هَلوسة « فرق الجهاد» وخطاب مسؤولية « الجميع»! هيفاء زنكنة
من الشائع، في عالم السياسة، حين يتورط حزب أو مسؤول في ارتكاب جريمة، القول إن التاريخ سيكون الحكم. التاريخ، في هذه الحالة، هو المستقبل البعيد حين تنتفي المسؤولية وبالتالي المقاضاة والعقاب، في غياب المسؤول والضحية معا.
ولعل هذا ما كان يتوخاه ساسة وقادة أحزاب « العراق الجديد» حين كانوا، في سنوات الاحتلال الأولى، يرمون بالمسؤولية على كتفي التاريخ، ولا يجدون حرجا في الاعتراف، محليا، بجرائم، بالإمكان توصيفها فيما لو كان هناك نظام قضائي نزيه، بأنها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. إلا إن الأعوام الأخيرة، شهدت تغيرا في اعترافهم بالجرائم، اذ ما عادت الاعترافات أو حجج ارتكاب الجرائم، علنا، أمام ملايين الناس، تقتصر على الجمهور العراقي بل امتدت إلى خارج العراق، وتقديمها باعتبارها « تحملا للمسؤولية « و « نقدا موضوعيا لمرحلة ماضية» و « نضجا لبناء مستقبل أفضل للعراق»، و « ضرورة في مكافحة الإرهاب».
يأتي التوسع في إطلاق هكذا تصريحات مع تزايد ثروة الساسة وقدرتهم على شراء صمت القضاء المحلي الفاسد، والحصول على الدعم الدولي من خلال توقيع صفقات شراء الأسلحة وبيع النفط تهريبا. ففي مقابلة، أجراها الصحافي المخضرم سلام مسافر، يوم 23 من الشهر الحالي، لقناة «روسيا اليوم»، أعترف فالح الفياض، مستشار الأمن الوطني ورئيس هيئة الحشد الشعبي، قائلا « جميعنا يتحمل المسؤولية عن نكسة الموصل والاعتراف واجب»، جوابا على سؤال طرحه سلام عن الخطوات التي تم اتخاذها بعد أن أصدر مجلس النواب تقريره عن مسؤولية ما حدث في الموصل، في حزيران 2014، حين هربت القوات الحكومية أمام مقاتلي تنظيم « الدولة الإسلامية»، وما سببه من كارثة إنسانية يدفع المدنيون ثمنها، يوميا، وعن الإجراءات التي تم اتخاذها إزاء المسؤولين الذين شَخصهم التحقيق وبالتحديد مسؤولية نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، باعتباره القائد للقوات المسلحة. فجاء جواب الفياض، ليُحمل «جميعنا» المسؤولية. مما يعني، قانونيا، أن لا أحد يتحمل المسؤولية. تَطلب أبعاد التهمة عن المالكي، وغيره من المسؤولين، اخفاء المسؤولية في ملف يتحكم به ذات المسؤولين عن الجريمة. مما يطرح سؤالا مبدئيا مفاده: من هم « جميعنا»؟ هل تشمل نون الجماعة الشعب، أيضا، وهو الذي لم يُمنح فرصة للتنفس والعيش بكرامة منذ أن جثم الغزاة و دعاة « العراق الجديد» على صدره؟ وكيف ستتم محاسبة « جميعنا»؟ ومن الذي سيقوم بذلك»؟
أن إلقاء نظرة سريعة على الواقع العراقي بخرابه، بدءا من خراب البنية التحتية إلى المجتمعية، ومن حالة التفتت الطائفي إلى نزوح وهجرة الملايين قسرا، تبين بوضوح وبالدلائل المثبتة قانونيا، في جميع دول العالم، إن المسؤولية، بعد وضع جريمة الغزو والاحتلال في القانون الدولي جانبا، هي مسؤولية الحكومة ومجلس النواب والجهاز القضائي. ومن البديهي، في حالات الحروب، أن يتحمل القائد العام للقوات المسلحة المسؤولية كلها ولم يحدث وتم تحميل « الجميع» المسؤولية.
إزاء تصريح الفياض، وهو نموذج لتصريحات من ينشطون تحت قيادته ويسميهم « فرق الجهاد»، أي المليشيات المرتكبة لجرائم حرب موثقة من قبل منظمات حقوقية دولية، القائل أحدهم، منذ فترة، «سنقاتل حتى ظهور المهدي»، وإن الهدف من تحرير الموصل هو «الانتقام والثأر لقتلة الحسين»، وبناء على الأجوبة التي أطلقها الفياض مثل سيل مائي، في المقابلة، وكمحاولة لفهم سمة «فهلوية» باتت مألوفة، وهي الوجه الثاني لعملة الإرهاب الداعشي، أجدني أمام انطباعين: الأول هو أن مسؤولي «فرق الجهاد»، خاصة، قد تفوقوا حتى على أنفسهم، في الكذب والتضليل وتزييف الحقائق، بحيث أصبحوا يصدقون أنفسهم أكثر مما يصدقهم الآخرون، أيا كانوا. وأن الهوة بينهم وبين الشعب باتت كبيرة إلى حد لم يعد فيه الشعب قادرا على فهمهم إلا من خلال تفسيرات قد تبدو خيالية. مما يقودنا إلى الانطباع الثاني، وهو الشائع كنتاج للمخيال الشعبي الذي يصوغ ما يريد أما استنادا إلى حلم بواقع أو هربا من واقع.
يشكل كلاهما محاولة لمواجهة انحرافات فكرية دخيلة، وغزو سياسي، وعسكري، وثقافي. يصف المخيال الشعبي تصريحات المسؤولين و» فرق الجهاد» أي ميليشيا الحشد، بأنها هلوسة « الترياق» أو الهيروين، الذي تربوا على تعاطيه أثناء وجودهم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي آفة منتشرة وتعاني منها إيران إلى حد كبير. يجد المخيال الشعبي في سردية الإدمان على الترياق تبريرا لانتفاخ وجوه قادة الميليشيات، وعيونهم التي يجدون صعوبة في فتحها، والحلقات الداكنة تحت العيون، ويُعتبر هادي العامري، قائد ميليشيا بدر التي تأسست بإيران، النموذج المُجسد لصورة المُدمن المُهلوس في المخيال الشعبي.
بعيدا عن هذه الصورة، التي لا اتفق معها لسبب قانوني وأخلاقي، إذ يوفر إدمان المخدرات امكانية التقليل من حجم الجرائم وتبرئة المسؤول من المسؤولية وقد تعادل تبرير البعض بأن ما ارتكبوه من جرائم تم تنفيذا للأوامر فقط، يقلل قائد « فرق الجهاد» من كون زحف « الجهاديين» إلى سوريا أو غيرها من الدول، تدخلا إرهابيا، مهما كانت تبريراته، دفاعا عن المراقد الدينية أو مكافحة الإرهاب، أي ما يوازي ادعاءات داعش، باعتبار ان الكثيرين، من جميع أنحاء العالم، يشاركون في القتال في سوريا، مثلا، فلم يستثن مقاتلو الحشد الشعبي من ذلك؟
أن حملة تزييف الحقائق وتغييب الوعي التي ينسجها قادة « جهاديو» الميليشيات، بذريعة « إسلام مذهبي سياسي» لولاية الفقيه، بلا ولاء وطني، لا يقل كارثية عن «عيون حور» تنظيم الدولة الإسلامية وتمددها بذريعة « أسلام سياسي مذهبي» آخر. ولا يمكن للخسارة الفادحة التي يعيشها أهل العراق، منذ غزوه، والممتدة إلى الدول المجاورة، أن تُرمى في سلة مهملات « التاريخ» أو « جميعنا». وإذا كان التاريخ العراقي قد علمنا شيئا فهو أن الحاضر لا يرحم.