ما بعد الموصِل… انفراط عقد العراق أو انبعاث دولته مريم بن رعد
حسم معركة الموصل لا يضمنُ إنهاءَ العنف الذي يَنهشُ العراق منذ 13 عاماً ولا فتح صفحة جديدة في تاريخِ البلاد. وأيُّ مصيرٍ ستؤولُ إليه الموصل، حينَ نعلَم أنّ مدُناً كالرّمادي والفلوجة آلت إلى الخرابِ بحُكمِ العمليّاتِ العسكريّة الفائتة؟ وماذا سيحلُّ بالعربِ السنَّة، لاسيّما في نينوى؟ وإلى أيِّ مدى نستطيعُ التأكيدَ أن لمسألة الموصِل كلمة الفصل في إنعاش (أو وَأْدِ) الدولةِ العراقيّةِ التي تُعاني من إفلاسٍ هيكليّ؟ ففي غيابِ إدارةٍ، وطنيّة ومحليّة، وفي غيابِ تمثيل سنّيٍّ سياسيٍّ، يبقى الاستقرارُ بعيدَ المنال. ونحو مليون مدنيّ مهدَّدون بالتهجيرِ من جراءِ هذا الحصار، ممّا يُنذِرُ «بحروبٍ أهليّةٍ أخرى، بعد الحربِ الأهليّة».
والموصِلُ في القرنِ العاشر كانت رمزاً لتمازُجِ الهويّات والثقافات العراقيّة. كان الحضورُ الشيعيُّ فيها ضعيفاً دوماً، ممّا عزَّزَ الشعورَ لدى عددٍ من أهلِ المدينةِ أن ثمَّةَ «مؤامرة» تحاكُ ضدّهم في بغداد، بهدف إبادتِهم. كما أنّ التديّنَ السنّي المتشدّدَّ ساهمَ في تَغلْغُل «داعش» في 2014 وتأثير الأيديولوجيّة الأصوليّة لدى الشباب. نرى هنا رَسماً مطابِقاً للّذي تميَّزَت به ديكتاتوريَّةُ البعث، حينَ التحَقَ العديدُ من شبّانِ الأرياف بالتيَّارِ العروبيّ، كرفضٍ للنُّخَبِ المدينيّة وَوَسيلة ثوريَّة للترقّي الاجتماعي.
على مَدى القرون، صارت الموصِلُ مدينةً كُبرى استراتيجيّة، على مَقرُبةٍ من الحدودِ التركيّة والسوريّة، وتحوّلَت في القرون الوسطى إلى مَركزٍ تجاريٍّ مَعروف بالقماش والرخام وبضائعَ أخرى، كما كانت مَعبَراً للقوافل. في بدايةِ القرنِ العشرين، كانت الموصِلُ من الناحيةِ الإثنيّةِ عربيّةً وكُرديّةً وحافظت على هويّة خاصّة بها، بدليلِ لهجةِ سكّانِها (التي تثيرُ سخرية العراقيّين). واتَّسمَت إدارتُها بلمسةٍ «عثمانيّة» تطوّرت إلى قوميَّةٍ عربيّة. وكان للقوميَّةِ العربيَّةِ وقعٌ قَويّ خلال ثورة 1959 التي قادَها الكولونيل عبد الوهاب الشوّاف، حين تعرّضَت الموصِل لقمع شديد الدمويّة على يد الجمهوريّة العراقيّة الناشئة والمقرَّبة آنذاك من الشيوعيّين.
حافظ المجتمعُ المحلّي على ذكرى هذه الأحداثِ التي تحوّلَ تفاديها إلى هاجس، فابتَعدَ أهلُ الموصِل عن الدولة، تفادياً لأيّة مُواجَهة. قد تساعِدُ تلك الكثافةُ الزمنيَّةُ في فهم الأسباب التي تكمنُ في عدمِ انتفاضةِ الموصِل ضدَ «داعش»، بخاصّة ضدَّ المقاتِلين الأجانبِ غيرِ المحبَّذين فيها. كما أنّها تُلقي الضَّوْءَ على تحفُّظِ العديدِ من أهلِ المدينةِ على تَركِ مدينتِهم في 2014، بعد أن تخلّصوا من جيشٍ عراقيٍّ شيعيّ التركيبة كان بمثابةِ جيشِ احتلال يعملُ لحساب بغداد. هذا ويُندِّدُ سكّانُ الموصلِ بالهمجيّة الجهاديّة، والتي يعزونها في معظمِ الوقتِ إلى النظامِ السابق. قياساً على هذا الموقف القَدَريّ، ليس متوقَّعاً أن يُدافعَ مدنيّو الموصِل لا عن تنظيم «الدولة» الإسلاميَّةِ ولا عن القوّاتِ الكرديَّةِ أو الشيعيّة، والتي يخشى السكان ممارساتها الثأريّة.
إلّا أنّ معركةَ الموصِل ستكونُ مؤلمة، وهذا بمعزل عن التنبّؤاتِ القصيرة المدى. فلا أحدَ يَعرفُ كيفَ وبأيّةِ قوّةٍ سيُقاوِمُ «داعش» في عقر دارِه، ولذلك فمن التهوُّرِ الحديثُ عن جدولٍ زمنيّ. تفيدُ مصادرُ عراقيّةٌ وأميركيّة بأنّ جزءاً من القيادةِ العامّة قد انسحبَ من المدينة، وتركَها للوَحداتِ الأكثر شراسة، والتي تتكوّن من 5 آلاف رجلٍ وفقاً لتقديرات البنتاغون، جُّلهم عراقيّون، وشيشان، وتركمان. وتُصرُّ بغداد على نيّتِها القضاء على التوجُّه الإرهابيِّ، وتطلُب من مدنيّي الموصِل التعاملِ مع القوّات الحكومية، وتعدُهم «بإنقاذِهم من الظلْم والطُّغيان». وفي تلكَ الوعود تحولٌ يُثيرُ السخرية لمن يتذكّرُ حَصيلةَ سياسةِ رئيسِ الوزراءِ السابقِ نوري المالكي. وساهمت ممارساتُ هذا الأخير، 2011 و2013، بدفع الموصِل في أحضانِ «داعش» وإدارتِه الثوريّة (مقاوَمة الفساد، هيكَلَة الإدارة، تغطِية حاجاتِ السكّان الأوّليّة)… لم يتمّ القضاءُ على البطالةِ في الموصل، ولا على التهريب، كما أنّ «العقد الاجتماعيَّ» بينَ المتمرِّدين والسكّان تقلَّص.
أدّى انقطاع الموصل عن العالم الخارجيّ وحملة «داعش» الدعائيّة، إلى إغفالِ تدهور ظروفِ حياة السكاّن، والضعف البنيويِّ لمشروعِ البغدادي والذي يُعتبَرُ تحريفاً للإسلام السنّيِّ التقليديّ. والمأساةُ بيّنَةٌ بالنسبة لمئاتِ الألوف من أهالي الموصِل الذين يُحاوِلون الهرَب. والأمرُّ من ذلك هو عجز بغداد وأربيل والبلدان المجاوِرة عن التعامل مع قوافلِ اللاجئين التي تُسفِرُ عنها تلكَ الأزمةُ. إذ إنّ شيئاً لن ينجمَ عن «عودة» الجيشِ إلى الموصل إنْ لم تُرفقْ بتحسّن ملحوظ في الحياة اليوميّة: فمَطالبُ المدنيّين الذين طال عذابُهم لم تتغيّرْ منذ 2014. واقعُ الأمرِ أنّ النُّخبَ عاجزةٌ عن الإجابةِ على هذه المطالب، وأن قلّةً قليلةً من اللاجئين والنازِحين حَظوا بإعادة الإعمارِ الذين طالما وُعِدوا بها، وأنَّه من الصعبِ عليهم إعادةُ السكّان إلى أماكنَ شوّهَتها الحرب.
بغضِّ النظرِ عن الوضعِ الحاليّ، تُعاني الموصل من ضياعٍ في المرجعيّة السياسيّة، ويُشكِّلُ هذا التيهُ صدى مُباشَراً لوضعِ العرب السنَّة في العراق، والذين حُرِموا من كلِّ تمثيلٍ سياسيٍّ منذُ سقوطِ نِظام صدّام حسين في 2003. ولكنّ التمثيلَ السياسيّ الغائبَ وحدَه قادرٌ على إعادةِ هذه الفئةِ من السكّان إلى اللّعبةِ السياسيّةِ الوطنيّةِ وتحقيقِ الاستقرارِ في المناطق التي تخرجُ عن سيطرةِ «داعش». من المُلفِت للنظر أنّ النقاشات حولَ العراق لا تزالُ تتجاهَل مجموعةً من المسائل التاريخيّة التي تُشكِّل محطّاتٍ نقديّةً غايةً في الضرورة. فعلى غرارِ ما حدثَ بُعَيد الحربِ العالميّة الأولى، حين تَنازع على الموصِل الفرنسيّون والبريطانيّون، يبدو وكأن مصيرَ المدينةِ المستقبليّ يُنذِر بآليّة تؤدّي إمّا لإعادةِ ولادة، أو لانحلالِ دولةِ العراق الحديثة. وهل ستتمكّن بغداد، وهي تحتَ سيطرةِ الميليشيات الشيعيّة منذ 2003، من إعادةِ الوصلِ مع الموصل المقطوعةِ عن سائر البلادِ منذ أكثر من سنتين، والتي قلّما تُحبِّذُ تدخُّلات المركز؟ هل ستُكتبُ حياةٌ أخرى للعنفِ الطائفيِّ الذي يدعو له «داعش» ويَحولُ دونَ أيّةِ مصالحةٍ عراقيّة؟ هل يجب أن نخشى أن يؤدّي تفكُّك المُكوِّن السنّيّ إلى هاوِية سياسيّة ستجعل من الموصل ومدن أخرى أراضيَ غير قابلة للإدارة على المدى البعيد؟