الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف خالد الحروب
ربما سيؤرخ للعام الجديد 2017 بكونه افتتح حقبة عالمية جديدة من الصراعات الجديدة والمخيفة، واستقطاباً من نوع مخلتف: الداعشيات الدينية مقابل الداعشيات القومية الغربية. يأتي هذا الاستقطاب نتيجة طبيعية لتدهور السياسة الغربية خلال العقود القليلة الماضية وتفاقم العنصرية في الغرب من جهة، وتكرس الاستبداد الشرق أوسطي والصعود المتنامي للأصوليات الدينية المتطرفة. في جانب السياسات الغربية فقد تواصل غض الطرف عن إسرائيل بكونها أحد جذور العنف والصراع في المنطقة وتواصل إهمال فلسطين والفلسطينيين والظلم التاريخي الواقع عليهم. كما تواصلت الحروب الغربية المدمرة في المنطقة وأهمها العراق (وليس بعيداً منها أفغانستان) بما فرخ منظمات أصولية عدمية في ردود أفعالها.
إلى جانب ذلك كانت تحالفات تلك السياسات مع استبدادات محلية خانقة عمقت من العنف المختزن الذي كان ينفجر بجنون في كل فرصة تسنح له. تلك الاستبدادات، أنهكت بلدانها وشعوبها وهمشت وغربت الغالبيات التي أطيحت الفرصة شبه الوحيدة التي تهيأت لها في ما بدا ربيعاً عربياً قد يفتح مستقبلات جديدة للبلدان وأجيالها الشابة. خدم ذلك الإنهاك الذي عزز الإحباط واليأس حركات الأصولية الدينية وتحالف مع الضغوط الخارجية الغربية وتدخلاتها لتنتج داعشيات محلية ومستوردة مدمرة.
نطاق التدمير الذي اشتغلت عليه هذه الداعشيات منذ بروز القاعدة ووصولاً إلى «دولة الرقة» وتجاوز المنطقة اتسع جغرافياً وصار يضرب في كل مكان في العالم يمكن ان يصل إليه، وبخاصة اوروبا والولايات المتحدة. وتمكنت الداعشية الإسلاموية العابرة للحدود من استثارة العداء والكراهية للعرب والإسلام والمسلمين في طول العالم وعرضه، وساهمت في تسريع قيام القطب الداعشي الغربي المتمثل اليوم في تصاعد القوميات المتشددة في قلب «العالم الحر» والعالم غير الحر! ولم يشهد هذان العالمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشيات الألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية، عودة سريعة ومذهلة للقوميات المتشددة، والعنصرية احياناً، كما يشهدها الآن. فالمسرح العالمي اليوم مزدحم بحملة ألوية القوميات من كل لون وإثنية: دونالد ترامب يقود سياسة قومية لم يكن لها مثيل في الولايات المتحدة، وبوتين مهووس بالمجد والتاريخ الروسي وقوميته التي يرى انها أُذلت مع انهيار الاتحاد السوفياتي ويريد ان يبعثها لتكون الأقوى في العالم، واليمين الأوروبي بمختلف تلاوينه من بريطانيا التي نجح يمينها في استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، إلى فرنسا التي تنحصر المنافسة في الانتخابات المقبلة بين اليمين ويمين اليمين، إلى أيطاليا والنمسا وهولندا التي تتآكل رقعة تعدديتها الثقافية تحت مطارق حزب «من اجل الحرية» اليميني المعادي للأجانب والذي تتسع شعبيته وقوته.
في أوروبا الشرقية الوضع أسوأ بكثير حيث تتصدر السياسة أحزاب شعبوية ذات شوفينيات قومية من هنغاريا وسلوفاكيا إلى بولندا وجمهورية التشيك. في الصين أيضاً تشير دراسات وتحليلات عدة إلى الهوس بالقومية الصينية والهوية يصل إلى مراحل غير مسبوقة ايضاً. وهذه الظاهرة المعولمة لتصاعد القوميات المتشددة لا يمكن بطبيعة الحال رؤيتها حصراً كرد فعل على الداعشيات الإسلاموية، ذلك ان هناك اسباباً محلية عدة اخرى مثل الأزمات المالية والتدهور الاقتصادي وازدياد معدلات البطالة والإنغلاق الثقافي والخشية على الهوية والخوف من زيادة معدلات المهاجرين. لكن المهم هنا هو ان «قطباً داعشياً قومياً» ليس بعيداً من الفاشية يتشكل بتسارع في أوروبا وأميركا والعالم. يتوزع هذا القطب الداعشي القومي بين احزاب مسيطرة على الحكومات او احزاب معارضة قوية تسير بقوة وثبات نحو السيطرة على مقاليد الحكم في بلدانها.
في الشرق الأوسط هناك ثلاثة داعشيات تتنافس على تدمير المشهد الإقليمي: الداعشية الإسرائيلية بجحافل تيارات وأحزاب المستوطنين المتطرفين ينهلون من رؤية دينية استئصالية والذين يسيطرون عملياً في شكل مباشر على السياسة الرسمية للدولة العبرية، والداعشية السنية ومنظماتها المتطرفة التي تنهل من رؤية مناظرة وتدمر مجتمعاتها قبل ان تصل إلى الآخرين، والداعشية الإيرانية الشيعية التي تدمر دولاً عدة في المنطقة وتفاخر بأنها حرّرت العراق وسورية وتريد ان تحرر اليمن والبحرين (ولا احد يعرف مِمَن تحرر هذه البلدان)، بينما للمفارقة الكبرى لا تعلن انها بصدد تحرير القدس التي يخوض الجيش المسمى بإسمها معارك في كل الاتجاهات ما عدا اتجاه القدس! تفترق هذه الداعشيات وتختلف في اكثر من سمة اهمها ان الإسرائيلية والإيرانية تقودهما السياسة الرسمية للدولتين، بينما تلك الداعشية السنية تقودها تنظيمات وحركات خارجة عن القانون وعدمية ومحاربة من معظم ان لم نقل كل الدول السنية.
تتبادل الداعشيات المخلتفة اليوم، كما ستواصل الفعل ذاته في المرحلة المقبلة المظلمة، الخدمات والتحالفات وتقديم المسوغات لتسعير تطرفها الخاص بها، وكل منها تستخدم ما تقوم به الأخريات كمبرر لحشد الأنصار ونشر الخوف الشعبوي وإثارة مناخ الحرب والكراهية. وآلية تخليق الكراهيات المتبادلة هي السمة «المعولمة» الأهم التي تجمع الداعشيات مع بعضها بعضاً. ولنا ان نتأمل بعضاً من السيرورة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة: فمن دون اشتغال داعش المحلي وتفاهاته وإجرامه في خدمة الحملة الانتخابية لدونالد ترامب لما حلم رجل اعمال يتصف برعونة مذهلة بأن يصل إلى الرئاسة الأميركية. ومن دون سيل الخطابات والسياسات العنصرية التي ظلت تنهال بالأمس واليوم من امثال ترامب في الولايات المتحدة وأوروبا لما اشتد عود داعش وأمثاله.
ليس جديداً القول إن التطرف يغذي التطرف ويقحم الجميع في حلقة مفزعة ومدمرة من العنف والدم الذي لا ينتهي إلا بالدمار الشامل للجميع، وأولهم الغالبيات الساحقة التي تقف تتفرج على المشهد الفجائعي وكأنه لا يعنيها، قبل أن يأتي عليها وينهيها. التفجيرات الإرهابية والجبانة فعلاً التي يقوم بها أفراد لا يعرفون هدفاً لحياتهم وينسبون انفسهم إلى داعش تدغدغ وجدان أرباب التعصب الأميركي والأوروبي، لأنها توفر لهم العتاد اللازم لتعميق خطاباتهم وشعاراتهم وبرامجهم المتأسسة على العنصرية. وكلما زادت هذه العنصرية الغربية وتعبيراتها الشوفينية والقومية فإنها تخدم الشعارات والخطابات الإسلاموية المتطرفة، سواء كانت داعشية ام قريبة منها. ومع استمرار القصف المتطرف من الجانبين المتطرفين ينجح كلاهما في جذب شرائح جديدة إلى معسكره، سواء مشاركة، ام موقفاً، ام حتى تأييداً صامتاً. يحصل ذلك على حساب الغالبية التي تقف في الوسط بين معسكرات التطرف ولا تؤمن بنظرية «نحن وهم»، «معنا او ضدنا»، او «الفسطاطين». خطاب جورج بوش الابن إبان حربه على افغانستان ثم العراق والمتمأسس على «معنا او ضدنا» هو ذاته خطاب اسامة بن لادن الذي كان يصرخ على المسلمين بأن يصطفوا معه في فسطاط الحق ضد فسطاط الباطل. ليس هناك حل وسط لا لجورج بوش ولا لأسامة بن لادن ولا لترامب ولا للبغدادي. ترامب وداعش اليوم هم حملة الإرث الدموي المدمر لبوش الابن وبن لادن، بعد خراب مستديم امتد لعقد ونصف عقد من السنين. طوال ذلك الوقت والمنطقة الوسطى الرمادية للغالبيات في الشرق وفي الغرب تتعرض لهجمات متواصلة من الداعشية الإسلاموية والداعشية الغربية، كما ستواصلان الانكماش في السنوات المقبلة. تنجح الداعشيات في تخصيب مجتمعاتها بخطابات الكراهية والتطرف والحسم بين الأبيض والأسود. بالنسبة إلى الداعشيات الدينية والغربية يعتبر مجرد الوقوف في المنطقة الوسط جريمة وخيانة.