عسكري وعمامة وتاجر ماجد كيالي
شرطي وعمامة وتاجر، أي القمع والتعمية والبزنس، عناصر ثلاثة ارتكز عليها النظام السوري للسيطرة والهيمنة على المجال العام، وإخضاع السوريين، لذا فالتحرر من هذا النظام لا بد أن يمر بتحرير الدولة والمجتمع من هذه العناصر الثلاثة.
لم يتعرّف السوريون، في مأساتهم، فقط على بلداتهم وقراهم المنسيّة بثمن المئات من الشهداء، وعبر خارطة القصف الجوي، وإنما تعرفوا عليها أيضا من خلال هذه الشبكة المهولة من القواعد العسكرية التي اكتشفوا أنها تملأ البلد من أقصاه إلى أقصاه.
فقد تبين في الأعوام الستة الماضية أن نظام بشار الأسد لم يكتف باحتلال حياة السوريين بأجهزة المخابرات الأخطبوطية، والهيمنة على مواردهم مباشرة أو عبر الشركات المافيوية، إنما احتل البلد بنشر تلك القواعد في كل بقعة حول المدن والبلدات السورية، في مناطق محرومة من التنمية والتعليم والصحة والحد الأدنى من الخدمات.
معلوم أن الأسلوب ذاته تم اتباعه داخل المدن الكبيرة، ومنها حمص وحلب ودمشق واللاذقية، حيث لا يوجد حي لا يتواجد فيه شكل من أشكال الثكنات العسكرية، من البرامكة إلى المزة وركن الدين والميدان وبرزة، في دمشق مثلا، وهذا ينطبق على مكاتب أجهزة المخابرات، طبعا، ناهيك عن مكاتب حزب البعث، والمنظمات الشعبية، التي تضطلع بأدوار وظيفية، أمنية وسياسية أيضا في الكثير من الأحوال.
ولعل القصف الوحشي والعشوائي بالبراميل المتفجرة هو أكثر ما يلفت الانتباه، في هذا السياق، ذلك أن اعتماد هذا الأسلوب في قتل السوريين، وتدمير عمرانهم، ينم عن كراهية مطلقة، تصدر عن روح استئصالية، وعن شعور مبطن عند النظام بغربته عن أغلبية السوريين، وعدا عن ذلك فإن هذا العدد المهول من البراميل يوحي وكأن إنتاجها كان الشغل الشاغل للنظام منذ قيامه.
والحال فإن الطبيعة العسكرية للنظام تفيد بأنه، طوال العقود الأربعة التي سبقت الثورة، كان يحضر لهذا المصير بالذات، ما يفسر إمساكه بكل مفاصل البلد، لا سيما أن عنف النظام، وتهميشه السوريين، لم يقتصرا على استخدام الوسائل العسكرية والاقتصادية والإعلامية، والتحكم بالتعليم، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية، فقط، إذ أن ذلك شمل التحكم في المجال الديني، أيضا.
وكما تبين فإن النظام اشتغل على إنتاج بيئة دينية منتظمة في إطار سلطته، وخاضعة لها، والحديث هنا ليس فقط عن ترسيخه النعرة الطائفية فقط، وإنما عن محاولته صناعة “إسلام سني” موال له.
وفي الواقع، فإن النظام مع قسوته الفائقة ضد “الإخوان المسلمين”، الذين أرهب بهم غيرهم، قام في الوقت نفسه بإغراء جماعات دينية “سنية” أخرى بفسح المجال لها للعمل، وإعطائها هامشا من الحركة. هكذا ازدهرت في دمشق، في ظل حكم الأسدين (الأب والابن) في غضون العقود الماضية، المعاهد الإسلامية، كمجمع أبوالنور ومعهد الفتح، والمعهد العالي للدراسات الدينية، ومعهد الشام، التي كان يقصدها، أيضا، مئات الطلاب من الدول الإسلامية الأجنبية الأخرى. وقد ترافق ذلك مع ظهور جماعات دينية منظمة أو شبه منظمة تتمحور حول مشايخ من مثل محمد سعيد البوطي وأحمد كفتارو والمفتي محمد بدر حسون وغيرهم، إضافة إلى وجود تنظيم نسائي كبير وناشط معروف باسم “القبيسيات”، نسبة للشيخة منيرة القبيسي.
القصد أن النظام عبر هذا الأسلوب، القائم على الترهيب والترغيب، استطاع استمالة قطاع واسع من الجماعات الإسلامية “السنية”، وهذه استطاعت بدورها أن تمحضه ببعض الشرعية، وأن تساعده على إظهار بعض التماسك، والإيحاء بالاستقرار في بعض المدن السورية، خاصة في حلب (سابقا) وفي دمشق العاصمة، حتى الآن.
لا يمكن فهم كل ما يجري بمعزل عن تشخيص الوضع الاقتصادي، وخاصة بتمسك النظام بالقطاع العام، مع الكثير من اللغو بالاشتراكية، في سبيل التلاعب والتورية، في حين أنه انتهج سياسة ليبرالية متوحشة، منفلتة من كل الضوابط متمحورة حول العائلة وأقرب الموالين.
وتفسير ذلك أن القطاع العام هو الذي يسمح له بالسيطرة على القطاع الأوسع والأكثر نشاطا في المجتمع السوري. علما أننا نتحدث عن مجموع موظفين في السلكين المدني والعسكري، النظامي وشبه النظامي، يقدر بمليونين، ضمنهم حوالي مليون ومئتي ألف في أجهزة الدولة المدنية. ويمكن أن نضيف إليهم عشرات الألوف من الموظفين من حملة الشهادات، العاملين في الشركات المختلفة التي أنشأها رجالات النظام، في مختلف المجالات الخدمية والإنتاجية. وكانت راجت بين السوريين، في المرحلة الماضية، النوادر التي تتحدث عن إفلاس شركات القطاع العام، الإنتاجية والتجارية، في حين أن الشركات الخاصة التي ينشئها المدراء أنفسهم تكسب وتزداد اتساعا.
شرطي وعمامة وتاجر، أي القمع والتعمية والبزنس، هي العناصر الثلاثة التي ارتكز عليها النظام للسيطرة والهيمنة على المجال العام، وإخضاع السوريين، وتعميم خاصيته عليهم، لذا فالتحرر من هذا النظام لا بد أن يمر بتحرير الدولة والمجتمع من هذه العناصر الثلاثة.