فارس كمال نظمي يكتب : وَهْمُ الحصانة والموجة الثورية القادمة!
إذا اتفقنا أن عموم المجتمعات البشرية (الحاكمون والمحكومين) قابلة للتعلم من تجاربها وخبراتها وإخفاقاتها بدرجة معينة عبر التاريخ، فإن السلوك السياسي لأنظمة الحكم المغلقة لا يخضع لهذه القاعدة بالضرورة.
وأكثر من ذلك، إن هذا النمط من الأنظمة اعتاد أن يغلّف نفسه بأوهام رغبوية تستبدل الوقائع بالتمنيات، تتيح له أن يتعامل مع أزماته المستعصية على نحوٍ تنفيسي ذاتوي مؤقت، دون أن يستطيع المساس بالجوهر الجدلي لهذه الأزمات التي تمارس وظيفتها الموضوعية في دفع حركة التاريخ الاجتماعي إلى الأمام بالمعنى العقلاني التطوري مع ما يرافقها من آلام الولادات الجديدة.
.
وواحد من أكثر هذه الأوهام فاعلية في تسبيب حالة الخدر السياسي التي تعيشها هذه الأنظمة، هو ما يدعى بـ”وهم الحصانة” Illusion of Invulnerability، إذ يغدو العقل السياسي للمنظومة قدرياً حد الاعتقاد المتكلس أن ثمة “ترتيباً” باطنياً في جوهر الأحداث يمنع التغيير الجذري (أي سقوط النظام)؛ بل يذهب للاعتقاد أن ثمة “مناعة” أو “حصانة” مؤكدة تحول دون إحداث انقلاب جذري في موازين السلطة.
ويشتد هذا الوهم في أوضاع الانتكاسات الثورية بسبب حالة الانكفاء الإحباطي وما تنتجه من دفاعات تجنبية لا شعورية، حينما “تنجح” قوى الثورة المضادة في إيقاف المد الاحتجاجي لفترة معينة عبر قمعه وتأثيمه وشيطنته وتشتيته واختراقه. وعندها تستعيد المنظومة السياسية جزءاً من “ثقتها” بنفسها وبهيمنتها الثقافية الآفلة، فتحقن نفسها بجرعة اعتناق إضافية لوَهْمِ القدرة على التحكم بالأحداث ما دامت (أي الأحداث) قد “أثبتت” حصانة المنظومة واستعصائها على الانهيار.
.
واليوم بعد مرور ما يقارب 16 شهراً على لحظة انطلاق الحراك الثوري التشريني في العراق ثم خفوته، يتضح الخدر السياسي بأعلى درجاته لدى قوى السلطة وأذرعها داخل الدولة وخارجها، بما فيها الحكومة الحالية التي انقضى 8 شهور على وجودها في الحكم. ويستطيع المراقب المحايد أن يقرأ هذا الخدر الاسترخائي في ملامح قادة التيارات والأحزاب السياسية الحاكمة بالمقارنة مع تجهمهم في مرحلة ما بعد تشرين مباشرة، فضلاً عن ملامح رئيس الوزراء التي انبسطت أخيراً بعد تشنجات ومخاوف وحيرة اكتست وجهه لشهور حينما أعلن وقتها أنه “الشهيد” الحي، لتتحول اليوم إلى ابتسامة ارتياح ناعمة – لا تكاد تُرى- ما عادت تبارحه تقريباً في كل الظروف والمناسبات.
.
إنه وَهْمُ الحصانة يضرب بقوة في أذهان أقطاب العملية السياسية الفاشلة (بما فيها الذهن الحكومي المتخاذل والغارق في استبدال الأفعال الملموسة بالأقوال الإنشائية الفارغة)، ليترك لديهم تشوهات تخديرية إدراكية عميقة تمدّهم بـ”نعمة” الإنكار لكل عوامل التغيير المتفاعلة جذرياً في مرجل الزمن الاجتماعي. فتراهم على شاشات التلفاز وفي المؤتمرات الصحفية وفي تغريداتهم المرتبكة وهم يحدقون – كخيار بليد وحيد- بساعة الزمن الفيزيائي بحثاً عن تمديدٍ أو تأجيلٍ لموعد انتخابات مبكرة ستشكّل في حال فشلها –المتوقع جداً- نقلة جديدة نحو بزوغ وعي احتجاجي أشد جذرية وتمسكاً بالتغيير مما سبقه.
.
هذا الخدر السياسي وما أنتجه من وهم الحصانة، لم يقتصر على النخب السياسية الحاكمة، بل اجتاح أيضاَ – بنسبة معينة- عقول بعض الشباب المحتجين وبعض المثقفين وبعض العاملين في الحقل البحثي أو في الميدان السياسي المعارض، إذ صار شعارهم العملي أو التنظيري يتركز حول الترويج لفكرة “استثمار” اللحظة الآنية “واقعياً” أو “دستورياً” ما دامت السلطة قادرة على إعادة إنتاج “حصانتها” في كل الظروف، متجاهلين –سيكولوجياً وأخلاقياً- حالة الانتقال الثوري التي يمر بها التاريخ السياسي العراقي من القديم المحتضر إلى الجديد المستعصي على للولادة.
.
أتساءلُ ويتساءل مثلي كثيرون من العاملين في حقل الدراسات الاجتماعية ومن عامة الناس: هل توجد فعلاً “حصانة” أو “مناعة” للنظام السياسي الحالي أمام قوى التغيير البازغة تراكمياً على نحو تدريجي تارة وعلى نحو مباغت تارة أخرى؟ أم أن هذه الحصانة ليست أكثر من تفكير رغبوي توهمي يصيب أجزاءً من المجتمع السياسي (بشقيه السلطوي والمعارض)، في مرحلة انتقالية عسيرة ومحيّرة ومؤلمة بين حراك ثوري لم يكتمل وبين موجة ثورية قادمة؟!