كيف يستثمر “داعش” الحرب الروسية – الأوكرانية
نشرت صحيفة اندبندنت البريطانية القسم العربي يوم الاثنين 14 مارس 2022 تقريراَ جاء فيه : وسط اتهامات متبادلة من طرفي الحرب الروسية – الأوكرانية باستغلال المتطرفين والمرتزقة والمقاتلين الأجانب في ذلك الصراع المتصاعد، أبدى تنظيم “داعش” الإرهابي وتنظيمات أخرى اهتماماً لافتاً بالحرب الدائرة في شرق أوروبا وخارج ما يسميه التنظيم “دار الإسلام”، بل وخصصت صحيفة “النبأ” الأسبوعية الناطقة باسم “داعش” إحدى مقالاتها الافتتاحية للحديث عن الحرب التي اندلعت أواخر فبراير (شباط) الماضي بوصفها “صليبية – صليبية”، متجاهلة أمراً أكثر أهمية بالنسبة إلى التنظيم مثل اغتيال زعيمه أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في غارة أميركية مطلع الشهر نفسه، فلم تعلن عن مقتله إلا قبل أيام قليلة.
ويتفق مراقبون على أن اندلاع الصراع المتنامي بين روسيا والغرب من شأنه إضعاف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، بحسب ما ورد في عدد من التقارير الدولية والإقليمية المعنية بمتابعة الظاهرة الإرهابية، إذ أظهر “داعش” شماتة واضحة في طرفي الحرب، واعتبر ذلك بمثابة “عقاب إلهي” و”سنة كونية”، وذروة انقسام للتحالف الدولي لهزيمة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة وجبهة استنزاف لروسيا التي تدخلت في سوريا عام 2015 ضد “داعش” وغيره من التنظيمات، من خلال الضربات الجوية المكثفة التي شهدت انخفاضاً ملحوظاً منذ بدء الحرب الأوكرانية، بحسب تقارير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
لكن قراءة تداعيات الحرب على اتجاهات التطرف والإرهاب جاءت متباينة بين من يرى أنها ستوفر ملاذاً آمناً جديداً وبؤرة إرهابية بدأت تتشكل في أوكرانيا، لا سيما من جانب المقاتلين الروس والشيشان الذين لديهم عداء تاريخي تجاه موسكو نتيجة حروبها في أفغانستان والشيشان وسوريا، وبين من يذهب إلى أن انشغال القوى الكبرى بالجبهة الأوكرانية سيعزز فرص صعود التنظيم في معاقله الأساس في سوريا والعراق والشرق الأوسط عموماً، لا سيما عقب إعلان “البيعة” لزعيم جديد للتنظيم وتنامي فرع التنظيم في أفغانستان المعروف باسم “ولاية خرسان”.
موقف “داعش” من الحرب
في المقابل، خصصت الصحيفة الناطقة باسم التنظيم مقالة افتتاحية للحديث عن الحرب وقدمت تفسيرين لنشوبها، إذ جاء الأول تفسيراً دينياً تقليدياً ينظر إلى الحرب كمصير حتمي وعقاب إلهي لا مفر منه، لكن المقالة التي جاءت بعنوان “حروب صليبية – صليبية” سرعان ما تداركت نفسها بتقديم تفسير واقعي للحرب باعتبارها انهياراً لنظام السلم الذي أسسه النظام الدولي الذي بني على أنقاض الحرب العالمية الأولى والثانية، وهي ليست مفاجئة بل “ترجمة عملية لحال التنافس المتصاعد بين أميركا وروسيا للسيطرة على دول أوروبا الشرقية، خصوصاً بعد سياسة الدعم والاحتواء التي اتبعتها أميركا تجاه تلك الدول وزادت أخيراً”، معتبراً أن مجريات الحرب الدائرة حالياً قد تتوسع لتدخل فيها دول أخرى أو تتوقف بسيطرة روسيا على أوكرانيا ووضع حكومة موالية لها، لكن في كل الأحوال ستكون مقدماً لحروب أخرى من هذا النوع.
وترى الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بالقاهرة تقى النجار أن تفسير التنظيم لأسباب نشوب الحرب “يعكس إدراك داعش لواقع النظام الدولي القائم والمتغيرات المرتبطة به، وسعيه إلى تفكيك أبعاد المشهد في ضوء رؤيته لذاته كفاعل ضمن الفاعلين بالنظام الدولي”.
وأضافت النجار أن “داعش” سعى إلى تقديم قراءته لتداعيات الحرب على النظام الدولي من خلال التنبؤ بتوسع نطاق الحرب، وكونها بداية لنمط جديد من الحروب التي يمكن أن تمتد إلى مختلف البلدان الأوروبية، وأن هناك “تبعات كبيرة لهذه الحرب” ستغير كثيراً قوانين “السلم والحرب في العالم” بحسب وصف التنظيم.
وعلى الرغم من دعوة التنظيم للمسلمين المقيمين في روسيا وأوكرانيا إلى عدم المشاركة في الحرب تحت راية البلدين، أو تأييد أوكرانيا والدول الغربية أو روسيا والمقاتلين الشيشان الذين يحاربون ضمن صفوف الأخيرة، تقول الباحثة المتخصصة في شؤون الجماعات الإرهابية في تصريح خاص، إن الحرب وفرت فرصة للتنظيم للزعم بصحة قناعاته الأيديولوجية وصوابية روايته التفسيرية لحتمية وقوع هذا النوع من الحروب والادعاء بأنه ما زال فاعلاً في النسق الدولي، فضلاً عن سعي التنظيم الذي يتبنى ما يسمى “فقه استغلال الأزمات” إلى استغلال انشغال القوى الدولية بالحرب في أوكرانيا من أجل إعادة بناء هياكله التنظيمية والبحث عن ثغرات تمكنه من النفاذ إلى بعض الدول الأوروبية، فضلاً عما توافره الحرب من سياق مناسب لنشاط العناصر الإرهابية في دول آسيا الوسطى لتهديد أمن روسيا، لافتة إلى إعلان موسكو بعد أيام من بداية الحرب إحباط هجوم إرهابي في مقاطعة “كالوغا” كان منفذه من إحدى دول آسيا الوسطى.
هل تصبح أوكرانيا “حاضنة للإرهاب”؟
وحذر التقرير الـ 14 للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من التهديد الذي يشكله “داعش” للسلام والأمن الدوليين الذي ناقشه مجلس الأمن الشهر الفائت والأخطار الأمنية في شأن المقاتلين العائدين إلى أوروبا، مشيراً إلى محاولة امرأة الهرب من سجن فرنسي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، رغبة منها في العودة لمنطقة النزاع الأساس في سوريا والعراق مجدداً.
وأوصى التقرير الأممي الأحدث بضرورة إبقائهم تحت المراقبة المستمرة، لكن مع اشتعال الحرب في أوكرانيا تجددت التحذيرات من خطورة تحول البلد الأوروبي الذي تمزقه الحرب إلى ملاذ آمن للنشاط الإرهابي في المنطقة التي عانت خلال السنوات الأخيرة هجمات مميتة “للذئاب المنفردة” المنتسبين إلى التنظيم الأكثر وحشية في تاريخ الإرهاب العابر للحدود.
ويقول الباحث المتخصص في شؤون الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة بمركز “تريندز” للبحوث والاستشارات بأبوظبي محمد مختار قنديل، إنه على هامش الحرب الروسية الأوكرانية ثمة حروب أخرى دائرة بين المتطرفين ليس فقط الآن، لكن منذ العام 2015 بعيد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، إذ شكل مسلمون شيشان “ثلاث كتائب إسلامية لمحاربة القوات الروسية ورجال الرئيس الشيشاني رمضان قديروف المؤيدين الذين ينظرون إليهم كأشد أعدائهم، ويصفونهم بأنهم خونة وعار على الأمة الشيشانية، وأنه لا يمكن لأي شيشاني حقيقي أن يقاتل في صفوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، مؤكداً اهتمام التنظيم بمتابعة مجريات الحرب ووصم المقاتلين الشيشان و”سلخهم من مفهوم الجهاد الذي حاولوا الترويج لتبنيه من خلال الدعاية الروسية التي أظهرتهم يقومون بالتكبير والسجود قبل الانطلاق إلى ساحة المعركة”، معتبراً أن دعوة “داعش” للمسلمين في روسيا وأوكرانيا للوقوف على الحياد في هذه المرحلة، هدفها منعهم من التأثر بتلك الدعاية، والانضمام إلى الحرب تحت راية أي من الطرفين.
وأوضح قنديل أن السنوات الماضية أثبتت وجود انجذاب من الروس للانضمام إلى “داعش”، إذ ارتفع عدد الروس في ذروة نشاط التنظيم عام 2015 بنسبة 300 في المئة، ووصل عددهم إلى نحو 2400 إرهابي في مقابل 800 فقط عام 2014، مشيراً إلى أن من أبرز الشخصيات قيصر توكوساشفيلي المعروف باسم “البراء الشيشاني” والذي شغل نائب وزير الحرب بالتنظيم، استقر على بعد 85 كيلومتراً فقط جنوب العاصمة الأوكرانية كييف بقرية بيلا تسيركفا، حتى احتجزته القوات الخاصة بنوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
وفي صيف 2015 حذر تقرير للبرلمان الأوروبي من وجود مقاتلين لـ “داعش” وخلايا أصولية في المناطق المتنازع عليها بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما كشفته آنذاك صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في تحقيق حول وجود “قوة شيشانية من المتطوعين المتعاطفين مع (داعش) في المناطق المتنازع عليها من قبل الانفصاليين الروس والقوات الأوكرانية”، وأشارت التقارير إلى أن السلطات الأوكرانية لم تنكر هذه المعلومات.
من جهة ثانية، زعمت الاستخبارات الروسية الأسبوع الماضي أن “الولايات المتحدة تجمع إرهابيي (داعش) في سوريا لإرسالهم إلى أوكرانيا”، على حد قولها، فيما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي دعا إلى تشكيل فيلق دولي لقتال القوات الغازية، قد وصف الأخيرة “بأنهم يقاتلون على طريقة (داعش)”.
واعتبر الباحث أن الوجود العسكري الروسي في سوريا ومحاربته للمعقل الأساس للتنظيم هناك يعد فرصة للتنظيم لاستغلال الحرب الروسية – الأوكرانية في استنفار العناصر التابعة له من أجل التسلسل إلى روسيا، والإقامة على الحدود الأوكرانية بحثاً عن إقامة فرع أوروبي لـ “داعش”، فضلاً عن “استقطاب العناصر الناقمة على موقف مسلمي الشيشان المتناقض تجاه أطراف الصراع.
كما أنه في حال استمرار الصراع تتوافر فرصة لعناصر التنظيم العائدة لأوكرانيا ولأوروبا للانتقال والتمركز في المنطقة، كما سيمثل العداء لروسيا ونظام قديروف فرصة للتنظيمات ذات التوجه الأممي مثل “داعش” لاستهداف وتجنيد العناصر التي تحمل هذا العداء في وقت يبحث فيه التنظيم عن فرصة لتوسيع نفوذه وإثبات أنه ما زال على قيد الحياة بعد مقتل زعيمه أخيراً”.
لحظة ذهبية لمعقل التنظيم
يعد الهجوم الذي شنه “داعش” الأسبوع الماضي ضد حافلة مبيت عسكرية في بادية تدمر بريف حمص الشرقي في سوريا، الأكبر من نوعه خلال الشهور الأخيرة، ليس فقط من حيث الخسائر التي خلفها، لكنه أيضاً جرى بمشاركة ما بين 10- 12 داعشياً، واستخدام سيارات ودراجات نارية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي أوضح أن الهجوم استغل سوء الأحوال الجوية وغياب غارات الطائرات الروسية التي كانت تكثف ضرباتها قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وقال الباحث المتخصص في شؤون الحركات المسلحة أحمد سلطان لـ “اندبندنت عربية”، إن التنظيم استغل الحرب من الناحية الدعائية من خلال خلاياه العاملة في الاستقطاب والتجنيد والدعاية الإعلامية، من خلال تأكيد سردية التنظيم القائمة على الصدام اللامتناهي بين القوى الغربية وبعضها بعضاً، أما من الناحية العملياتية “فخلايا التنظيم في البادية السورية هي أكثر المستفيدين من هذه الحرب نتيجة انشغال الجانب الروسي بإعادة توجيه أصوله العسكرية في سوريا لمصلحة مجهوده الحربي في أوكرانيا، وعلى سبيل المثال وحدات صائدي الدواعش التي تنضوي تحت مظلة شركة “فاغنر” الروسية بدأت في التوجه للقتال في أوكرانيا، مما سيتيح فرص تعزيز نشاط (داعش) في البادية السورية، وكان آخرها الهجوم الكبير الذي أسقط حصيلة كبيرة من عناصر الجيش في بادية تدمر بريف حمص الشرقي”.
من جهته، يرى الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة مصطفى أمين أن دعوة التنظيم للمسلمين في روسيا وأوكرانيا إلى عدم القتال ضمن الجيشين المتصارعين على الأراضي الأوكرانية، واستنفاره عناصره للمجيء إلى ما يسمى “أرض الخلافة الموعودة” أي معاقل التنظيم الرئيسة في سوريا والعراق التي سيطر عليها حتى تحرير آخر جيب للإرهابيين في قرية الباغوز السورية في مارس (آذار) 2019، تمثل “مسعى واضحاً إلى استغلال الحرب وحال عدم الاستقرار والفوضى وموجات النزوح وحال الرخاوة الأمنية الناتجة من الحرب لاستقطاب مقاتلين أجانب جدد إلى معاقله وتوسيع شبكة خلاياه النشطة”.
وتابع، “احتمال التوظيف لا يزال متوقفاً على مآلات حال الفوضى التي ستخلفها الحرب ومدى امتدادها الزمني، لكن حتى الآن الحاضنة العقائدية غير متوافرة بشكل كبير لتصبح أوكرانيا بؤرة داعشية جديدة، حيث من المرجح أن تكون الحاضنة لمسلمي أوكرانيا وروسيا هي ولاية خراسان التي تضم أفغانستان وباكستان وغيرها، وربما تكون حركة التجنيد المتوقعة وقوداً للتنظيمات التي تحارب الحكومة الباكستانية وحكومة (طالبان) وفي الداخل الروسي ودول وسط آسيا الإسلامية”.
ويؤكد أمين أن الحرب الروسية – الأوكرانية وفرت دفعة معنوية لتنظيم “داعش” من خلال نظره للحرب على أنها “تصفية الخصوم لبعضهم”، وهو ما دفع سريعاً لتناول نظرته للحرب من خلال وسائله الإعلامية، كما أن حال الانشغال الدولي بالحرب ستسهم أيضاً في تخفيف الضغوط والضربات التي يتعرض لها نشاط التنظيم، بخاصة في معقله السوري.