سعد سعيد الديوه جي يكتب|الخلافة الإسلامية بين المثالية والواقعية (الجزء الثاني)

عراقيون/مقالات رأي
إن مسألة تجميع المسلمين بقومياتهم المختلفة وتنوعهم المذهبي تحت راية سياسية – دينية واحدة بإسم الخلافة وغيرها صار أمراً مستحيلاً وهم يعيشون في جمهوريات وممالك وإمارات تطغو عليها الخلافات أكثر من العلاقات الطيبة، ويمكن الإستعاضة عنها بقيام إتحادات إقتصادية وأحلاف تعمل على توثيق العلاقات، تضمن خصوصية كل بلد مثل الإتحاد الأوروبي .

لقد أثار الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم”، عام 1925م، نقاطاً عديدة حول المفهوم الديني المطلق لمصطلح الخلافة، مما أثار حوله زوبعة كبيرة من علماء الأزهر أدت الى طرده منه، فقال بأن “اختيار ابو بكر (رض) للقب الخليفة على رأس كيان جديد يريد ان يجمعه من أعاصير الفتن في قوم حديثي العهد بالإسلام وفيهم عصبية البداوة وجاهلية الشرك، فهذا اللقب يكبح جماحهم ويعمل على وحدتهم أكثر من أي لقب آخر”، ولكنه يرجع فيقول عن استمرارية اللقب “ان لقب خليفة رسول الله كان سبباً من أسباب الخطأ الذي تسرب الى عامة المسلمين فخيل اليهم ان الخلافة مركز ديني”، وهذا الكلام غير صحيح ولا يناسب المرحلة التي أعقبت وفاة الرسول (ص) وقيام الخلافة الراشدة آنذاك وقد تناسب العصور التي تلت هذه المرحلة، ويضيف عبد الرازق “بأنه كان من مصلحة السلاطين ان يروجوا ذلك الخطأ بين الناس”، بينما مشى آخرون غير هذا الطريق من كبار المفكرين مثل ابن خلدون (ت 1406م) الذي قال عن الخلافة “هي في الحقيقة خلافة صاحب الشرع الرسول (ص) في حراسة الدين وسياسة الدنيا”، ويؤكد بأن الخليفة يجب ان يكون قرشياً لان العرب لا تقاد الا بقرشي وهو رأي شاذ وغريب، فمعظم السلاطين في الإمارات الشبه مستقلة كانوا من غير العرب كما أوردنا ذلك، وكانوا يأخذون سلطنهم من خلافة شكلية الى أن جاء العثمانيون فنقلوا الخلافة للأتراك.
وعلى النقيض من ذلك فقد تولى الشيخ تقي الدين النبهاني (ت1977) وهو يمثل تياراً واسعاً بين المسلمين بأفكاره المتزمتة حول الخلافة، وهو زعيم حزب التحرير الإسلامي الذي حصر مفهوم مستقبل الإسلام كله بالخلافة، ويجعل من الخليفة المفترض شخصياً واجب الطاعة كالأنبياء والرسل، ناسياً كل المتغيرات التاريخية والجغرافية بين اوساط المسلمين فيقول “اذا تبنى رئيس الدولة – الخليفة – أي رأي، كان الرأي الذي تبناه هو وحده القانون ووجب على جميع الرعية حينئذ ترك العمل بآرائهم”، وهذه دعوة للدكتاتورية المبطنة تحت غطاء ديني وإهمال نظام الشورى الذي أكد عليه القرآن وترك للمسلمين تحديد أطره، وجاء في سيرة الرسول (ص) “ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله” الترمذي، وأن الطاعة في المفهوم الإسلامي هي لحفظ النظام والشرع، فالرسول (ص) يقول “اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبةٌ، البخاري 7042″، فالطاعة في كل مفاصل الحياة والذي يمكن تسميتها – احترام القانون – هي أمر بديهي في أي نظام ناجح، وليس الأمر مقتصداً على النظام الإسلامي.
وهذا نموذج للتشدد في مفهوم الخلافة على نسق الماضي البعيد وعدم إعطائها بعداً عصرياً يتناسب ما وصل إليه المسلمون في إنتشارهم في كل القارات ودخول أقوام كثيرة تحت لواء الإسلام.

فالدولة الإسلامية (معظم سكانها من المسلمين) دولة بشرية وليست إلهية كما يقول الشيخ وهو يناقض قوله السابق، فيقول “فيكون قيامه (ص) بالحكم لا يقتضي إتصال بالعصمة”، وهو يخلط هنا بين العصمة الدينية المطلقة، والرأي البشري للرسول (ص) في بعض الأمور الدنيوية، (أنتم أعلم بأمور دنياكم/ مسلم)، لا يدخل في باب العصمة من قريب أو بعيد (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴿١١٠﴾ الكهف).

ويستمر النبهاني في خطه الثابت فيقول بأن السلطان الذي تملكه الأمة بأن تقيم عليها رجلاً واحداً لينقذ شرع الله، فتبايعه على الكتاب والسنة بيعة رضا وإختيار منه ومنها”، ثم يعقب “هذا هو الحكم في الإسلام”، وكأنما دولة الإسلام قرية من عدة بيوت وسط البوادي تعتاش من رعي الغنم تبايع شخصاً فتستقيم الأمور كلها.
ثم يعقب “ان جميع أفكار الإسلام مغايرة لأفكار الديمقراطية وهي مغايرة للإمبراطورية، وهي حكم متميز عن اي نظام …”، مثل هذه الأقوال المشوشة وغيرها دفعت بكثير من الشباب المسلم لعزل أنفسهم عن العالم والسير نحو التطرف، والسعي الى هدف “الخلافة” في إندفاع عاطفي، ويعتقدون أن سبب تأخر المسلمين يعود لغياب الخلافة ولا غير، أي خلافة “الرجل الواحد”، مهما كانت آراؤه صحيحة أم خاطئة.

وبهذه الخطوط العريضة لا نلمس الفرق بين البيعة والإختيار الديمقراطي، وما هي آلية تسليم زمام الأمور لرجل واحد لينقذ شرع الله، والعالم يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم اقتصادياً ومالياً وتجارياً، وننتظر الحل من رجل واحد بإسم البيعة!، هذا علماً ان العلماء والفقهاء اعتبروا الإمامة، التي قصدوا بها الخلافة وهي غير ذلك، من الفروض الكفائية، والفرض الكفائي هو ان الوجوب فيه يقع على الجماعة وليس على الفرد، فإذا قام به البعض سقط وجوبه عن الآخر، وقد بين الماوردي (ت 450هـ/1058م)، بأن الخلافة في كتابه الشهير (الأحكام السلطانية والولايات الدينية)، بأنها لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع.

إن حماية الدين واجب في المفاصل الاجتماعية كلها وتكون بالنصيحة والدعوة بالكلمة الطيبة، وأن يكون الذين يحافظون على القيم الدينية قدوات للغير، لا برفع الشعارات بل بالعمل الجاد، أما حماية الدنيا (سياسة البلد في كل شيء والدفاع عنه)، فهي مهمة معقدة في أيامنا هذه ويدخل من ضمنها التخطيط للمستقبل وتجاوز أخطاء الماضي، ولا يمكن ان يضطلع بها شخصٌ واحدٌ مهما كان لقبه، خليفة أو ملكاً او رئيساً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *