علي المدن يكتب|في البحث عن دعوى الطائفية الممنهجة للدولة العراقية
عراقيون/مقالات رأي
في غضون سنوات عديدة أعدت التفكير في قضية طائفية الدولة العراقية عدة مرات، وفي كل مرة اصل إلى نتائج مختلف حول الموضوع. كانت النقاشات مع ثلة من المتابعين الاذكياء لهذه القضية هي الحقل الأكثر ثراء في فتح ذهني على أمور كثيرة لم اكن منتبها لها أول وهلة.
يقال إن ثمة عشرات الكتب درست هذه القضية وأشبعتها بحثا وتمحيصا!!! ليس هذا ما أعرفه!!!، الذي أعرفه أن معظم موجود كتابات صحفية، أو دعائية كتبها دينيون، وباستثناء كتاب العلوي الذي أرسى هذه الفكرة، وهو كتاب يقوم على استنتاجات عجولة، فإن أغلب ما موجود لا يمكن اعتباره بحثا حقيقيا.
قسم كبير من الأدلة التي يستند لها البعض هي تصريحات بعض المسؤولين القدماء في الدولة العراقية (من العهد الملكي وما بعده) وما تحمله من تذمر وشكوى من وجود تمييز أو عدم تكافؤ الفرص لهم مع غيرهم في مجال الوظائف أو المشاركة في قرارات الدولة وإداراتها، ولكن هذا كلام عام ومجمل لا يكفي لإثبات سياسة ممنهجة في الموضوع.
هناك ملاحظة واضحة وهي وجود هيمنة لفاعل سياسي على الدولة من طائفة واحدة، ولكن هل يعني هذا وجود سياسة طائفية ممنهجة للدولة قادت إلى ذلك؟ أو أن هذه الهيمنة مرتبطة بعوامل أخرى؟ الأرقام لوحدها لا تكفي لفهم الظواهر بل لابد لكل فرضية من “أدلة أخرى” تفسير تلك الفرضية وتثبتها. يمكن الاستنتاج من مظاهرة عمالية، يشارك فيها أغلبية من الصلعان أو السود مثلا، يطالبون برفع أجورهم أن المظاهرة فيها أغلبية من تلك الفئة، ولكن لا يمكن تفسير تلك المظاهرة بأن هناك سياسة تمييزية ضد العمال لانهم صلعان أو سود !!
أيضا التعصب الديني أو الإزدراء أو التحقير موضوع آخر ولا يعني سياسة تمييزية على اسس طائفية. في العراق يوجود دائما فئات تتعصب دينيا أو تزدري الاخرين مناطقياً أو تحتقرهم على أساس خلفياتهم الاجتماعية (احتقار بعض المهن، أو احتقار اهل المدينة لأهل الريف أو أهل البادية للحضر أو سكان الأهوار … الخ)، ولكن هذا كله لا علاقة له ابدا بالسياسات الطائفية الممنهجة للدولة.
يتم في العادة تجاهل أمور أخرى موجودة في العراق وتؤثر في الهيمنة داخل العمل السياسي كالمحاباة على أسس العصبيات القرابية أو المناطقية أو الثقافية أو الحزبية أو الاقطاعية أو التخادم المصلحي. وهذه كلها كانت عاملة وفاعلة في الدولة العراقية قديما وحديثا؛ لذا يصعب تجاوزها في فهم المسألة الطائفية داخل الدولة العراقية.
السؤال المهم هنا لمن يدعي قدم ورسوخ السياسات الطائفية الممنهجة في الدولة العراقية: هل ثمة وثائق حاسمة تؤكد هذه السياسات كمبدأ (وثائق في أدبيات الأحزاب أو في دستور الدولة قبل دستور 2003 الذي نص على فكرة “المكونات” ودعا الى “التوازن” في حضورها داخل الدولة)؟ وإن لم تكن هناك وثائق من هذا النوع فهل هناك “خطاب” سياسي صريح في كلمات وخطب سياسي الدولة العراقية كما وجدناه فيها عند الكثير من السياسيين بعد 2003؟ وإذا لم تكن هذه ايضا موجودة فهلهناك “ممارسة” من هذا النوع “غير قابلة للتفسير بالعوامل الاخرى” التي أشرنا اليها قبل قليل (المحاباة والعصبيات القربية والمناطقية والحزبية … إلخ)؟ وهل يمكن فصل تلك الممارسات عن سياقاتها الخاصة بتكوين النخب الادارية والعسكرية في الدولة العراقية منذ نشأتها وعلاقتها بالدولة العثمانية (علما أن فكرة طائفية الدولة العثمانية ليست متيسرة الفهم دون استيعاب العلاقات العشائرية وعصبياتها في عموم مناطق العراق).
باستثناء بعض الشكاوى والتذمر من وجود تمييز بحق بعض فئات الشعب العراقي، تلك الشكاوى المبثوثة في أكثر من مصدر على لسان بعض السياسيين الشيعة، واغلبهم يفكرون في اطار ديني، فإن فكرة السياسات طائفية الممنهجة للدولة العراقية لم يكن لها وجود في خطابات اهم سياسيي العراق من الشيعة (الشيخ علي الشرقي، الجمالي، محمد الصدر، زعماء حزب الدعوة كعبدالصاحب دخيل، عارف البصري، محمد هادي السبيتي، وحتى محمد باقر الصدر) إنما كانت دعوة الجميع الى مشاركة سياسية وادارية اوسع، ونقد الاحتكارية الحزبية دون ربطها بالسياسات الطائفية الممنهجة للدولة.
لم يعدْ تفسير مشكلة الحكم في العراق بانه طائفية ممنهجة للدولة العراقية الا بعد عام 1979 حين تم تفكيك حزب الدعوة في الداخل واضطرت بعض نخبه للهجرة الى المنافي، فبدأ التفكير بالمشكلة أنها طائفية في الأساس وان حلها يكون بالتوازن الطائفي!! وهو ما حدث في خطاب المعارضة الاسلامية ووجد التعبير عنه في النظام السياسي ما بعد التاسع من نيسان عام 2003.
ومهما يقال عن تلك السياسات الطائفية الممنهجة فإن من الواجب الالتفات الى مؤشر مهم في فهم جهد الدولة العراقية في كبت اي خطاب طائفي قبل 2003 وكيف انها نجحت نسبيا في ترسيخ دولة موحدة وقوية فيها خدمات وبنى تحتية وتعليم وصحة وغير ذلك تغطي عموم العراق وممنوحة للعراقيين جميعا.