محمد صالح البدراني يكتب :الصعود الى الحضيض
حين تستوي فاعلية الفهم عند العامة والنخبة من الرواحل، وحين تعيش العقول جوف صناعتها في عالم الأفكار لا في المُشخَّص من الواقع المُدرَك، فإنها ستكون كأمنيات لا مسارات نحو النهضة؛ عندها فإنَّ الأمة مازالت عن طريق النهضة بشوط بعيد.. فالمسألة ليست فرصة تحقيق الأمنيات، وليست فرصة تمكنني من الجهر بنوايا الإحباط التي أصرَرْتُ على وجودي فيها دون تمحيص أو مراجعة، لكن الفرصة هي أنْ أتيقَّظ وأجد الدرب الملائم لتصحيح المسار نحو نهضة الأمة وليس سيادة أفكار اعتنقتها ولم أتكلّف يومًا بمراجعتها, وإنما عشت دور المكبوت المكابر, أو المؤمل من الدبابير أن تضع عسلاً في فم امتلئ مرارة من غبار صفحات الزمن, وهو يقلبها مستسلمًا سلبيًّا تارة, طامحًا لذاته تارة, كطرق على أبواب اليأس!
أعجب من الذي يحدث في بلدان ثارت على الظلم عند حكامها, بيد أنها لم تثر على أنفسها والظلم الذي فيها.. أعجب حين تسيطر الأمنيات والرغبات على أناس يُفترض أنهم رواحل وأنهم قادة، ويسيرون بعقلية الغوغاء دون التمهل، أو تجد من يقف على الأطلال يتحدث عن الغابر من أمجاد، ولأنه أوقف عقله بسيادة غرائزه؛ لا يرى الأفق ولا يدعه للناظرين. هياج المخاوف ومسيرة أشباح بلا هوادة.
لكن يا أخوتي لست بعجبي مبهوتًا، ولا أقول مبالغًا أنَّ هنالك من يستغل هذه العقول لإحداث حراك مضاد, ولا أقول ثورة مضادة، فالباطل دومًا متعجل لا يملك وقتًا للتوقف من غير أن يستأنف التخريب.
رأينا الحراك ورأينا المخرجات، ومازالت حقوقنا تقدم تحلية في مضايفنا مع قهوتنا المرة كدنيانا, وما زلنا لا نرى أن جذورنا من تنتج شجرة الحرية, بل نبحث عنها مستوردة او معلبة خارج تاريخ الصلاحية، بل نحاول قطع قمتها النامية التي لم تكد تخرج رأسها من التراب.
ومازال النفاق يقطع الطرق المودية الى الحقوق ومازال الدكتاتور يتحدث عن الديمقراطية ويصفق له الناس، ومازال فرعون يرينا ما يرى ويظن أنه يهدينا سبيل الرشاد!
وما انفك النفاق يسمى لحمة، وما انفك التآمر على النهضة يسمى مؤتمرًا جامعًا، ومازال الشعب سيدًا في خطابات المستبدين، لكنهم يستعبدونه فعلاً بل يلحون في استعباده، ومازالت أنهار الدم وصرخات القلوب المكلومة، وما زالت سجون البغي بعيدة عن عين الرقيب. وما زال إعلامنا لم يعترف بأنه السلطة الرابعة, بل هو الذيل العتيد، وما زال استغناؤنا عن القدوة الموجهة للنهضة, وما زالت مواصلتنا التقليد في برامج الفضائيات بالفنون ونبحث عن معبودنا في تضييع الفن والاستهتار المعيب.
بلداننا لم تعد تنسب لأبطالها بل لها نسب جديد، نجمّل فزاعات تطرد النهضة ونجد عالمنا ومفكرنا شخص مريب.
وتسابقت الأهداف الهادئة مع الرغبات المندفعة نحو هاوية الهوى والتي لا ترى في الحياة إلا غرائزها وحاجاتها, ومع الناس التي امتطت الأفكار للوصول إلى رغباتها وسد نواقص الفهم القديم, وما انفكت لا تفهم الجديد، ويحتج البعض على هوية أمة يزعم ريادتها مستمرًا بإرهاصات كوابيسه ويظن أنه يحقق الأمجاد بانكسارات جديدة, وينادي بالحرية وهو لا يرى في رقبته سوار العبيد, هو هبوط يهدف القمة.
أما آن الأوان أن ينتبه الواعون فلا يطلقون العنان لأحلام اليقظة ويعيشون فيها، وأن يرتقوا بفهمهم ولا يتغافلوا عن إشارة أو لمحة صغيرة، فلم يعد لطيف الظن عشق، ولا بديلاً عن السير بتخطيط لا يجاري دولابًا منفلتًا يهرب إلى غير هدى, أو على توقعات ما يرضي الآخرين.
إنَّما النصر بالفهم السديد، ووحدة الأسس جامعة وللمسار تسديد، ولندع التفاصيل تعتق, فإن كانت زهورًا فغيرها نابت, وإن كانت مخاوف يبددها الفعل الرشيد, فالشعب لا يبحث اليوم مشاريع تسقيط، بل يريد خططا واعية لإعمار جديد.