سعد سعيد الديوه جي يكتب | الخلافة الإسلامية بين المثالية والواقعية (الجزء الأول)
عراقيون/مقالات رأي
يقترن مصطلح “الخلافة” في الأدبيات الإسلامية بنوع من القدسية والمثالية تفوق واقعها التاريخي الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً، وصارت إصطلاحاً وبعداً مثالياً وليس واقعياً، له تأثير سحري على معظم المسلمين، ودخلت في أدبيات واسعة، وفي سجالات دينية، بعيداً عن الواقعية إلا في القليل من الأدبيات ككتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي (ت 911هـ)، وكتاب الماوردي (ت 405هـ)، في الأحكام السلطانية، والذي قال فيه بأن “ما استل سيف في الإسلام كالسيف من اجل الخلافة”.
لقد إرتبطت فكرة الخلافة في كل الأدبيات الإسلامية بوجود شخص واحد يكون قادراً على القيام بالوظائف الإدارية والقضائية والعسكرية، يتبع سلالة معينة، مما حشر هذا الفكر وتطبيقه في حيز ضيق كان ذا نتائج وخيمة في معظم الاحيان على مسيرة الحكم في الدولة الإسلامية.
وهذا الكلام ليس تجريحاً بمفهوم الخلافة ولا نقصاناً بفكرتها وحاجة المسلمين لها، ولكنها دعوة لعدم الإلتفاف العاطفي التاريخي حولها، والبحث عن بدائل تزيد من روابط المسلمين الذين يمتدون من إندونيسيا الى المغرب واواسط آسيا، وقد لا تكون بالضرورة سياسية.
بعد إلغاء آخر خلافة وهي العثمانية على يد كمال أتاتورك في (3 آذار 1924م)، ولم تظهر بين المسلمين من تحل محلها ولو بصورة رمزية، مما سبب خيبة أمل تاريخية لدى عامة المسلمين، ويميل البعض لجعل الخلافة مرادفة لمصطلح “الإمامة”، فالخلافة عامة، والإمامة توحي بالرئاسة الدينية دون الدنيوية، ولكن الصدمة كانت كبيرة جداً لأنه لم يخلو تاريخ المسلمين من هذا المنصب مطلقاً منذ وفاة الرسول (ص).
والذي حرك مشاعرنا للكتابة حول الموضوع ما لمسناه من إندفاع البعض وخصوصاً الشباب ذوي الثقافة الإسلامية السطحية والعاطفية خلف شعار داعش المضلل “خلافة على منهاج النبوة”، ولا زال هذا الشعار ساري المفعول عند كثير من الحركات الإسلامية في نظامهم الذي سموه “الخلافة”، على أنه المحور الذي يجب أن تكون عليه أهدافهم السياسية نحو تأسيس دولة إسلامية، والذي يتخذ من سيرة الرسول (ص) وخلفائه على ما يعتقدون منهجاً لأفكارهم وهو براء منهم ومن سيرتهم وأفكارهم المضطربة.
لقد إرتأينا الدخول الى تاريخ الخلافة ولو بصورة مقتضبة فكرياً وسياسياً لكي نقف بصورة واقعية على ما نحن فيه وما كانت عليه، وهل أن غيابها يشكل معضلة أمام وحدة المسلمين في الوقت الحاضر؟.
ظهر الإسلام في جزيرة العرب وأستطاع بلورة مجتمع ديني سياسي لم تعرفه العرب سابقاً، حيث كان الكيان القبلي طاغياً على العلاقات العامة ومع الكيانات حول الجزيرة، هذا اذا استثنينا الإمارات العربية التي كانت تحت السيادة الفارسية اي المناذرة في العراق، والتي كانت تحت السيادة البيزنطية اي الغساسنة في الشام، وبعض الإمارات في اليمن وساحل الخليج.
بعد هجرة الرسول (ص) الى المدينة تبلور هذا المجتمع وسط علاقات شائكة مع يهود المدينة والجزيرة وهم ذوو اصول عربية على الأغلب كما يقول إسرائيل ولفنسون في كتابه “اليهود في جزيرة العرب”، وكذلك مع المشركين في مكة والاطراف، وكانت المهمة شاقة جداً لإنشاء هذا النظام الجديد في بيئة لم تألفه من قبل، ولكن وجود الرسول (ص) على رأس هذا (المجتمع – الدولة) واستمرار الوحي، وقوة وشكيمة اصحاب الرسول (ص)، فقد نجحت تجربة الرسول (ص) وتكلل مسعاه بما يريد، وهو ما لم يحققه احد من الرسل والأنبياء قبله، ومع ذلك إرتدت بعض القبائل التي اتخذت من ركن دفع الزكاة حجة للإرتداد ثم قضى عليهم ابو بكر الصديق (رض) بحزم بالغ.
توفي الرسول (ص) عام (11هـ / 633م)، ولا زال الكيان الإسلامي طرياً وأمامه مهام شاقة طويلة تركها الرسول (ص) للمسلمين كي يستكملوها، ولم يستخلف أحداً بالإسم من بعده لأن الأمر دنيوياً يتغير بتبدل المكان والزمان على أن يكون الهدف الحفاظ على أمور المسلمين وتحقيق مصالحهم على ضوء ما تقتضيه الأمور وعلى ضوء الشريعة، إن كان الأمر له مساساً بالشريعة، بعد ان هيأ القرآن الكريم عقلية المسلمين لتقبل ما هو آت بقوله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿٣٠﴾ الزمر).
لقد شعر ابو بكر (رض) بما قد يتسرب لتفكير بعض المسلمين من مهمات حول تمثيل الرسول (ص) بعد وفاته، فقال بعد إختياره “أنا خليفة رسول الله ولست خليفة الله”، وهذا يعني ان العصمة الدينية التي كانت من صفات الرسول قد انتهت، وأن ما يتخذه من قرارات تخضع للإجتهاد وعلى ضوء الشريعة، ان كانت المسألة مدار البحث تتعلق بالأمور الشرعية.
بدأت مرحلة “الخلافة الراشدة”، بسقوط الظاهرة الوراثية المباشرة او القُرب من نسب الرسول (ص) في تولي مهام الأمة، وكان على رأس هذا المبدأ عمر بن الخطاب (رض)، وإن إنحصرت في الصحابة من قريش، لأن العرب كانوا يكنون لقريش مكانةً وإحتراماً كبيرين منذ أيام الجاهلية.
في هذه المرحلة توسع الكيان الجديد بشكل غير مسبوق ليُسقِط واحدة من اعتى الإمبراطوريات وهي الفارسية والتي يمتد عمرها لأكثر من ألف سنة، ويفتح معظم البلاد التي تحت حكم الروم البيزنطيين، ولكن الأوضاع داخل مركز الخلافة لم تستقر خصوصاً بعد استشهاد عمر (رض)، ومن بعده عثمان (رض)، وعلي (رض)، وازدادت الإختلافات حول تولي (الخلافة) ووصلت الى حد الإقتتال بين الفرقاء، بدون ان يُكفر فريق الآخر، إلا إذا استثنينا حركة الخوارج التي لم تأخذ بمبدأ الوراثة، رغم أن تشددهم وتكفيرهم لباقي الفرق وغلوهم الذي يتنافى مع شرائع الإسلام قد أبعدهم عن الساحة السياسية، وكان للتأثير القبلي والعشائري أثر بالغ في تأجيج الخلاف!.
بإنتهاء الخلافة الراشدة عام (40هـ)، إبتدأ التاريخ الإسلامي مرحلة جديدة بإعلان الخلافة الأموية التي شهدت تبلوراً للكيان الإسلامي على شكل دولة قوية واضحة المعالم ذات رقعة كبيرة في آسيا وأفريقيا تقدر بحوالي (11) مليون كم2، وصارت الخلافة محصورة ببني أمية وكانت خلافة قوية وصارمة، ولكن بنو هاشم من علويين وعباسيين أستمروا بالمطالبة بالخلافة من خلال ثورات وحركات كونهم أحق بها لأنهم أكثر قرباً بالنسب للرسول (ص) من بني أمية الذين أعتمدوا على العنصر العربي في تأسيس دولتهم، وكان الأعاجم سنداً قوياً لحركات العباسيين والعلويين بسبب كراهيتهم الشديدة للعرب، وبسبب ضياع المُلك منهم.
تمكن العباسيون أحفاد العباس عم الرسول (ص) من الإستيلاء على الحكم بعد أن تنكروا لأبناء عمومتهم من العلويين (أحفاد علي بن ابي طالب – رض) عام (132هـ)، ومنذ البداية أرادوا إعطاء الخلافة صبغة إلهية، فيقول الطبري بأن الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، أعلن في خطبة له أنه سلطان الله على الأرض، وكانت روح السلطة الجديدة تختلف عن سابقتها لدخول الروح الشعوبية في مفاصلها واعقابها بعد اقل قرن من الزمان ونشوء الإمارات شبه المستقلة تحت عباءة الخلافة الضعيفة في بغداد، والتي اعتمدت على التركيز على الجانب الديني الوراثي في أحقيتها بالخلافة والذي تستطيع نشره مهما كانت الأوضاع السياسية سيئة، وهذا ما حصل.
ففي خراسان وبلاد ما وراء النهر نشأت إمارات شبه مستقلة تأخذ شرعيتها من الخلافة العباسية هي: الطاهرية (204-395هـ)، والصفارية (254-298هـ)، والسامانية (204-395هـ)، والغزنوية (390-582هـ)، وفي خوارزم والأناضول نشأت الإمارة الغورية (390-692هـ)، والبويهيون – وهم شيعة زيدية على الأغلب (334-447هـ)، في فارس والعراق والذين بسطوا سيطرتهم على الخلافة نفسها، ثم جاء بعدهم السلاجقة وهم من السُنة الأتراك (429-590هـ)، والذين ازاحوا البويهيين، وفي الموصل وحلب وبلاد الجزيرة قامت إمارة الحمدانيين (291-381هـ)، والعقيليين (381-486هـ)، وفي الشام قامت الإمارات الطولونية (254-282هـ)، والأخشيدية (323-358هـ)، والزنكية في الموصل والشام (567-648هـ)، والتي تلتها الأيوبية في الشام ومصر (567-648هـ)، وفي كل هذه الإمارات لم تكن للخلافة إلا الإسم والغطاء الديني.
أما في الأندلس التي فتحها المسلمون في الخلافة الأموية عام (92هـ – 711م)، فقد تحولت الى خلافة بإعلان عبد الرحمن الناصر لدين الله الأموي نفسه خليفة عام (316هـ – 929م)، في قرطبة، بعد أن أكتفى الأمويين في الأندلس بلقب أمير وسلطان وابن خليفة الى أن أعلنها عبد الرحمن الناصر خلافة كما ذكرنا أعلاه، ويقول السير توماس أرنولد فإن عبد الرحمن الناصر نظر نظرة شفقة وإستخفاف الى الخليفة العباسي المقتدر، الذي قتل عام (320هـ/928م)، وقد استلم الخلافة وعمره ثلاثة عشر عاماً، وكانت الخلافة العباسية في أوج ضعفها، ولم تطل الخلافة الأموية في الأندلس حيث انتهت على يد الحاجب المنصور وإستيلائه على الحكم وقيام دول الطوائف.
وهكذا عاصرت الخلافة الأموية في الاندلس خلافة العباسيين في بغداد الى ان انتهت عام (422هـ / 1031م)، وانقسمت الى إمارات عديدة مع الشمال الأفريقي كالأدارسة والأغالبة والمرابطين والموحدين.
إن إعلان عبد الرحمن الناصر لدين الله للخلافة يكون بعمله هذا قد خرج عن الأصل النظري للمذهب السني في وجود خليفة واحد، والذي يؤكد على عدم تجزأة الخلافة كمؤسسة دينية ودنيوية، ووضعت المسألة في باب الأجتهاد من باب تقديم مصلحة عامة المسلمين، وهكذا اعترف الفقهاء بشرعية خليفتين يتوليان أمور المسلمين في وقت واحد، شرط ان تكون المسافة بينهما كبيرة جداً!!.
والحقيقة ان الذي دفع عبد الرحمن الناصر لإعلان الخلافة هو ضعف الدولة العباسية وإنحدار قوتها السياسية والعسكرية، ناهيك عن العداء التاريخي بين العباسيين والأمويين، فأمر أن يدعى بخليفة وأمير المؤمنين في صلاة الجماعة وعلى الوثائق الرسمية، وفي هذا الزمن عامل البويهيون الذين قدموا من شمال فارس وهم على الأغلب شيعة زيدية وبعدما سيطروا على دار الخلافة في بغداد العباسيين أحقر معاملة.
فبعد وفاة المقتدر بالله تم تنصيب أخوه القاهر بالله ليعقبه، ثم خُلع بعد حكم إرهابي دام سنتين، كما يقول سير أرنولد، ففقئت عيناه بإبرتين حاميتين وعُذب ليبوح بالمكان الذي خبأ فيه كنوزه، وأُلقي في السجن وترك هناك مدة إحدى عشر سنة، وبعد أن أُفرج عنه وُجد بحالة فقر مدقع يستجدي الصدقات في أحد الجوامع، ولم يكن وضع بقية الخلفاء أفضل، حتى أنه وجد في وقت واحد ثلاثة أمراء عباسيين تقلدوا منصب الخلافة وكلهم حُرموا بصرهم بقسوة وكلهم سلبوا ثروتهم، ويتكلون في عماهم على الإحسان وعلى الراتب الضئيل الذي تصدق به الحكام الفعليين وهم البويهيون، وهكذا أصبحت الخلافة خلال قرن كامل تابعة تماماً لأسرة وافدة مستقلة هي الأسرة البويهية.
أما خارج الخط السني فقد اعلن عبيد الله المهدي عن مهدويته وأسس الخلافة الفاطمية الإسماعيلية في شمال أفريقيا عام (297هـ)، ثم امتدت الى مصر والشام والحجاز، وكانت في حالة عداء دائم مع الخلافة العباسية، وباقي الفرق الشيعية خصوصاً الإثني عشرية الى ان انتهت على يد صلاح الدين الأيوبي عام (567هـ).
استمرت الخلافة العباسية في بغداد الى عام (656هـ/1258م)، حيث سقطت على يد المغول كما هو معلوم، ولكنها استمرت بشكلها الرمزي في مصر، والتي احتضنها المماليك الى عام (1517م)، بعد أن استطاع الظاهر بيبرس (1260-1277م) جلب أحد الهاربين من مجزرة المغول في بغداد الى القاهرة ونصبه خليفة في احتفال مهيب، عام (1261م)، وصار خليفة لا يملك من الخلافة إلا صورتها، ولكنه أعطى الشرعية لحكم المماليك لمدة قرنين ونصف.
وينقل سير أرنولد عن السيوطي، بأن الأمر وصل بأن يأتي الخليفة الى السلطان ليهنئه برأس الشهر، فأكثر ما يقع من السلطان في حقه أن ينزل من مرتبته ويجلسان معاً خارج المرتبة، ثم يقوم الخليفة ويغادر كأحد الناس ويجلس السلطان في دست مملكته.
بينما يقول المقريزي (ت1441م)، في كتابه تاريخ مصر، حسب ما ينقل عنه سير أرنولد بأن المماليك وضعوا رجلاً خليفة وأعطوه إسمه وألقابه التي تلائمه، لكنه لا يملك من السلطة شيئاً، حتى ولا حق إبداء رأيه، كما يقضي وقته بين الأمراء والموظفين الكبار يزورهم ليشكرهم على ولائهم ومسامراتهم التي يدعونه إليها.
وعندما هزم السلطان سليم الأول العثماني المماليك عام (1517هـ)، أعلن نهاية الخلافة العباسية في أصولها القرشية وأعلن نفسه سلطاناً وخليفة، بعد ان تبنى المذهب الحنفي الذي يجيز الخلافة بغير العربي!.
من هذا الإستعراض التاريخي نرى ان الخلافة لم تكن على خط مستقيم واحد منذ بدايتها على عهد الخلافة الراشدة فقد أعترى مفهومها الإلتباس مع الإمامة وأن بريقها الديني خفت أمام مظهرها السياسي.
لقد كان من أهم أسباب تفكك وضعف الخلافة على مر التاريخ ذلك العدد الكبير من الإمارات والإنقسامات المذهبية والقومية وذلك التوسع الجغرافي الثابت أحياناً والمتغير أحياناً أخرى.
وفي القراءات المعاصرة حول اختفاء الخلافة لم يبتعد معظمها عن النزعة العاطفية بعيداً عن الحقائق التاريخية التي ذكرنا بعضها أعلاه.
بالإضافة للسياق التاريخي او للجهل به يتعمد المتعاطفون مع التفسير الديني المطلق للخلافة، التغير الحديث في مفاهيم الدولة الوطنية – القومية، في كل العالم خصوصاً بعد الحربين العالميتين، وأن أسس اقامة الدول داخلياً وخارجياً هي علاقات معقدة لم يعرفها العالم سابقاً.