وداعا للجيش في العراقي فاروق يوسف
كان إلغاء قانون التجنيد الإلزامي واحدا من أهم القرارات التاريخية التي اتخذت في العراق الجديد، وهو عراق ما بعد الاحتلال الأميركي. كانت الفكرة أن يتم تأسيس جيش جديد، لن يكون عقائديا مثل الجيش السابق، بل سيكون مخلصا لحرفته ومدربا عليها بطريقة محايدة. فكرة أن يكون الجيش محايدا هي فكرة مضللة في بلد، دُفع بطريقة احترافية إلى هاوية الفتنة، هناك حيث لا يمكنه أن يفلت من آثار الأمزجة المتضاربة التي تمسك بتاريخه وتصنع مصيره.
لقد رحب العراقيون بيوم لن يكون فيه أبناؤهم جنودا. وهو ما يكشف عن عقدة فاقمتها الحروب وكرستها المسيرات الجنائزية التي صنعت عصرا مأساويا، يودع فيه الآباء الأبناء من غير أمل في اللقاء. لم يعد فوج موسى الكاظم ليغري أحدا بالاحتفال بذكرى تأسيسه في السادس من يناير من كل عام. كان ذلك الحدث مناسبة لإنكار حقيقة أن الضابط جعفر العسكري وهو سني المذهب قد شرع بتأسيس الجيش العراقي متخذا من اسم أحد أئمة الشيعة عنوانا لأول أفواجه.
كان هناك عراق موحد، يجد في جيشه رمزا لوحدته الوطنية. ذلك الجيش لم يعد موجودا. لم يتبخر بسبب ما لحق به من هزائم، بل تم حله بقرار مسبق، مزدوج القصد. فهو قرار انتقامي، غير أنه صُمم من أجل حماية نظام الحكم الذي سيقيمه المحتل على أساس مبدأ المحاصصة. وهو نظام لا يصلح لإقامة جيش وطني. ولكن هل كان ذلك الجيش مذنبا في الحروب التي خاضها عبر سنوات حكم صدام حسين لكي يتم إقصاؤه بالطريقة التي اعتمدها بول بريمر، الذي عينته سلطة الاحتلال الأميركي عام 2003 بصلاحيات ملك؟
لا شيء يمت إلى الدولة بصلة يمكن أن يقوم في العراق في ظل الفوضى التي وضعها المحتل الأميركي برنامج عمل، وُضع في خدمة الطاقم السياسي الذي اختير بدقة لقيادة العراق في مرحلة انهيار الدولة فيه. كانت إزالة الجيش العراقي تمثل خطوة ضرورية لإنجاح البرنامج. وكما أثبتت الوقائع فإن البديل عن إنشاء جيش عراقي على أسس وطنية أن يتم إنشاء ميليشيا طائفية على غرار الحرس الثوري الإيراني، تكون مهمتها التصدي لأي محاولة لمقاومة النظام القائم. وهو نظام لا يثق في إمكانية استمراره، لا بسبب تدني شعبيته بل بسبب انسداد الآفاق أمامه، الأمر الذي تكشف عنه عزلته في المحيطين العالمي والإقليمي.
لقد أهدرت أموال كثيرة بذريعة تأسيس جيش عراقي بديل، اتضح في ما بعد أن الإرادة الوطنية كانت غائبة عن ذلك المشروع، لذلك لم يكن غريبا أن يتم الإعلان عن وجود عشرات الآلاف من الجنود الفضائيين (الغائبين) في صفوف ذلك الجيش. المؤسسة العسكرية، هي أكثر مؤسسات الدولة التي كانت ولا تزال قيد الإنشاء فسادا. ومن المؤكد أن ظاهرة الفساد قد كشفت عن وجهها القبيح من خلال الهزيمة المدوية التي تعرض لها الجيش العراقي يوم احتل تنظيم داعش ثاني مدن العراق من غير أن يواجه أي صعوبة تُذكر. يومها كتبت كلمة النهاية لفيلم هزلي عنوانه “الجيش العراقي”.
وإذا ما كان الأكراد يملكون ميليشيا اسمها بيشمركة وقد فرضوها على الدولة العراقية، كونها جيشا نظاميا، فإن الأحزاب الشيعية وهي التي تحكم العراق منذ أكثر من عشر سنوات سعت إلى أن تحذو حذو الأكراد في تأسيس ميليشيا شيعية، ظاهرها الدفاع عن المذهب وباطنها الولاء لإيران. من أجل أن يستكمل المشهد قبحه صار لزاما أن يقوم عرب العراق السنة بتشكيل فصيلهم الميليشياوي المسلح، لنقول يومها “وداعا للجيش العراقي”.