ريان توفيق يكتب| التدين الشعبوي
عراقيون| مقالات رأي
تُنْعَتُ الحضارة الإسلامية في بعدها الفكري بأنها حضارة نص، بمعنى أنها تتموضع حول النص قرآنا وسنة .. وتُنْعَتُ تجليات النص على مستوى الفهم الإنساني بالتدين، وهذا يعني أننا قبالة واقعين؛ الأول: هو واقع النصوص في ذاتها، أي باعتبار مراد الله ( الدين )، الثاني: واقعها في ذواتنا، أي باعتبار أفهام المتلقين لها ( التدين )، ويبقى الجهد المعرفي من خلال ما تقدمه المنظومة التفسيرية والحديثية والفقهية جهدا اجتهاديا يهدف إلى المطابقة بين الواقعين أو اقتراب الثاني من الأول، وليس بالضرورة أن يوفق لذلك؛ إذ الأنظار متفاوتة، والمناهج مختلفة، ومستوى المعرفة ذاته متفاوت.
إن الجهد المعرفي على مستوى التدين كبير، وذلك من خلال المرئيات التي يقدمها ثلة من الفقهاء والمفكرين على مستوى التأليف والبحث والتأصيل، لكن المشكلة تكمن فيما يمكن أن نسميه بالتدين الشعبوي، وهو ذلك التدين الذي أَلِفَ نوعا من الفهم للدين لا يمكن لفضاء الفقه المقاصدي، أو الفكر المنفتح على علوم العصر أن يقبله.
فالتدين الشعبوي هو ذلك التدين الذي يفهم الدين بأنه حزمة من الترهيب والتخويف، أو بأنه نوع من الانسحاب من الحياة، أو أنه تلكم الخطب والمواعظ الموسمية التي تقتصر على التذكير بفضل الصوم أو ليلة القدر، أو تكرار ما تعلمناه في مدارسنا الابتدائية من فضائل وقيم، أو أن قوامة الرجل هي سلطة تعسفية، أو أن هذا الرأي الاجتهادي هو الصحيح الموافق للسنة، وغيره خطأ، أو أننا بهذا التقاعس الحضاري مازلنا خير أمة أخرجت للناس، أو أن الاجتهاد الفقهي قد اجتهد للماضي والحاضر والمستقبل، وبالتالي ما علينا إلا أن نستدعي تلكم الاجتهادات التي تخص مرحلة معينة، وظرفية خاصة، ونسقطها على زماننا.
وأشير إلى أن التدين الشعبوي ليس حالة منحصرة في فئة وقصاع معينين من المجتمع، فقد يكون المتصدي للفتوى شعبويا، وقد يكون مدرس التربية الإسلامية شعبويا، وقد يكون الأستاذ الذي يدرس الفقه والتفسير شعبويا، وقد تكون الأسرة شعبوية، وقد تكون تلك الواعظة التي تتجول في مجالس التعزية شعبوية، لا تميز بين مستويات الأحكام، وتمارس التوجيه بشكل تقريعي، وكأنها قد اتخذت عند الله عهدا.
آن الأوان أن نطالب التدين الشعبوي أن ينفتح على التدين الذي يبث أفكارا ورؤى تنسجم مع إنسانية الشريعة وعدلها، ويثور منظومة القيم التي تلامس مصالح الإنسان، ويشتق أحكاما تنبثق من مقاصد النصوص، وتتسق مع المحكمات أمِ الكتاب، آن الأوان أن نطالب التدين الشعبوي أن يدرك أن لكل عصر استحقاقاته، ولكل زمن فقهاءه ومفكريه وهمومه.
آن الأوان أن يراجع التدين الشعبوي نتاجه عبر نصف قرن من الزمن أو يزيد، ويرى كم أنه قد أساء للدين، فكم من سعة قد ضيقها، وكم من رحمة قد حجبها ، وكم قيم قد تخطاها، وكم من مرونة قد حجَّرها، وما أورع مقولة ابن القيم التي طارت بها الركبان: “فَإِن الشَّرِيعَة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح الْعباد، فِي المعاش والمعاد، وَهِي عدل كلهَا، وَرَحْمَة كلهَا، ومصالح كلهَا، وَحِكْمَة كلهَا، فَكل مَسْأَلَة خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلَى ضدها، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من الشَّرِيعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل” .