شوان زنكنة يكتب|سرطانُ التضخّمِ، وفَداحةُ جُرْمِ المُسبِّبِ
عراقيون/مقالات رأي
لا يُعَدُّ مبالغةً لو اعتبرنا سرطان التضخم أحدَ أهم أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، فقد ضربت هذه الآفة كلّ الاقتصادات في العالم، فاهتزت الأسواق والبورصات، وترنّحت العملات، وارتفعت مستويات الفقر، وأصبح التدخّل لكبح جماحه ضرورةً ملحّة، قبل انهيار اقتصاد العالم كلِّه.. فهل أدّت الجهات المعنية بهذا الكبح واجبها على الوجه المطلوب والمناسب؟ أم أساءت التصرف، وتسبَّبت في تحفيزه وتفاقمه، فحصلت بذلك على صفة “مجرم اقتصاد”.
بعد أن اجتاحت جائحةُ الكورونا العالمَ في ربيع 2020م، وبدأت الإغلاقات الاقتصادية، باشرت الخزانة الأمريكية، والبنك الفدرالي الأمريكي، ومعهما الاتحاد الأوربي وبنكه المركزي، بضخّ تريليونات الدولارات إلى الأسواق بهدف تحفيزها، ومنعها من الركود، وتخفيف آزمة البطالة، وهو إجراء لا بد منه في هذه الحالات، إلا أن الضخَّ كان ضخما كما يبدو، إذ ارتفعت الكتلة النقدية في أمريكا وحدها من 1 تريليون دولار إلى 9 تريليون دولار، فارتفع معها حجم الطلب، الذي بدوره دفع أسعار السلع والخدمات إلى الارتفاع السريع، وجاء انقطاع سلاسل الإمدادات، وقلة العرض، متزامنا مع هذا الحجم الكبير من الطلب، فدبَّ الخلل في السوق، وظهر على شكل تضخم ثلاثي هيكلي مزمن، تضخم كلفة، وتضخم طلب، وتضخم سعر الصرف.
أصرَّ جيروم بأول، رئيس البنك الفدرالي الأمريكي، ومعه أصرَّت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوربي، على اعتبار التضخم الحاصل في حينه، تضخمَ طلبٍ سرعان ما يهدأ بعد استقرار السوق، فلم يتخذا أية إجراءات حياله، لمنع ارتفاعه، وهو سوء تقدير شنيع للوضع من قِبَلِهما، دفعت البشريةُ ثمنَه بالنفيس من ثروتها، إذ تبيّن، بمرور الزمن، أن التضخم هيكلي مزمن، وأنهما أساءا إدارة الموقف بشكل كبير، ولم يتحرّكا لكبح جماح التضخم، إلا بعد فوات الأوان، إذ وصل التضخم أعتاب الـ(10%) في أمريكا، وعبرها في أوربا، فتحرك بأول ليبدأ رفع سعر الفائدة في آذار 2022م، ولحقته لاغارد رافعة سعر الفائدة في تموز من نفس العام.
ومهما كانت الأسباب التي دفعت الثنائي “بأول-لاغارد” إلى تأخير إجراءات كبح جماح التضخم، إلا أن المثلبَة الكبرى التي اتّصفا بها هي سوء تقديرهما لعمق التضخم وهيكليته، فقد كان من المفروض أن يُقدِّرا نتائج مبالغتهما في ضخّ الأموال إلى الأسواق، وآثارها التضخمية على الاقتصاد، ويُعِدَّا خطّةً متّزنة لاستقرار السوق، بالتزامن مع الارتفاع التدريجي لمعدلات التضخم، وهو ما كان سيخفّف الكثيرَ من الأعباء التي تسبَّبا بوقوعها على اقتصادات العالم.
فالتضخم يشبه السرطان كثيرا، فحينما يَدِبُّ السرطانُ في البدن، ويَتِمُّ تشخيصُه والتدخّلُ في إنهائه مبكّرا، يكون علاجه سهلا، وبقدرٍ يسيرٍ من الأدوية، وفترةِ علاج أقصر، مع مناعةٍ بدنية عالية، بينما لو تمَّ تشخيصُه والتدخّلُ لإنهائه متأخّرا، فسوف يكون علاجه صعبا، وبكميات كبيرة من الأدوية، وبفترة علاج أطول، ناهيك عن أن البدن منهَك، وفاقد للمناعة.. وهكذا فعل هذا الثنائي “بأول-لاغارد” بالعالم، فقد تأخّرا كثيرا جدا، حتى استفحل سرطان التضخم، وأصبح العلاج صعبا، ويستلزم وقتا طويلا، ناهيك عن اقتصاد منهَك، يشرف على انهيارٍ مُدَوٍّ.
أدخلَ هذا الثنائي اقتصادهما بين مِطرَقَةِ التضخم وسَنْدانِ انهيارِ الأسواق، بسبب التأخّرِ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لكبح جماح التضخم من جهة، والمُضاربةِ لِجَنْيِ الأرباح في الأسواق والبورصات، وهي توظيفٌ للنقد خارج العملية التنموية، وعقودُ بيعٍ صوريةٍ، وعقودُ غَرَرٍ، وهي معاملاتٌ رِبويّةٌ تَكسِرُ ظهرَ الاقتصاد العالمي، فحينما يضطرُّ البنك الفدرالي، ومعه المركزي الأوربي، إلى رفع سعر الفائدة، لتقليل الطلب وخفض التضخم، فإن رؤوسَ الأموال المستثمَرة في الأسواق والبورصات ستخرج منها، وتتّجه للاستثمار في سعر الفائدة، وهذا يعني خسائر فادحة في مؤشرات الأسواق، بل وحتى انهيارها، لذلك لا يستطيع البنكان المركزيان من رفع سعر الفائدة بالقدر اللازم لتخفيض التضخم، فتكون جرعةُ العلاج غيرَ كافيةٍ، بسبب قلة مناعة البدن، أقصدُ هشاشةَ الاقتصاد العالمي، وهكذا أوقعَ الثنائي اقتصادَهما في مأزق حرج، بين مِطرَقة التضخم الذي يعاند في الانخفاض ببطء، وسَندان انهيارِ الأسواق الذي يهدد الاقتصاد العالمي.
وسوف تبقى هذه الأزمة مُستمرّةً، بل ومُتَّجِهةً إلى التّفاقم، ليس بسبب ما اقترفَهُ الثنائي “بأول-لاغارد” من سوء تقديرٍ للموقف وتخبُّطٍ في الإجراءات فحسب، بل بسبب هشاشةِ البنية الاقتصادية العالمية، وتوظيفِها لِكَمٍّ هائلٍ من الأموال في المُضاربة لِجَنْيِ الأرباح السريعة خارج العملية التنموية والإنتاج، وهو ما نهى عنه الشَّارِعُ جلَّ جلالُه، واعتبره ربًا محضًا، وحرّم ممارستَه.
ولعل هذه الأزمة تكون فرصةً مناسبةً لطرح بديلٍ اقتصاديٍّ، يُنظّم الأسواق، ويُوظِّف المال في الإنتاج، ويُؤسِّس لتنميةٍ مستَدامةٍ، خاليةٍ من الرِّبا، والسُّحْتِ، وأكلِ أموالِ الناس بالباطلِ.