل كاهلَ الاقتصاد التركي كثيرا، وعقّدَ طرق معالجته، وسوف يدخل البلاد في ركود وانكماش في المدى المنظور، قبل أن يبدأ بالتعافي، وذلك، من خلال سياسة مالية ونقدية انكماشية، تعهّد أردوغان باتباعها خلال السنوات القادمة.
الخاتمة
تُعتبَر هذه الانتخابات لأردوغان، وحزبه، وحكومته، نقطة تحول كبرى، ليس بسبب تراجع أصوات حزبه فحسب، وإنما بسبب الحقائق التي طَفت على الساحة، ولفَتت أنظار أردوغان، كرئيس حزب، ورئيس جمهورية، والمتعلقة بطبيعة إدارته للسلطة، وكفاءةِ مَن حوله، والهوةِ بين المواطن والسلطة، والكِبْرِ الذي أصابه، وأصاب مَن حوله، وصِيَغِ تحالفاته.
المراجعات، والمحاسبات ستبدأ، حتما، وستتمخض عنها ولادة صعبة وعسيرة، وستقع على عاتق أردوغان إدارة دفة السلطة، في الحكم وفي الحزب، بحكمة وكفاءة، في ظلّ تبادلٍ للاتهامات، وتفاقمٍ للصراعات، وصِيَغٍ جديدة للتحالفات، وإلا، فإنه قد يضطر لإجراء انتخابات مبكرة، أو قد يتعرض نظامه لانقلاب عسكري يميني، وفي كل الأحوال، يمكن أن يتّجه البلاد نحو المجهول، الذي لا يتمناه أحد.