شوان زنكنة يكتب|المتعاملون بالمداينة، صورة من صور الاقتصاد المعياري في الإسلام
عراقيون/ مقالات رأي
وصفَ الرّسولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ نَمطًا من التُّجّارِ وأصحابِ رءوسِ الأموال، ممّن كانوا يكتفون بأرباح مُعامَلاتِهم التجارية الآجِلَةِ في تلك الحِقَبِ الزمنية، ولا يَزيدون عليها في حالِ الإعْسارِ، إذ كانوا يُنظِرون المُعْسِرَ، ولا يُربون في أموالهم، فتَجاوزَ اللهُ عن ذُنوبِهم، كما تَجاوَزُوا هُم عن المُطالبةِ بدِيونِهم، وأنْظرُوا المُعْسِرين، وتَعفَّفُوا عن الزِّيادةِ.
وهذه صورةٌ حيةٌ من صور الاقتصادِ المِعْيارِيِّ في الإسلامِ (الاقتصادِ المَقْرونِ والمُنضَبِطِ بالقِيَمِ والمَبادئِ الإنسانيّةِ)، والتي قدَّمَها الرّسولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم لِكلِّ الأجيالِ، في جملةِ الرّواياتِ المَأثورَةِ التّاليةِ:
* صحيح مسلم
1560 (26) عن حُذَيْفَةَ، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: تَذَكَّرْ. قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ”. قَالَ: “قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ “.
1560 (27) اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعْسُورِ. فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ.
1560 (28) عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا مَاتَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟ قَالَ: فَإِمَّا ذَكَرَ، وَإِمَّا ذُكِّرَ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَكُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ، أَوْ فِي النَّقْدِ، فَغُفِرَ لَهُ. فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1560 (29) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ، آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1561 (30) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ “. قَالَ: “قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ”.
1562 (31) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا. فَلَقِيَ اللَّهَ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ “.
مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم بشرح النووي، ط2، بيروت: مؤسسة قرطبة، 1994م، ج10، 320-324
* صحيح البخاري
2391 عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَوَّزُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ. فَغُفِرَ لَهُ “. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، الرياض: دار طيبة، 2005م، ج6، 200
2078 عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كانَ تاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتيانِهِ: تَجاوَزُوا عَنهُ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا. فَتَجاوَزَ اللهُ عَنهُ”.
أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، الرياض: دار طيبة، 2005م، ج5، 533
3451 قَالَ حُذَيْفَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: “إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ، قِيلَ لَهُ: انْظُرْ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ، فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ. فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ”.
أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، القاهرة: المطبعة السلفية، 2015م، ج6، 494
* مسند أحمد
17064 عَنْ حُذَيْفَةَ، “أَنَّ رَجُلًا أَتَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَرْجُوكَ بِهَا. فَقَالَهَا لَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: أَيْ رَبِّ، كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي فَضْلًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي أَتَجَاوُزُ عَنْهُ، وَكُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِر، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي. فَغُفِرَ لَهُ”. فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1999م، ج28، 296
واضحٌ من النصوصِ أعلاه، أنّه هناك تاجرٌ أنعمَ اللهُ عليه بالمالِ الوفيرِ، فاستخدمَه في تجارته التي كانت على شكل ديونٍ وبُيوعٍ آجِلَةٍ، وكان يُنظِرُ المُعْسِرَ ويَتساهَلُ مع المُوسِرِ، فَيكتَفي بالرِّبحِ الذي يَجْنِيهِ من هذه المُعاملاتِ الآجِلَةِ، ويَتجَنَّبُ الرِّبا المُحَرَّمَ الناتِجَ عن عدمِ إنظَارِ المُعْسِرِ، وجدولةِ الدَّينِ، فاسْتَحَقَّ العفوَ عن ذنوبِهِ، والفوزَ بالجنّةِ.
وتُمثِّلُ هذه الصورةُ، لكلِّ الأجيالِ البشريّةِ، شكلًا من أشكالِ نشاطٍ اقتصاديٍّ يأخُذُ بِنَظرِ الاعتبارِ القِيَمَ الإنسانيةَ، فيَتجنّبُ عقودَ الاسْتِغلالِ والإذْعانِ، ويُراعِي مصالحَ البشرِ، في القُدرة على دَيمومةِ الحياةِ الكريمةِ، بشكلٍ مُتوازِنٍ، وَفْقَ المَسارِ الرّبانِيِّ: “لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ”. (البقرة: 279)
وَوَردَتْ هذه الرواياتُ المَأثُورَةُ بالتَّزامُنِ مع نُزولِ الآياتِ: “يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهُ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ * فإنْ لَمْ تَفعَلُوا فأذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ، وإنْ تُبْتُم فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ * وإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ، وأنْ تَصَدَّقُوا خَيرٌ لَكُم إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ”. (البقرة 278-280)، وذلك للحَثِّ على الالتِزَامِ بها، وتَحقيقِ الصّياغَةِ العَمليّةِ للاقتصادِ المِعْياريِّ، بالمَنظورِ الإسلامِيِّ.