سعد سعيد الديوه جي يكتب| أسطورة دمار بابل وبرجها في الكتاب المقدس
عراقيون/ مقالات رأي
تعتبر بابل وبرجها من عجائب الدنيا السبع بما يحتويه من جنائن معلقة وإرتفاع هائل لا مثيل له حسب تصورات الكتاب المقدس، والحقيقة الدامغة بأن هذا البرج ليس إلا أُسطورة جاءت من تراكم مجموعة من الأساطير التوراتية (العهد القديم) دخلت في التاريخ شأنها شأن كثير من الأساطير والخرافات التي دخلت في الكتاب المقدس تحت وطأة السبي والشتات والرغبة في الإنتقام.
وبرج بابل لم يرد ذكره إلا مرة واحدة في التوراة المتداولة، وهي مجموعة من الأسفار تبلغ (39) سفراً.
ويدعي اليهود بأن موسى (ع) هو كاتب الأسفار الرئيسية الخمسة الأولى وهي “التكوين، الخروج، اللاويين، والعُدد، والتثنية”، وهي التي تغطي الفترة من بدأ الخليقة الى رجوع بني إسرائيل الى مصر على عهد يوسف (ع).
ولكن أي نظرة عابرة بسيطة تلغي هذه النظرية، لأن فيها وصف لموت موسى (ع) ودفنه.
حيث يرد فيها “ولا يعرف أحد قبره – موسى – الى يومنا هذا، 6، 34، التثنية”، وكذلك جاء في نفس السفر “ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجهاً الى وجه، 10، 34، التثنية”.
أما من الناحية التاريخية البحتة فإن زمن خروج موسى (ع) من مصر كان بحدود (1290ق.م)، فإن اللغة المصرية كانت تُكتب بالهيروغليفية، واللهجات العربية الجزرية (السامية) بالخط المسماري، ولا توجد نصوص توراتية بهاتين اللغتين تعود لتلك الفترة.
وتؤكد معظم الدراسات الجادة بأن زمن كتابة التوراة وجمعها يعود الى القرن الخامس قبل الميلاد على الأغلب من قبل الكاهن عزرا، وقد كُتب على ضفاف الفرات في بابل بعد السبي البابلي، وكانت باللغة الآرامية مع شروح بالعبرية، وهي اللهجة السامية المتداولة بين بني إسرائيل، وأما أقدم النصوص المتداولة فإنها مكتوبة باليونانية.
حيث إخترع الكهنة ما يسمى بالإسطورة السبعينية، وهي ان (70) حبراً ترجموا النصوص العبرية الى اليونانية كُلاً على حدة فخرجت الترجمة متطابقة بعد (70) يوماً، وكان ذلك في أيام بطليموس الثاني (285-247ق.م)، على ما يدعون في مدينة الإسكندرية.
ويلخص المسألة عالم اللاهوت الشهير سبينوزا (1632-1677م)، وهو من أصل يهودي، في كتابه الشهير “بين السياسة واللاهوت”، بقوله “والواقع أننا نجهل تماماً مؤلفي هذه الأسفار بالإضافة الى أنها كُتبت خلال فترة إمتدت لأكثر من ألف عام، ولا يعلم أحد مطلقاً لغتها الأصلية أو حتى مكان كتابتها”.
ويضيف سبينوزا، بان الأمة العبرية فقدت كل ما يشرف الأمة ويزينها، وأن هذا الجهل باللغة وبمصادر الأسفار الأصلية قد دفع الاحبار اللاحقين الى أن يختلقوا شروحاً كثيرة تؤكد ما ذهبنا إليه، بالإضافة لإفتقارهم لمنهج واحد لتفسير الكتاب، فيما دفعهم الى إختلاق أي شيء حسب هواهم، وإختراع شتى القصص والأساطير ووضعها في إطار تنبؤي لإعطاء التوراة مصداقية لدى أتباعها.
ولكي نلم بالموضوع من جوانبه فيجب أن نقف شيء من التاريخ، فمن المعلوم أن مملكة سليمان (ع) إنقسمت بعد وفاته (931ق.م)، الى قسمين، إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة، ويهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، والتي يقع فيها هيكل سليمان، وهو قدس الأقداس لدى اليهود وبؤرة العقد.
إنتهت دولة إسرائيل على يد الآشوريين عام (721ق.م)، وتم سبي معظم سكانها الى منطقة نينوى شمال العراق الحالى، أما يهوذا فقد تم غزوها على مرحلتين أيام الدولة البابلية وفي عهد ملكها نبوخذ نصر (604-562ق.م).
إمتنعت يهوذا عن دفع الجزية للبابليين بتحريض من مصر (القصبة المرضوضة)، رغم نصائح النبي إرميا بالخضوع لشروط البابليين، فجرد نبوخذ نصر حملة تأديبية فسقطت أورشليم عام (597ق.م)، وتم نقل معظم سكانها وصناعها ومعهم ملكهم “يهوياقين” الى بابل ونصبوا على أورشليم ملكاً إسمه صدقيا والذي حرضه المصريون على التمرد مرة ثانية فسقطت أورشليم ثانيةً عام (586ق.م)، وكان غضب الملك البابلي عظيماً فدمر أورشليم وأحرق الهيكل وسلب خزائن المدينة وقبض على الملك صدقيا وأولاده وقتلهم جميعاً، وكان من ضمن الأسرى النبي حزقيال صاحب السفر المشهور، بنبوءة أخر الأيام المسماة بمعركة هرمجدون، في حين تم خطف النبي إرميا الى مصر.
لقد تركت هذه الاحداث وخصوصاً دمار الهيكل أثراً عظيماً على العقلية اليهودية التي صورت بابل على أنها مركز الشر والخطيئة منذ بدأ الخليقة، وأن معظم الأنبياء وضعوا نبوءات حول دمارها وزوال برجها العظيم.
وأول أسطورة تتعلق ببابل وبرجها المزعوم ترد في سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة وهو أمر بمنتهى الغرابة، لأن هذا السفر يغطي فترة زمنية منذ الخليقة حتى دخول بنو إسرائيل مصر في زمن يوسف (ع) كما ذكرنا، وهو على الأغلب منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد.
ويقول السفر بأنه بعد نجاة نوح (ع) وأهله من الطوفان “بأن الناس كانت لهم لغة واحدة ثم توجهوا شرقاً فبنوا مدينة بابل وبرجها، ونزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، فقال الرب إنما هم شعب واحد ولهم جميعاً لغة واحدة، ما هذا الذي عملوه إلا بداية ولن يصعب عليهم شيء مما ينوون أن يعملوه، فلننزل ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض، فشتتهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها فكفوا عن بناء المدينة، ولهذا سميت بابل، لأن الرب هناك بلبل لغة الناس، ومن هناك شتتهم الرب على وجه الأرض كلها، 5-9، 11، التكوين”.
والحقيقة أن كلمة بابل هي من المشتقات الكلدانية – الآرامية، (باب – إيل)، أي باب الآلهة وليس لها علاقة بعملية بلبلة الألسنة التي أخترعها العقل الإسرائيلي الذي شكلت عنده عقدتي السبي والشتات مسألة غاية في التعقيد في مجمل كتابة الأسفار كلها.
ولم يوضح لنا محررو هذا السفر سبب كراهية الرب وذلك النفس العدائي تجاه الناس ولماذا شعر الرب بالقرف عندما رأى الناس يتكلمون لغة واحدة؟.
إن هذه الفكرة قد حشرت بصورة متعمدة في السفر كمقدمة لكل ما سيقوله الكتاب المقدس عن بابل لاحقاً، وُضعت على شكل نبوءات أوحى بها “الرب” لأنبيائه وعليه فإن النبوءات حول مصير كُلاً من آشور ونينوى وبابل مسألة مركزية في أسفار الأنبياء، فمن المعلوم أن مملكة بابل سقطت على يد كورش الأخميني (537ق.م)، وأن دمار نينوى تم على يد البابليين والماذيين (612ق.م).
فإن مسألة الإنتقام صارت أمراً واقعاً لدى المسبيين، وصياغة هذه الأحداث على شكل نبوءات قد أُريد بها من قبل الأحبار والكهنة إعطاء مصداقية لما كتبوه لأتباعهم اللاحقين من بني إسرائيل.
ففي سفر أشعيا الذي عاصر سقوط السامرة، هنالك نبوءة وبالتفصيل الممل عن مصير بابل لأنها دمرت أورشليم والهيكل، علماً أن هذه الأحداث وقعت بعد قرن ونصف تقريباً من حياة أشعيا، وأنها كُتبت بإسمه لإعطائها صفة القدسية.
فيقول أشعيا “ها يوم الرب يجيء قاسياً بسخط وإتقاد وغضب، ليجعل الأرض خراباً …، أطفالهم يمزقون أمام أنظارهم وبيوتهم تُنهب، وتُغتصب نساؤهم، فإذا بابل زينة الممالك وفخر أمجاد الكلدانيين تصير كسدوم وعمورة عندما دمرها الرب فلا يسكنها أبداً ساكن، 9-19، 13، أشعيا”.
والحقيقة أن بابل لم تُدمر من قبل كورش الأخميني وإنما سكن فيها وأتخذ من إلهها مردوخ ومعبده إلهاً له ولأتباعه، فبابل ونتيجة إنحسار الفرات عنها هجرها سكانها ولم يكن فيها برج كما تخيله أنبياء العهد القديم.
ويضيف أشعيا بتوقع كل ألوان الإنتقام من بابل فيقول “وقال الرب القدير، أقوم عليهم وأستأصل من بابل الإسم والبقية الباقية والذرية والنسل، وأورثها للقنافذ وأجمعها مستنقعات للمياه وأكنسها بمكنسة الفناء، 22-23، 4، أشعيا”.
وهنا يجب ان نلاحظ في هذه الأسفار بأن الإنتقام من بابل وسكانها يأخذ أشكالاً عديدة مع إختفاء خصوصية برج بابل لأن هذه الأسفار لما كُتبت كان كاتبوها قد تيقنوا من عدم وجود هذا البرج العظيم.
لقد اخذت صيغ الإنتقام من بابل صيغاً جنسية، حيث جاء في التوراة “إنزلي وأقعدي على التراب، أيتها البكر يا إبنة بابل، أقعدي على الأرض بدل العرش، يا إبنة الكلدانيين، فلا أحد بعد اليوم يدعوك (المرهفة المغناج)، إنزعي ثيابك وشمري الثوب وأكشفي عن ساقيك …، لتنكشف عورتك أيتها الغارقة في الملذات …، سيأتي عليك الثكل والترمل …، هذا مصير الذين أغروك ومنذ صباك يتاجرون بك، 11-15، 47، أشعيا”.
وأما الأنبياء الذين كانوا في أورشليم أيام الغزو البابلي فلا يشيرون في أسفارهم المدعاة للبرج المزعوم بقدر تركيزهم على إيجاد تبريرات دينية لما أصاب الإسرائيليين من سبي وشتات وضياع الهيكل.
تقول التوراة على لسان النبي إرميا الذي أُصيب بمرض الكآبة والسوداوية والذي حذر كثيراً من نقض العهد مع البابليين “…، فأنت يا أرض إسرائيل زنيت مع عشاق كثيرين، ومع ذلك إرجعي إليّ، إرفعي عينيك الى الروابي وأنظري هل من مكان إلا وضاجعت فيه؟ قعدت لهم في جوانب الطرقات كالأعرابي في الأرض، ودنست الأرض بزناك وفجورك، 1-2، 3، إرميا”.
ويذهب النبي إرميا بعيداً في وصف المجتمع الإسرائيلي أثناء الغزو البابلي “كيف أسامحك يا أورشليم وبنوك تركوني وحلفوا بإله مزعوم، حين أشبعتهم زنوا، وفي بيوت الزواني صرفوا وقتهم، وصاروا أحصنة معلوفة سائبة، كل يصهل على أُم صاحبه …، 7-8، 5، إرميا”.
ويصف سفر إرميا ما حل بأورشليم وأهلها فيقول “كلت من الدموع عيناي وأحشائي إمتلأت مرارة، كبدي انسكبت على الأرض، الخراب بين شعبي، الاطفال أُغمي عليهم في ساحات المدينة …، من ينجيك ويعزيك يا عذراء بنت صهيون، خرابك كالبحر لا أحد له فمن ذا الذي سيشفيك؟ 11-13، 2، مراثي إرميا”.
وأما النبي حزقيال الذي سيق مع المسبيين الى بابل، فيضع اللوم على من يدعون النبوة ويضلون شعبهم فيقول “أنبياؤكم يا شعب إسرائيل، كالثعالب بين الخرائب، ما صعدوا يوماً لسد ثغرة في الجدار ولا بنوا جداراً لكم، حتى يدافعكم عنكم في القتال في يوم الرب، 4-5، 13، حزقيال”.
وفي سفر حزقيال شهادة دامغة بأن أورشليم ليست مدينة إسرائيلية ولذلك إستحقت العقاب على أيدي البابليين حيث يقول “يا أورشليم أصلك وفصلك من أرض الكنعانيين وأبوك أموري، وأمك حثية، يوم ولدت لا احد قطع سرتك، ولا غسلك بالماء لتنظيفك ولا ملحك بالملح، ولا لفك بالقماط، …، 3-6، 16، حزقيال”.
وفي سفر حزقيال يصل التشبيه الجنسي الى أوجه، مما يلقي ظلالاً قاتمة من الشك أن يكون هذا كلام أنبياء.
فهو يشبه السامرة وأورشليم بالأختين الزانيتين، فيقول عن اورشليم بعد أن يشبه السامرة بالمرأة التي ضاجعها الآشوريون في صباها وداعبوا نهود بكارتها وأفرغوا شهوتهم عليها بقوله “فجاء بنو بابل وأرتكبوا الفحشاء ونجسوها فتنجست بهم ثم عافتهم نفسها وأظهرت فواحشها وتعرت، فعافتها نفسي كما عافت نفسي أختها…، وعشقت رجالاً في شهوة الحمير والخيل، هكذا يا أهوليبة أشتقتِ الى فجور صباك، حيث داعب المصريون نهديك وثدييك الفتيين، 17-27، 23، حزقيال”.
وفي سفر حزقيال ولدت فكرة معركة (هرمجدون) الخرافية وهي نبوءة آخر الأزمان عندما ينتقم بنو إسرائيل من كل أعدائهم ويدعون وحوش البرية لشرب دمائهم وأكل لحومهم.
وقد ولدت هذه الخرافة في غمرة اليأس والقنوط، ثم خرجت من رحمها (فكرة المنقذ المنتظر)، والتي أثرت كثيراً في الفكرين المسيحي والإسلامي.
ومن الغريب أن تنتقل عقدة بابل الى أسفار العهد الجديد، وخصوصاً الى سفر يوحنا البطمي المملوء بالأحداث المروعة والأساطير الخيالية عن يوم الدينونة، الذي تكون فيه بابل رمزاً للشر، فقد جاء “ورأيت بعد ذلك ملاكاً آخر نازلاً من السماء، له سلطان عظيم، فأستنارت الأرض من بهائه، وصاح بأعلى صوته، سقطت، سقطت بابل العظيمة! صارت مسكناً للشياطين ومأوى لجميع الأرواح النجسة، 1-2، 18، رؤيا يوحنا”.
وفي مكان آخر يقول “عاملوها بمثل ما عاملتكم، وضاعفوا لها جزاء أعمالها، وضاعفوا المزج في الكأس التي مزجتها، عذبوها وأجعلوا حزنها على قدر ما تمجدت وتنعمت، 6-7، 18، رؤيا يوحنا”.
حقد مأخوذ من العهد القديم تأصل عند كتبة العهد الجديد وزاد عليه، فيقول يوحنا “وتناول ملاك جبار حجراً كحجر طاحون عظيمة ورماه في البحر وقال: هكذا ترمى بابل العظيمة بعنف ولن توجد من بعد أبداً، 21، 18، رؤيا يوحنا”، ثم يعقب “أفرجي أيتها السماء لخرابها”.
ويبقى السؤال، لماذا تأثر كُتاب العهد الجديد بما جاء في العهد القديم حول بابل، رغم أن بابل لم تحتك بأتباع المسيح (ع) ولم تسبيهم وتشتتهم، أسئلة تحتاج الى البحث والتمحيص.