شوان زنكنة يكتب| كردستان بين مِطْرَقَةِ إيران وسَنْدانِ تركيا

عراقيون| مقالات رأي

حينما أعلنت تركيا عن تحضيراتها العسكرية لإجراء عمليةٍ عسكريةٍ في غرب الفرات بشَمال سوريا العام الماضي، تصدّى لها كلٌّ من إيران وأمريكا وروسيا، فقامت أمريكا بتعزيز قوات سوريا الديمقراطية بالأسلحة والمعدات الثقيلة، واكتفت روسيا بقبول تدخّلٍ تركي محدود لثلاث مدنٍ في غرب الفرات، تحت وطأة أزمتها في أوكرانيا، وأما إيران، فمع تكثيف لقاءاتها مع أنقرة، لمنعها من تنفيذ عمليتها العسكرية، أوعزت إلى بافل طالباني بالتوجُّهِ لزيارة مظلوم كوباني، الذي ظهر معه في مقر إقامته في شرق الفرات بتاريخ 23/12/ 2022، مُوحِيَةً لتركيا دخولَ المنطقة مرحلة جديدة من التعاون العسكري والأمني بين الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، وقوات سوريا الديمقراطية، وهو ما أثار الغضب والقلق لدى الأتراك.

وبموازاة إقحام إيران نفسها في المفاوضات السرية والعلنية بين تركيا والنظام السوري برعاية روسيا، استمرّت في دعم وتطوير العلاقة الأمنية بين الحزبين الكرديين، إذ يمكن اعتبار سقوط الطائرة المروحية في دهوك مظهرًا من مظاهر هذا الدعم، ويبدو أن التعاون بين الحزبين الكرديين -في نظر الحكومة التركية- هو لتوسيع رقعة الصراع الكردي التركي، والاستعداد لمقاومة القوات التركية، بل والتخطيط المشترك لتنفيذ الهجمات العسكرية عليها، مما دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة في ثكناتها العسكرية الخارجية، وعلى الحدود، وداخل المدن التركية، تحسّبًا لأي طارئ أمني قد يؤثر في نتائج الانتخابات.

أما الأمر الجَلَلُ الذي أغضب أردوغان وحزبه، فهو إيعاز قيادة قنديل، وبتوجيه إيراني-فرنسي، إلى حزب الشعوب الديمقراطي للإعلان عن تأييده الصريح لترشيح كمال قلجدار اوغلو للرئاسة في الانتخابات القادمة، وهذا يعني ترجيح كفة المعارضة فيها بما لا يقل عن 6 ملايين صوت.

ثم جاء الإعلان التركي بحظر الأجواء التركية أمام الرحلات الجوية المتجهة إلى مدينة السليمانية في كردستان العراق، بسبب التعاون الأمني بين الحزبين الكرديين المذكورين أعلاه، ولدواعٍ أمنيةٍ، ثم أعقب ذلك الإعلان تفجيرٌ في مدخل مطار السليمانية، أسفرَ عن حرق بابه الرئيسي، فتسارع المسؤولون في السليمانية إلي اتّهام تركيا بتنفيذه، وتأليب الراي العام ضدها، والحقيقةُ أن التفجير لم يكن إلا ضربةً جويةً من مُسيّرة تركية على مدخل مطار السليمانية، كان من المفروض أن يستهدف مظلوم كوباني الذي كان في زيارة مدينة السليمانية في إطار تعزيز التعاون بين قوات سوريا الديمقراطية والاتحاد الوطني الكردستاني، ولولا وجود قيادات أمريكية برفقة كوباني، لكان هو الهدف الحتمي وليس باب المطار.

ويبدو أن تركيا أرادت أن تفضح هذه الزيارة، بهذا الاستهداف، وإن نفته قيادة “قسد”، مدعية أن القيادي “كوباني” لم يتعرض لهجوم عسكري تركي، وأن الأنباء بهذا الخصوص إنما هي ابتزاز سياسي ضد بعض القوى السياسية في إقليم كردستان.

وقد أضافت تداعيات حظر الأجواء التركية أمام الرحلات المتجهة إلى السليمانية، وما أعقبه من تفجير، عبئا آخرا، ثقيلا على العلاقات بين الحزبين الكرديين المخضرمين في كردستان العراق، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، فقد حمّلتْ حكومةُ الإقليم، في بيان لها، الاتحادَ الوطني الكردستاني مسؤوليةَ أحداث السليمانية، واعتبرتها نتاجَ احتلالِ مؤسساتٍ حكوميةٍ، واستغلالها في أنشطة غير مشروعة، مما تسبب بحظر الطيران من قبل تركيا، ثم مهاجمتها لمطار السليمانية، وأشار البيان إلى أن المواطنين هم من يدفعون الثمن، وختم البيان بالتشديد على ضرورة وضع حد لهذا الأمر، رافعا بذلك حدة الصراع ودرجة سخونته، في حين اعتبرَ كلٌّ من الأخوين طالباني، بافل وقوباد، أن استهداف المطار تمَّ بدعمِ ومشاركةِ الحزب الديمقراطي الكردستاني وحكومة الإقليم، مُندِّدَينِ ببيانِها، الذي وصفاه ببيانٍ استهدفَ مواطني السليمانية، وخرقَ السيادةَ العراقية، وهذا اتّهام، وتنديد شديد اللهجة، يشير بوضوح، إلى رفع المسؤولين في السليمانية سقفَ التوتر في الصراع إلى مستوياتٍ خطيرة، خاصّةً مع إشارة بافل طالباني إلى أن الوضع لم يَعُدْ يُحتمَل.

تصاعدُ هذا الصراع الداخلي في إقليم كردستان، لا يصبُّ إلا في مصلحة الدولتين الجارتين، تركيا وإيران، فتركيا تسعى إلى ضمان أمنها قبيل الانتخابات، واشغالُ الأكراد في سوريا والعراق، يخفّفُ وطأةَ الأنشطة المعادية لها، ويفتحُ جبهةً كردية موالية لها، ممّن يقفون في الاتجاه الآخر من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في تركيا، ناهيك عن قدرتها في الاستمرار بالتواجد العسكري في إقليم كردستان، لتحقيق التوازن في هذا الصراع، وهو ما سينتهي، حتمًا، إذا ما استحوذت المعارضةُ على السلطة في تركيا، وحينها، سوف لن يبقَ أمام الحزب الديمقراطي الكردستاني إلا إبرام صيغة تعاون استراتيجي مع فرنسا، لتحقيق التوازن المفقود بغياب أردوغان.

أما إيران، فهي، كعادتها، تضرب عدة عصافير بحجر واحد، فتفاقمُ هذا الصراع، يُضعِفُ سلطة الإقليم، وقد يُنهيه، ويُلغي النظامَ الفدرالي، الذي تحلم إيران بتحقيقه، ويضعُ، كذلك، كلًّا من الاتحاد الوطني الكردستاني، وحزب العمال الكردستاني في موقع الحامي لحدود إيران الشمالية الغربية، من تحركات الجماعات الكردية المناهضة لها من جهة، ويفتحُ الطريق على مصراعيه من إيران إلى سوريا ولبنان، مرورا بكردستان، وخاصّةً بعد التعاون الذي أسسته بين الاتحاد الوطني الكردستاني وقوات “قسد”، من جهة أخرى، كما ويزيد تفاقمُ هذا الصراع من حجم الشريحة الكردية المؤيدة للهجمات الإيرانية على المواقع المدنية وغيرها في أربيل وما جاورها، بحجة ضرب الإرهاب والتجسس -على حد تعبيرها-، ناهيك عن أن تفاقم هذا الصراع سيضرّ بالتواجد العسكري التركي في إقليم كردستان العراق، ويتسبّب بالضغط لإنهائه، بل بتنظيم الهجمات على القوات العسكرية التركية، وهو ما تخشاه تركيا، وتحسب له أيَّما حساب، كما هو واضح من تدابيرها الأخيرة تجاه الإدارة في السليمانية، وقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني.

واضحٌ أن الأكراد، شعبًا وحكومةً وأحزابًا، يترنّحون بين مِطرقة إيران وسَندان تركيا، وأن تفاقمَ الصراعات بينهم سيُشدّد وطأةَ هذه الكمّاشة عليهم، ويصبُّ في مصلحة الدولتين الجارتين، ويُتعِبُ الجهاتَ الداعمة لهم، ويجعلُها في وضع العاجز عن دعمهم وإسنادهم.

أتفهَّمُ وضعَ الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان، وأتفهّم طبيعة علاقاتهما مع الآخرين، ذات الجذور العميقة، وأتفهّم مصالحَهما وتشابُكَها، وحرصَهما عليها، وأتفهّم عجزَهما عن التحرّر من كمّاشة المِطرقة والسَّندان، ولكنني لا أستطيع أن أفهمَ عدمَ قدرتِهما على تسوية، وتوزيع التَّرِكَةِ التي وَرِثاها، بدماء أبناء هذا الشعب.
أعتقدُ أن التفاهم ليس صعبًا، إذا توفّرت الإرادة، فالثروة والسلطة قابلة، دوما للتوزيع والتقاسم، وهو ما يُورث الاستدامةَ والتطوّرَ، بينما لم يشهد التأريخُ صراعًا في أمةٍ لم يُؤَدِّ إلى سقوطٍ وانهيارٍ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *