إذا كان لكل أمة «داعشها»… فهذا هو «داعش» التركي حازم الامين
لماذا على تركيا أن تنجو مما لم ينج منه غيرها من دول استثمرت في التطرف؟ فاستعادة التجارب الموازية صارت مملة لشدة بداهتها، من باكستان إلى اليمن إلى سورية. وجميع هذه التجارب يفيد بأن اقتراب دولة من الجماعات الإرهابية سيكون وبالاً عليها في الجولة المقبلة.
تركيا باشرت قبل أشهر تحولاً هائلاً في دورها في الإقليم والعالم، نقلها إلى موقع مختلف تماماً عن الذي كانت تشغله في السنوات الخمس الفائتة، وهو ما يبدو أنه أفقدها مهمة متوهمة كانت مناطة بها، أي تلك التي صورتها مستوعباً بديلاً لطموحات الإسلاميين، وهي طموحات تتفاوت بين كونها حاضنة لجماعات الإخوان المسلمين من كل حدب وصوب، وكونها حلم الخلافة المستعادة والنائمة منذ ألغاها مصطفى كمال أتاتورك في 1924.
تركيا اليوم، بعد اقترابها من موسكو، عادت تركية وأتاتوركية، وإن بدا رجب طيب أردوغان أقل علمانية من سلفه. العلاقة القلقة مع أطراف الإمبراطورية، والتي سعى أحمد داوود أوغلو إلى ضمّها مجدداً إلى الحدود «العاطفية» لتركيا، استأنفت قلقها مجدداً، لا بل ذهبت به إلى حدود العنف.
والحال أن تخبط الموقع التركي بين المزاجين العثماني والأتاتوركي لن يكون بلا ارتدادات داخلية، كما أن الحدود «العاطفية» للإمبراطورية، والتي خطّها حزب العدالة والتنمية، لن تقبل بأن تُسلخ مجدداً عن وجدان الخلافة المستعاد من دون مقاومة.
من هنا تماماً يمكن التأريخ لـ»داعش» التركي. أي من لحظة تخلّي أردوغان عن رعايا الإمبراطورية وتحالفه مع خصمهم الروسي بعدما كان مدّهم بحلمها. ونحن هنا نتحدث عن أشهر قليلة هي تاريخ انعطافة أردوغان، وقبلها كان «داعش» في تركيا حدثاً أمنياً. والانتقال بالحدث من مستواه الأمني إلى مستواه العاطفي لن يتأمن من دون بنية تحتية وفرتها سنوات «الجهاد» الخمس في سورية. فخلال هذه السنوات، جرى غض طرف أمني عن تحول عشرات المدن التركية المحافظة محطات لاستقبال «مجاهدين» قصدوا تركيا من كل بقاع العالم متوجهين إلى سورية. وهذه المهمة اقتضت توافر بيئة مسجدية محلية، احتكت خلال عملها مع خبرات «الجهاد العالمي»، ما أخرجها، على ما يبدو، من عباءة المؤسسة الدينية الرسمية.
تذهب تقديرات إلى أن عدد الذين يحملون الجنسية التركية ممن قاتلوا في سورية يبلغ نحو سبعة آلاف، فيما تشير أرقام شبه رسمية إلى أن عدد العناصر التركية في «داعش» و»جبهة النصرة» اليوم يفوق الثلاثة آلاف، ويبدو أن جزءاً كبيراً منهم من أكراد تركيا.
لكن أتراك «داعش» ليسوا أولئك الذين يحملون الجنسية التركية فقط. فقوميات آسيا الوسطى والصين ملتبسة اللغة والعلاقة مع ما يسمونه «قومية أم». الأيغور الصينيون يتحدثون التركية ويطلقون على مقاطعة شينغيانغ التي يعيشون فيها اسم تركستان الشرقية، وللإيغور تنظيم خاص في «داعش» ومئات منهم يقاتلون في سورية اليوم. يصح الأمر على الأقلية السنية الأذربيجانية، وعلى نحو أقل على قيرغستان وداغستان والشيشان.
وبهذا المعنى، فإن «داعش» التركي مرشّح لمهمات قد تتجاوز المهمة التقليدية للتنظيم الإرهابي، ذاك أن الأول أمكنه أن يستدخل ما لم يكن في الحسبان. فقد عاد بنا الزمن هنا إلى لحظة تخلّي أتاتورك عن مد الجماعات المسلمة على أطراف الإمبراطورية الروسية بحلم العودة إلى حضن الخلافة في «الآستانة». وهنا أيضاً تلوح فعلة سفاح اسطنبول القرقيزي بصفتها تكثيفاً رمزياً احتجاجيا لـ»مسلم روسي» قرر الانتقام من الخليفة الخائب المرتمي في أحضان القيصر. ولشدة وضوح المقارنة تصبح التواريخ بلا معنى. الفعلة كان يمكن أن تقع في مطلع القرن الفائت، تماماً مثلما أمكنها أن تقع في الساعة الأولى من 2017.
وإذا كان «داعش» الأوروبي ثمرة فشل في نظام العلاقة بين الدولة الحديثة ومواطنين فيها، و«داعش» العراقي زواجاً بين البعث وعشائر متصدعة، وإذا كان لكل دولة وأمة داعشها، فإن «داعش» التركي مرشح لأن يتّسع للكثير من الانهيارات، ذاك أننا نتحدث عن تجربة الخلافة المنقضية في مواجهة تحدي «الخلافة» المستيقظة. ومن غير المهم هنا الحديث عن كفاءة «الخليفة»، فهو بالنسبة الى مسلمين ضمهم القيصر الروسي عنوة إلى منطقة نفوذه، مخلّص ومُحررٌ، وهنا تمّحي التواريخ مرة أخرى ويصبح القرن الذي يفصل بينها مجرد فراغٍ تتكرر فيه الوقائع نفسها.
عندما قرر أتاتورك في 1920 حل السلطنة العثمانية، قرر إبقاء الخلافة بصفتها موقعاً دينياً لا سلطة سياسية لها، وأتى بـ«خليفة» ضعيف هو عبدالمجيد، لكن بعد أربع سنوات تنبّه أتاتورك إلى أن الخليفة الضعيف خليفة أيضاً، وأن استقرار السلطة يقتضي خلعه على رغم أنه لا يهددها مباشرة، فخلعه.
يجيد القرقيزي، المهاجم المفترض لنادي رينا في اسطنبول، الروسية كلغة أولى، على ما أفادت التحقيقات الأولية، كما يتحدث القرقيزية بالدرجة الثانية والتركية بالدرجة الثالثة. وهذا التحدر اللغوي صورة عن العلاقة مع مستويات ضائقته المنتجة للعنف وللرغبة الانتقامية كافة. وهو أقام لأيام في مدينة قونيا التركية في ضيافة «مجاهدين أتراك»، وزار عائلات من المهاجرين الإيغور في اسطنبول، وتواجه السلطات التركية صعوبة في البحث عنه نتيجة سهولة تحرك جاليات آسيا الوسطى في البيئة التركية.
كل عناصر هذا المشهد تأمنت في ظل مرحلة انبعاث «الحدود العاطفية للإمبراطورية العثمانية»، والتي أطلقتها حكومة حزب العدالة والتنمية. فتركيا ألغت تأشيرات الدخول لكل الرعايا السابقين، وانخرطت في الأزمة السورية منحازة الى هذا الحلم قبل انحيازها إلى السوريين في مواجهة مضطهدهم. وفي لحظة الذروة، قررت أن تعود تركية وأن تقصر دورها في سورية على مهمة أتاتوركية في الأصل (الخطر الكردي) وأن تتحالف مع روسيا، الدولة التي تربطها بـ»الخلافة» عداوة قرون من الحروب. وكانت هزيمة حلب تتويجاً رمزياً لمسلسل هزائم كان توقف قبل نحو قرن.
رصاصة مولود الطنطاش التي أطلقها على رأس السفير الروسي كانت مؤشراً أول إلى ولادة «داعش» التركي، وانتقاله في تركيا من كونه حدثاً أمنياً إلى قضية داخلية، لكن فعلة القاتل القرقيزي في نادي رينا فتحت احتمالات «داعش» في تركيا على معضلة توازي الخلافتين.